خطاب المرحلة (102)... شكوى الإمام من عدم اجتماع قلوب شيعته
شكوى الإمام من عدم اجتماع قلوب شيعته([1])
الحمد لله كما هو أهله وكما يستحقه حمدا كثيرا والصلاة والسلام على سادة الخلق محمد وآله الطيبين الطاهرين.
كنا قد حررنا أربع شكاوى للإمام المهدي المنتظر (أرواحنا له الفداء) واليوم نشير إلى شكوى أخرى، فقد ورد في رسالته الشريفة إلى الشيخ المفيد (قدس سره): (ولو أن أشياعنا وفقهم الله لطاعته على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا، ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكرهه ولا نؤثره منهم والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلاته على سيدنا البشير محمد وآله الطاهرين وسلم([2]).
فهل يعلم أتباع الحق، المنتظرون لظهور إمامهم والتواقون لرؤية طلعته المباركة والذين يتضرعون ليل نهار إلى الله تبارك وتعالى ليقرب يومه الموعود، حتى يعيد البسمة إلى المظلومين والمحرومين ويقيم دولة الحق والعدل ويقصم ظهر الطغاة والمستكبرين والمجرمين، أقول هل يعلمون أنهم يؤخرون كل تلك البركات بما يعيشون بينهم من حالة التنافر والشحناء والتقاطع والعلاقات المتشنجة التي برزت بشكل واضح خلال السنوات الأخيرة، حين وجدت فرص الوصول إلى المواقع السياسية -إي المناصب على اختلاف مراتبها- والدينية كإمامة المساجد والجمعات أو الوكالة عن المرجعية في مدينة ما والاجتماعية كزعامة العشائر أو الوجاهة لدى الناس، فأشعل التنافس غير الشريف والتزاحم على هذه المواقع نار الحسد والبغضاء مما يدفع صاحبها إلى الكيد للآخر وتسقيطه في المجتمع وتشويه صورته وتنفير الناس منه.
ومهما حاول صاحبها أن يبررها بأسباب مقنعة كوجود مصلحة دينية ونحوها فإنه يغالط نفسه لأن الحديث الشريف يقول: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله) فأي عروةٍ هذه التي يتمسك بها هؤلاء المغالطون لأنفسهم لكي يفصموا بها هذه العروة الوثقى التي لا انفصام لها.
إن هؤلاء مشمولون بقوله تعالى: [وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ] (النمل:14) وقوله تعالى [بَلِ الإنسان عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ] (القيامة:14) وقد قرب أحد العلماء ذلك بمثال فقال لو أن الأنبياء كلهم وهم مئة وأربعة وعشرون ألف نبي اجتمعوا في زمان واحد هل تراهم يختلفون على شيء أم تراهم متحابين متآلفين متوحدين؟! لماذا لأنهم مخلصون لا يبتغون إلا رضا الله تبارك وتعالى فيتوحدون على هذا الهدف المشترك، فمنذ أن هبط ادم الأرض تصارع ولداه حين تقبل قربان احدهما ولم يتقبل من الآخر فقال الأول الذي انساق وراء نوازعه النفسية وأهوائه فتغلبتا على عقله (لأقتلنك) قال الآخر الذي هذب نفسه وضبط شهواته وألجمها بلجام عقله [لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ] (المائدة:28) وحينئذ سقط الأول في هاوية جهنم [فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ] (المائدة:30).
فمرجع كل ذلك إلى حب الدنيا الذي تجلى بصور عديدة ولا يكاد ينجو إنسان من شكل من أشكاله كالثراء والازدياد من المال أو فتنة النساء أو حب الجاه والزعامة حتى يسقط في داء آخر, لذا يشبه الأخلاقيون الدنيا بالتنين الذي كلما قطع رأس له ظهرت له عدة رؤوس.
وأنا لا ازعم أن هذا الداء قد ابتلي به هذا الجيل دون غيره، بل إنه جزء من الصراع الطويل بين الخير والشر في النفس الإنسانية، والصراع المتأصل بين جند الرحمن وجند الشيطان في هذا العالم الأكبر الذي ينطوي عليه الإنسان
أتزعم انك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
لكن الفرق بيننا وبين الأجيال القديمة إننا نعيش في ظل الإسلام وتعاليم أهل بيت النبوة، الذين لم يتركوا شاردة ولا واردة إلا بينوا وجه الحق فيها ثم واصلت المرجعية الشريفة دورهم في هداية الأمة وإرشادها إلى طريق الصلاح ولازالت تؤدي نفس الدور، فتحصل عندنا رصيد عظيم من الأحاديث الشريفة والتعاليم الإنسانية السامية.
فمن تلك الروايات في إدخال السرور على المؤمنين قول النبي (صلى الله عليه واله وسلم): (من سر مؤمنا فقد سرني، ومن سرني فقد سر الله عز وجل) وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (تبسم الرجل في وجه أخيه حسنة وصرفه القذى عنه حسنة، وما عبد الله بشيء أحب إلى الله من إدخال السرور على المؤمن) وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (من ادخل على مؤمن سرورا خلق الله من ذلك السرور خلقا فيلقاه عند موته فيقول له: ابشر يا ولي الله بكرامة من الله ورضوان، ثم لا يزال معه حتى يدخله قبره فيقول له مثل ذلك، فإذا بعث تلقاه فيقول له مثل ذلك، ثم لا يزال معه عند كل هول ويبشره ويقول مثل ذلك فيقول له: من أنت يرحمك الله؟ فيقول أنا السرور الذي أدخلته على فلان).
وورد في الاهتمام بقضاء حوائج المؤمنين قضيت أو لم تقض عن الصادق (عليه السلام) قال: (أن الله عز وجل خلق خلقا انتجبهم لقضاء حوائج فقراء شيعتنا ليثيبهم على ذلك الجنة فإن استطعت أن تكون منهم فكن) وعن الباقر (عليه السلام): (أن المؤمن لترد عليه الحاجة لأخيه فلا تكون عنده يهتم بها قلبه فيدخله الله بها الجنة)، لاحظ سمو تربية أهل البيت (عليهم السلام) وتعاليمهم فإن الجنة جزاء ليس فقط من قضى حاجة أخيه المؤمن، بل هي جزاء من امتلأ قلبه هما ًوغما لأنه تفاعل وتعاطف مع هم أخيهً المؤمن وإن عجز عن قضاء حاجته، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (تنافسوا بالمعروف لإخوانكم، وكونوا من أهله، فإن للجنة باباً يقال له (المعروف) لا يدخله إلا من اصطنع المعروف في الحياة الدنيا، وان العبد ليمشي في حاجة أخيه المؤمن فيوكل الله عز وجل به ملكين واحد عن يمينه وآخر عن شماله يستغفران له ربه ويدعوان له بقضاء حاجته) ثم قال: (والله لرسول الله أسًر بحاجة المؤمن إذا وصلت أليه من صاحب الحاجة).
وورد في تفريج كرب المؤمن - وما أكثر المكروبين اليوم - قول الأمام الصادق (عليه السلام): (من نفّس عن مؤمن كربة نفس الله عنه سبعين كربة من كرب الآخرة, وخرج من قبره وهو ثلج الفؤاد, ومن أطعمه من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة, ومن سقاه شربة سقاه الله من الرحيق المختوم).
وورد في حسن العلاقة مع الآخرين قول الصادق (عليه السلام): من قال لأخيه:مرحبا, كتب الله له مرحبا إلى يوم القيامة) وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من أكرم أخاه المؤمن بكلمة يلاطفه بها وفرج عنه كربته لم يزل في ظل الله الممدود عليه من الرحمة ما كان في ذلك).
وفي وجوب ستر عيوب الآخرين ورد عن الأمام الباقر(عليه السلام):يجب للمؤمن على المؤمن أن يستر عليه سبعين كبيرة) وعن الأمام الصادق (عليه السلام): (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحرمه).
وحذروا من التقصير في ذلك فعن الأمام الباقر (عليه السلام) قال:من بخل بمعونة أخيه والقيام له في حاجته إلا ابتلي بمعونة من يأثم عليه ولا يؤجر).
وورد في استحباب الإكثار من الأصدقاء والأخوة في الله تعالى فعن الأمام الرضا (عليه السلام): من استفاد أخا في الله استفاد بيتا في الجنة) وعن الإمام الصادق (عليه السلام): استكثروا من الإخوان فإن لكل مؤمن دعوة مستجابة:وقال: استكثروا من الأخوان فإن لكل مؤمن شفاعة وقال:أكثروا من مؤاخاة المؤمنين فإن لهم عند الله يدا يكافئهم بها يوم القيامة) وورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): ثلاثة يصفين ود المرء لأخيه المسلم يلقاه بالبشر إذا لقيه، ويوسع له في المجلس إذا جلس إليه, ويدعوه بأحب الأسماء إليه) وحثوا على إفشاء السلام وعدوا أبخل الناس من بخل بالسلام) وعن الإمام الرضا(عليه السلام): من شرب من سؤر أخيه المؤمن يريد به التواضع أدخله الله الجنة البتة ومن تبسم في وجه أخيه المؤمن كتب الله له حسنة ومن كتب الله له حسنة لم يعذبه).
وعن درجة حسن الخلق والتعامل مع الناس قال الإمام الصادق(عليه السلام): ما يقدم المؤمن على الله عز وجل بشيء بعد الفرائض أحب إلى الله تعالى من أن يسع الناس بخلقه) وعن الإمام الصادق (عليه السلام): المؤمن مألوف, ولا خير فيما لا يألف ولا يؤلف).
أما العفو عن إساءة الآخرين فقد وردت فيه أحاديث كثيرة فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): عليكم بالعفو فإن العفو لا يزيد العبد إلا عزا, فتعافوا يعزكم الله) وعن علي بن الحسين (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (فأصفح الصفح الجميل) قال:العفو من غير عتاب) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: إذا قدرت على عدوك فأجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه), وعن رسول لله(صلى الله عليه وآله وسلم): ألا أخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة, العفو عمن ظلمك وتصل من قطعك والإحسان إلى من أساء أليك وإعطاء من حرمك).
وعن التراحم والتعاطف بين المؤمنين ورد قول الإمام لصادق (عليه السلام) لأصحابه (اتقوا الله وكونوا أخوة بررة متحابين في ألله, متواصلين متراحمين (تزاوروا وتلاقوا وتذاكروا أمرنا وأحيوه) وعن الإمام الباقر(عليه السلام): رحم الله امرءاً ألف بين وليين لنا يا معشر المؤمنين تآلفوا وتعاطفوا).
وفي استحباب مصافحة المؤمنين ورد عن الإمام الباقر(عليه السلام): إن المؤمنين إذا التقيا فتصافحا أدخل الله يده بين أيديهما وأقبل بوجهه على أشدهما حباً لصاحبه فإذا أقبل الله بوجهه عليهما تحاتت عنهما الذنوب كما يتحات الورق من الشجر).
وعن حرمة إهانة المؤمن ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: لما أُسري بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يا رب ما حال المؤمن عندك؟ قال: يا محمد من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي).
أن الدخول في هذا العالم الرحيب لأهل البيت (عليهم السلام) المبلغين رسالات ربهم بأمانة وصدق وإخلاص لا يمل وينقل الإنسان إلى عوالم قدسية تجلو بها القلوب وتطهر بها النفوس.
ولم يكتف المشرع الأقدس تبليغ هذه التعاليم والوصايا وإنما وضع على الأمة شعائر وطقوس تعزز هذه الألفة والمودة والتواصل، كالاجتماع لأداء الفرائض اليومية وهي خمسة في اليوم وكصلاة الجمعة الأسبوعية التي يجب على كل أهل المدينة القدوم إليها وكفريضة الحج التي يجمع إليها ملايين المسلمين من كل بقاع العالم، ومن تلك الشعائر: الأعياد وما تتضمنه برامجها من استحباب الاجتماع والتزاور والمعانقة والتهاني([3]) مما يعيد الصفاء إلى القلوب و يزيل الأضغان منها.
أفبعد كل هذا نشهد هذه الحالات المؤلمة من التقاطع والتباغض والمهاترات الكلامية بين من ينتسبون إلى مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ويدعون أنهم مخلصون، عجباً عجباً !!
وقد شملت هذه الظاهرة المقرحة للقلوب كل ساحات العمل فالتناحرات السياسية والتسقيط في ساحة العمل الديني والانقسامات الاجتماعية أدخلت الأمة في دوامة ونفق مظلم دفعت ثمنها غاليا من دماء بريئة وتشوش فكري وتمزق اجتماعي وضياع للثروات والقدرات.
إن هذه الحالة المنكرة تتسبب في عدة كبائر وخسائر:
أنها تضعف الأمة وتبدد قواها وتشغلها بأمور وهمية وتضيع وقتها الثمين الذي نحتاج كل دقيقة منه قال تعالى: [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] (الأنفال:46).
توقع صاحبها في معاصي تستلزمها كالغيبة والبهتان وإهانة المؤمن وتشويه صورته وتسقيط سمعته.
أنها تنغص حياة الشخص وتسلبه صفو معيشته وسعادته كما ورد في مناجاة الإمام السجاد (فإن الشكوك والظنون لواقح الفتن ومكدرةً لصفو المنائح والمنن) لذا كان أهم النعم التي يتفضل بها الله تبارك وتعالى على أهل النعيم إزالة هذه المنغصات من القلب [وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ] (الأعراف:43).
أنها تمكن الأعداء من الأمة وتفتح ثغرات في جسدها يخترقها العدو، وها نحن نشهد كيف أننا أكثرية في هذا البلد إلا أننا أصبحنا نهباً للأعداء يطمع فينا الوضيع والدنيء.
إنها تعيق تقدم حركة المشروع الإسلامي وتؤخر عملية التمهيد لليوم الموعود.
أرأيتم إن الانسياق وراء الأهواء والأنانية وعدم الالتزام بتعاليم أهل البيت (عليهم السلام) في التحابب والتآلف والعفو والصفح وصفاء القلوب كيف توصل إلى هذه النتائج الوخيمة.
أجارنا الله وإياكم منها وعصمنا من كل ما يسخط إمامنا المهدي الموعود ويحرمنا من اليمن بلقائه والتنعم بالنظر إلى طلعته المباركة.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
([1]) خطبتا صلاة عيد الأضحى لهذا العام 1426 الذي صادف يوم 11 / 1 / 2006 وقد أقامها سماحته في داره.
([2]) الاحتجاج ج 2/325.
([3]) إن هذه التعاليم السامية لتنظيم العلاقات الإنسانية مما يفخر بها المسلمون وأتباع أهل البيت وعليهم تطبيقها ونقلها إلى الحضارات الأخرى ليروا الصورة الحضارية المشرقة للإسلام وأن بعضاً منها تضمنها كتاب ديل كارنيجي (كيف نكسب الأصدقاء) جعلته الكتاب الأكثر تداولاً في العالم بعد القرآن الكريم ودفعهم إلى تأسيس (معهد كارنيجي) لتنظيم العلاقات الإنسانية فلماذا يكون أكثر المسلمين كالحمار الذي يحمل أسفارا ولا يستفيد منها أو كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول.