خطاب المرحلة (108)... المسيرات الراجلة ظاهرة حضارية
المسيرات الراجلة ظاهرة حضارية([1])
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا التفتنا إلى أمرين علمنا أهمية سير المؤمنين مشياً على الأقدام إلى كربلاء وسائر المشاهد المقدسة خصوصاً في زيارة الأربعين:
الأول: أن السير على الأقدام من أجل تحقيق مطلب معيّن أو إلفات النظر إلى قضية معينة وسيلة حضارية اتخذتها الأمم وفرضت بها إرادتها.
وهناك شواهد عديدة من التأريخ القديم والجديد ففي السنة السادسة للهجرة خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بألف وبضع مئات من أصحابه يريد مكة لأداء العمرة بمسيرة سلمية فلما علم مشركو قريش بذلك أسقط ما في أيديهم ولم يستطيعوا قتالهم وأوقعوهم في حرج شديد لئلا تقول العرب أنهم قتلوا ناساً عزّلاً من السلاح جاؤوا قاصدين البيت الحرام، واضطروا للصلح مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديبية وعدّه الله تبارك وتعالى فتحاً مبيناً في سورة الفتح.
ومن التأريخ الحديث ثورة الملح والمسيرة التي قادها غاندي وأنهى على أثرها الاحتلال البريطاني للهند.
والمسيرات المليونية التي أسقطت شاه إيران ولم يكن المتظاهرون يقابلون النار التي يطلقها جلاوزة الشاه إلا بالورود حتى خجل الجيش من نفسه وانسحب من المواجهة تاركاً الشاه وجلاوزته فانتصرت الثورة الإسلامية في إيران.
وبعد سنين من المقاومة اللبنانية التي قادها حزب الله لإنهاء الاحتلال الصهيوني قرر الصهاينة الانسحاب وحددوا لذلك موعداً لكنهم اضطروا للانسحاب بذلّة وبإرباك وفوضى قبل الموعد([2]) حينما قرر أهالي القرى والمدن المحتلة بالزحف نحو مدنهم رجالاً ونساءً وأطفالاً فلم يكن أمام المحتلين إلا النكوص ورجوع القهقرى أمام زحفهم الهادر والقوي بقوة حقهم وعدالة قضيتهم وبدأ الأهالي العزّل يطهرون مدنهم الواحدة تلو الأخرى حتى اكتمل النصر.
الثاني: إن هذه الحالة – أعني السير على الأقدام - أسسها المعصومون (عليهم السلام) وأعطوها زخماً كبيراً من الثواب فقد ورد في بعض الروايات عن الإمام الصادق (عليه السلام) (من أتى قبر الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) ماشياً كتب الله له بكل خطوة ألف حسنة ومحا عنه ألف سيئة ورفع له ألف درجة)([3]).
فإذا كانت الشعوب تخرج بهذه المسيرات لإنهاء احتلال فنحن مبتلون باحتلال متغطرس لا يرقب فينا إلاً ولا ذمة، وإذا كانت تخرج للمطالبة بتحسين الخدمات واحترام حقوق الإنسان فبلدنا يعيش في الحضيض من هذه الناحية، وإذا كانت الأمم تخرج للدفاع عن حقوقها وعزتها وكرامتها ولرفع الظلم والاضطهاد عنها فنحن نطالب بذلك.
إذن فإن هذه المسيرات يجب إدامتها واستثمارها وتوظيفها. فإذا ضممنا إليها أهدافاً أخرى والتفتنا إلى هذه الثمرات المتحققة منها زاد حماسنا واندفاعنا ومنها:
1- أن الذهاب سيرا على الأقدام فيه إظهار لعظمة المقصود فقد حج الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) ماشيا على قدميه ليس لعدم وجدانٍ للراحلة فإن الرواية تقول (وان النجائب لتقاد بين يديه) وإنما كان تعظيما للبيت الحرام ومن أولى من الإمام الحسين (عليه السلام) بالتعظيم والإجلال بل دلت بعض الروايات على أفضلية تربة الحسين (عليه السلام) على الكعبة.
2- انه يتضمن إظهارا للولاء لأهل بيت النبي (صلوات الله عليهم أجمعين) ومحبتهم التي جعلها الله تبارك وتعالى اجر الرسالة [قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ] (الأنعام:90) بحيث يحرك هذا الحب ملايين الموالين ليقطعوا مئات الكيلومترات من دون أن يصطحبوا زاداً أو فرشاً أو أي حاجات شخصية وتتعبأ الأمة كلها لخدمتهم.
3- إن فيها مواساة لآل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعيالات الحسين (عليه السلام) الذين اقتيدوا أسارى في الصحراء بلا غطاء ولا وطاء من كربلاء إلى الكوفة ثم إلى دمشق ثم أعيدوا إلى كربلاء ثم إلى مدينة جدهم (صلى الله عليه وآله وسلم) وهن عشرات النسوة وأزيد منهم من الأطفال بلا محامٍِ ولا كفيل وإنما يحوطونهم قتلة الطيبين من آل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
4- أن هذه الحركة الجماعية تنمي روح العمل الجماعي الذي إن تعودت عليه الأمة حصلت لها بركات كثيرة.
5- إن وحدة الهدف والغاية لهذه الملايين الزاحفة يوحد الأمة ويذوب خلافاتها وما أحوجنا اليوم لهذه الوحدة.
6- أن كثيراً من الناس يتحركون بفعل ما يسمى بـ(العقل الجمعي) فقد لا يكون الشخص مندفعاً نحو التدين وتعظيم شعائر أهل البيت (عليهم السلام) لكنه لا يملك نفسه دون أن ينخرط في هذه الحركة المليونية المباركة ويتأثر بها فتكون خير وسيلة للهداية والإصلاح كالذي تفعله صلاة الجمعة ونحوها.
7- تساهم هذه الفعالية بما تتضمنه من مصاعب ومشاق في تدريب الأمة على التضحية وتَحمُل الصعاب من أجل تحقيق أهدافها السامية وهي خطوة مهمة على طريق إعداد المؤمنين لحركة الإمام المهدي (عليه السلام) العالمية المباركة، ومثل هذه الفعالية تعتبر أرقى الحالات التعبوية للجيوش في العالم وان الجيوش التي تنجح في القيام بمثل هذا الانتشار الواسع على مساحات ألاف الكيلو مترات المربعة، وبأعداد كثيفة تصل إلى الملايين، وبتنظيم عالٍ لم يشهد أي خسائر أو تقصير ومن دون أن يصطحب الجندي أي لوازم أو احتياجات وتُقدَّم خدمات لوجستية كاملة تعتبر أمثولة تستحق الدراسة في الأكاديميات العسكرية العالمية.
8- أنها تقوي الإرادة وتحقق النصر على النفس الأمارة بالسوء التي تميل إلى الدعة والراحة وتكره العنت والمشقة وهي بذلك تحقق قفزة كبيرة على صعيد تهذيب النفس والسلوك إلى الله تبارك وتعالى.
9- أن هذه الحركة تعزز الانتماء إلى الحسين ونهضته المباركة وما أحلاه من انتماء وما أشرفه وما أعظمه وهذه الهوية تحتوي على الكثير من الخصائص والعلامات المميزة له عن غيره التي ينبغي للسائر إلى الإمام الحسين (عليه السلام) أن يعيها ويلتفت إليها ويجسدها في حياته.
10- والفوائد الصحية التي ربما هي أخر ما يفكر بها السائر إلى الحسين(عليه السلام) لأنه يرنو ببصره إلى المعنويات والآثار الروحية، لكن هذه الآثار الطيبة على الصحة ليست قليلة، ونحن نعلم أنَّ كل أحكام الشريعة إنما جعلت لمصالح يجنيها الفرد أو مفاسد يراد دفعها عنه، وقد ذكروا أن المشي يقلل من خطر ارتفاع ضغط الدم ويحسن أداء القلب ويساهم في خفض نسبة الدهون في الدم (الكوليسترول) المسبب لتصلب الشرايين، ويقوم بتقوية العظام ويحافظ على صحة المفاصل والعضلات ويخفف من حدة التوتر النفسي وغيرها كثير.
واغتنم وجودكم لتوجيهين يضاف أجرهما إلى ما ذكرناه والله تبارك وتعالى يخاطبنا [فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَات] (البقرة:148) ويقول سبحانه [وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ] (المطففين:26).
فالمفروض إننا نستثمر الحالة بأعلى صورها فأنها (تجارة لن تبور) والأمران هما:
الأول: أن تسير هذه الجموع المؤمنة في مواكب وتجمعات منتظمة لأن النظام قوة ويحقق ثماراً كثيرة ويدخل الرعب على الأعداء ويرسل لهم رسالة قوية أما المشي أفراداً مشتتين مهما كثر عددهم فإنه لا يؤثر كذلك؛ لأن العدد سينظر إليه وكأنه تقليد اجتماعي دأب عليه الناس فلا يقيم له وزناً معتداً به كما كان جلاوزة صدام يفعلون فإنهم كانوا حينما يستعصي عليهم المنع التام من المشاركة في هذه المناسبة فإنه يسمح بالأعداد الغفيرة تسير إلى كربلاء ولا يقلقه ذلك كثيرٌ لكن عشرة أشخاص إذا اجتمعوا ونظموا أنفسهم وكانت لهم حركة واحدة فإنه يشعر بخطرهم ويلاحقهم.
وإني لا أدعي أنني قادر على تنظيم هذا العدد الضخم ولكنني أضعه كمشروع أمام القائمين على هذه الحركة المباركة، وقد نظمنا كنموذج طلبة الجامعات والمعاهد العراقية في مواكب الوعي الحسيني وكان مثلاً مثيرا للفخر والاعتزاز ويستحق التأسي به فلتفعل الجهات الفاعلة في مختلف المحافظات لأبناء كل محافظة مثل هذا التنظيم المبارك.
الثاني: إنكم خلال مسيرتكم الطويلة تمرون على عشائر وأرياف وقرى ومناطق لم يصلها قبلكم مرشد ديني أو واعظ أو موجّه لذا تجدهم يجهلون أبسط واجباتهم الدينية، وهم يستضيفونكم وتنزلون عندهم فاغتنموا هذه الفرصة للإرشاد والتوجيه والتبليغ وإيصال صوت الهداية والصلاح ليؤتيكم الله وإياهم كفلين من رحمته وكثير منكم شباب رساليون واعون مثقفون قادرون على أداء هذه الوظيفة أحسن قيام فلا تقصروا في اغتنام هذه الفرصة.
وفي ضوء كل هذه الأفكار يجد عدد غير قليل من المؤمنين الواعين رغبة عندهم في إحياء عدد من المناسبات والزيارات على هذا الشكل أي التوجه إلى الإمام المزور سيراً على الأقدام.
فطوبى لكم ويهنيكم ما اعد الله تعالى لكم من الكرامة وأرجو شفاعتكم يوم القيامة والحمد لله رب العالمين وصلى اله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
([1]) من حديث سماحة الشيخ مع حشد من أبناء المحافظات الجنوبية الذين زاروه في طريقهم إلى كربلاء يوم الجمعة 16 صفر 1427 المصادف 17/3/2006.
([2]) كان ذلك في آيار 2000.
([3]) مفاتيح الجنان/آداب زيارة الإمام الحسين (عليه السلام).