خطاب المرحلة (92)... ماذا تعلمنا من أمير المؤمنيـن علي بن أبي طالب (عليه السلام)
ماذا تعلمنا من أمير المؤمنيـن
علي بن أبي طالب (عليه السلام)([1])
بسم الله الرحمن الرحيم
جرت العادة أن تتضمن الاحتفالات في مثل هذه المناسبات الشريفة ذكر مناقب أهل البيت (عليهم السلام) ومكارمهم كميلاد أمير المؤمنين في الكعبة وهي حالة لم يسبقه إليها أحد ولن يلحقه بها أحد وهي حقاً شرف عظيم له ولوالدته السيدة الهاشمية الجليلة فاطمة بنت أسد التي قال عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنها أمي بعد أمي، وقد غفل أرباب المعاجم والسيَر مع كل الأسف التأليف في سيرة هذه المرأة العظيمة وتحدثنا عنها بشيء من التفصيل في مثل هذه المناسبة قبل أربع سنوات وطبع في كتاب (من وحي المناسبات).
وذكر مناقب أهل البيت عليهم السلام ضروري لتعزيز إيمان المؤمنين وإقامة الحجة على المنكرين، ولمواجهة السعي الحثيث الذي يقوم به خصوم أهل البيت لطمس مآثرهم ومع ذلك ظهر منها ما يُحيّر الألباب لذا قيل (إن علياً (عليه السلام) أخفى أولياؤه مناقبَه خوفاً وأعداؤه حسداً ومع ذلك ظهر منها ما ملأ الخافقين)، إذن لو كُتب التأريخ بأمانة وموضوعية وحفظه وتناقله المنصفون لرأيت من ابن أبي طالب العجب العجاب.
ولقد اتبع خصوم عليّ (عليه السلام) مختلف الوسائل الخسيسة والخبيثة في هذه المواجهة، فيرصد معاوية لسمرة بن جندب أربعمائة ألف درهم كي يروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن قوله تعالى: [وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ..] (البقرة:204-205) نزل في علي بن أبي طالب وأن قوله تعالى: [وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ] (البقرة:207) أنزل في عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي.
وهكذا زوّروا التأريخ وحرّفوه ودسّوا فيه ما يوافق أهواءهم ومصالحهم فقالوا أن حكيم بن حزام ولدته أمه في الكعبة برواية تحمل كذبها في طيّاتها، وكان لمسجد الكوفة باب يسمى باب الثعبان منه انساب الثعبان ليهمس في إذن أمير المؤمنين وهو يخطب في المسلمين في المسجد ويعود، ولم يرُق لمعاوية هذا الإعجاز فربط إلى هذا الباب فيلاً بعد دخوله الكوفة اثر صلح الإمام الحسن (عليه السلام) فشاع بين الناس انه باب الفيل ونُسيَ اسمه الأول.
فإحياء ذكر أهل البيت (عليهم السلام) وتعداد مناقبهم أمر ضروري لمواجهة هؤلاء الذين يغيّرون الكلم من بعد مواضعه لأن هذا الذكر ليس تأريخاً يتلى ولا أرشيفا يوضع في المتاحف، وإنما هو منهل يرده القادة والمصلحون والمفكرون والعلماء والمربّون وطلاب الحق والخير وهو نبراس يضيء للبشرية طريق العقيدة الحقّة والأخلاق الفاضلة والحياة السعيدة، ولم يتركوا لنا شاردة وواردة إلا وقنّنوا لها الحالة الصحيحة حتى في الأمور الحياتية العادية التي لا يلتفت إليها الناس كالأكل والجماع والتخلي والنوم ودخول الحمام ونحوها مما تفتقده الشرائع الوضعية وتعجز عن تلبية الحاجات البشرية.
والذي أريد أن أقوله هنا أن إحياءنا لهذه المناسبات لا ينبغي أن يكون أرشيفيا تراثياً تأريخياً وإنما يجب أن يكون إحياء واعياً يستمد من الماضي ما يعين على الحاضر ويخطط للمستقبل؛ ليكون أكثر فاعلية في حياة الأمة.
ومن ذلك ما فعلته قبل ثلاث سنوات في مثل هذه المناسبة حينما اخترت عنوان (من هم شيعة علي بن أبي طالب) الذين نزل فيهم قوله تعالى في سورة البيّنة [أولَئِكَ هُمْ خَيرُ البَرِيَّةِ] (البينة: 7) وفسّرها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لجابر أنهم عليّ وشيعته إذ لا يكفي أن يولد الإنسان من أبوين شيعيين أو يعيش في بيئة شيعية، أو يؤدي شعائر الشيعة ليدخل في هذا العنوان الشريف بحيث يقول الإمام (عليه السلام) (إنما شيعة علي: الحسن والحسين وسلمان وأبو ذر والمقداد وعمار)، لذا كان علينا أن نجري دراسة تحليلية استقرائية في أحاديث أهل البيت (عليه السلام) لنستنبط منها أوصاف وخصائص شيعة علي (عليه السلام) والعناصر المكونة لشخصية المسلم من منظور أهل البيت (عليهم السلام)، والمحاضرة منشورة في كتاب (نحن والغرب) و (شكوى الإمام (عجل الله فرجه).
واليوم نريد أن نسأل أنفسنا: (ماذا تعلمنا من أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب) أو ماذا حققنا في أنفسنا من تلك الصفات التي ذكرناها في البحث السابق؛ لأن الله تعالى حثنا على التأسّي برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والاستنان بسنته الشريفة فقال عز من قائل [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا] (الأحزاب:21) وعليٌّ اخو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصنوه، فالآية تدعونا إلى التأسّي بأمير المؤمنين (عليه السلام)، خصوصاً وأن التأسي تعلَّـق بموقع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم تقل الآية (في محمد) أي شخص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فالتأسي حالة مطلوبة من الأمة دائماً ضمن علاقتها مع قادتها الصالحين الذين هم ورثة الأنبياء وحصون الإسلام.
فهل تعلمنا من علي شجاعته في كل الميادين فصولته في ساحات القتال معلومة وفي قول كلمة الحق حينما قال الخليفة الثاني: ماذا تفعلون لو دعوتكم إلى ما تنكرون وما لا تعرفون من الشريعة؟ فقال (عليه السلام): إذن لقوّمناك بسيوفنا (راجع كتاب دور الأئمة في الحياة الإسلامية).
هل تعلمنا من عليّ أمانته على المال العام ونزاهته حينما كان يأخذ عطاءه كواحد من المسلمين وهو رئيس الدولة ويأتيه أخوه عقيل طالباً المساعدة لأنه كثير العيال وقد أملق حتى عاد أولاده شعثاً غبراً فأرجأه إلى أوان عطائه فيعطيه فقال: وما يصنع لي عطاؤك أريد من بيت المال فأحمى حديده وقرّبها إليه فجزع عقيل من حرّها فقال له كلماته العظيمة: أتئنُّ من حديدة أحماها إنسانها لِلعبه وتجرّني إلى نار سجّرها جبارها لغضبه.
ووقف على منبر المسلمين ليسنّ للحكام قانون محاسبة المسؤولين وإجراء الجرد المالي لممتلكاتهم قبل توليهم وبعده فيقول (عليه السلام): (لو خرجت منكم بغير هذه القطيفة التي جئتكم بها من المدينة لكنت خائناً) فلم يكن بحاجة إلى مفوضية نزاهة أو محكمة أو أي شيء آخر مما اضطرت إليه الدول المتحضرة اليوم لكثرة الفضائح واختلاس الأموال العامة والرشاوى تحت عناوين متعددة فضلاً عن غيرها بل يقف هو أمام مواطنيه ليحاسب نفسه.
هل تعلمنا من علي (عليه السلام) شعوره بالمسؤولية عن كل رعاياه وحمله هموم كل الناس في شرق الأرض وغربها فيقول: (أأقنع من نفسي أن يقال لي أمير المؤمنين ولا أشاركهم في جشوبة العيش ولعل في الحجاز أو في اليمامة من لا عهد له بالشبع ولا طمع له بالقرص).
هل تعلمنا من علي رحمته وشفقته حينما مرّ على دار في الكوفة وسمع أطفالاً يبكون لم يهمل الحالة فطرق الباب، خرجت امرأة سألها عن سبب بكاء الأطفال قالت: أن أباهم استشهد في صفين وبقيت وحدي لهم وأنا حائرة بين إسكاتهم وخبز أقراص لهم فبكى أمير المؤمنين لحالهم ولما تسبّب به تمرد معاوية من إزهاق أرواح الآلاف وجاء (عليه السلام) بتمر ولوز وأخذ يضاحك الأطفال ويلاعبهم وتفرغت المرأة للخبز وهو يقول:
ما إن تـأوهـتُ من شــيءٍ رُزِئتُ به |
|
كمــا تأوهــتُ للأيتــام في الصـغرِ |
ما أحوج البشرية اليوم إلى رحمة علي بن أبي طالب بعد أن عبثت بها مخالب المستكبرين والجشعين والمستبدين والطغاة فإلى من تفزع؟
وأنتم معاشر الأطباء وذوو المهن الصحية يا رسل الرحمة والإنسانية ارفقوا بالناس وارحموهم وأخلصوا لهم، لا كما أسمع عن كثير منهم قد تحول إلى جلاد وقاتل لأن همّه المال، تأتي امرأة في حالة عسرة من الولادة وهي تئن بين الحياة والموت لكنها لا تملك التكاليف الباهظة لعملية الولادة فتُغلق الباب دونها، والآخر يتلوى من الألم قد ضاقت الدنيا في عينه لا يُعالج لأنه لم يدفع أو لأن الطبيب الخفر نائم ولا يرضى لأحد أن يزعجه أما الاستشاري فلا يصل إلى الطوارئ مطلقاً فقط يسجل اسمه لأخذ المخصصات، فمتى تنتفضون على نفوسكم، احذروا سخط الله ومكره فإنه لا يأمن مكره إلا القوم الكافرون، فقد يضعكم في موضع الحاجة والاضطرار ثم لا يسعفكم أحد.
هل تعلمنا من علي بن أبي طالب مبدأيته وعدم مساومته على الحق، توّلى الخلافة في ظرف عصيب والمدينة تعجّ بالغاضبين الناقمين ويتربص بها الانتهازيون والمنافقون وأعداء الإسلام والمسلمين فعزل الولاة السابقين وأرسل آخرين وفق معاييره، فقال عبد الله بن عباس لو تركت معاوية على الشام حتى تستتب لك الأمور فتعزله من موقع قوة، وهو عملٌ ربما يقوم به كل السياسيين وفق حسابات المصالح إلا أن علياً لم يكن يعمل لحالة مؤقتة حتى يخضع لحساباتها وإنما يؤسس لمُثل إنسانية عُليا تبقى مشعلاً يضيء للبشرية طريق السمو والكمال فلا غرو أن يضحي بالحسابات الدنيوية فقال (عليه السلام): والله لا أبيت ليلة ومعاوية على الشام.
هل تعلمنا من علي عدالته وإنصافه للناس حينما خاصمه يهودي على درع له وطلب مرافعته عند القاضي الذي نصبه أمير المؤمنين وجاء معه أمير المؤمنين إلى القاضي فقال له: يا أبا الحسن اجلس إلى جنب خصمك فجلس وقدّم البينات على أن الدرع له فحكم القاضي بذلك، فرأى القاضي الامتعاض في وجه علي (عليه السلام) وظنّه انه لمساواته مع خصمه وهو هو في ذاته وفي موقعه، فبدأ بالاعتذار بأن هذه هي آداب القضاء وإجراءاته لكنه يبدو انه لم يفهم سمو علي بن أبي طالب فقال له الإمام: إنما غضبت لأنك كنّيتني يا أبا الحسن في حضرة خصمي والمفروض أن تساوي بيننا بالاسم أو الكنية.
ويمر في طريقه في الكوفة على رجل يستعطي فسأل عن هذه الحالة الغريبة في ظل عدالة علي (عليه السلام) وإنصافه فقيل له انه مسيحي كبر ولم يقوَ على العمل فقال (عليه السلام) فهل استعملتموه حتى إذا ضعف تركتموه، أعطوه من بيت المال.
هل تعلمنا من علي (عليه السلام) نكران ذاته وتقديم المصلحة العامة على الشخصية، فإنه صاحب أعظم حق في الإسلام وهي خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بنص قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ] (المائدة:67)، ولما رأى الأمة غير واعية لهذه المسؤولية ولا مستعدة لتحملها ورأى أن إصراره على استحصال حقه يوقع في الأمة فتنة كبيرة ليس هو المسؤول عنها وإنما الذين خالفوا وصية نبيهم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فآثر الإعراض بعد إلقاء الحجة على الأمة.
ومع ذلك لم يبخل على الحكام بالنصيحة والمؤازرة، وحين عزم الخليفة الثاني على الخروج لملاقاة الفرس استشار أصحابه فأشاروا عليه بذلك إلا أمير المؤمنين فإنه قال: إن خروجك سيحفز الأعداء على القتال (لأن العجم إذا رأوك غداً قالوا هذا رأس العرب فإذا قطعتموه استرحتم فيكون ذلك أشد لكَلَبهم) فالصحيح أن تبقى في المدينة ردءاً وفئة تسعفهم وتمدّهم بالرجال والمؤونة وتبعث إليهم من أهل الحزم والشجاعة.. إلى آخر وصيته التي أخذ بها الخليفة. أما السياسيون اليوم فإن همهم إسقاط المنافسين لهم وإن كان على حساب الأمة والوطن والدين.
أقول: هذا وأنا أعلم أن علياً قمة سامقة فاق من قبله إلا ابن عمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واتعب من بعده فلم يسبقه سابق ولا يلحقه لاحق وقد قال للناس: إنكم لا تقدرون على مثل ذلك ولكن أعينوني بورعٍ واجتهاد وعفّة وسداد.
فمن كان له برنامج عمل لا يستطيع أن يحققه كله فإنه ينفّذ ما يتيسر له ويطمح للارتقاء لاستيعاب الباقي وهكذا فإن علياً يمثل أرقى برنامج حياتي إنساني فلنضعه نصب أعيننا ونُجهد أنفسنا للتأسّي به وسيوفقنا الله تبارك وتعالى ويأخذ بأيدينا [إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ] (النحل:128).
([1]) تقرير حديث سماحة الشيخ مع الوفود التي هنأته بميلاد أمير المؤمنين (عليه السلام) ومنهم رابطة الأطباء والعشرات من ذوي المهن الصحية في العمارة يوم 12 رجب 1426 المصادف 18/8/2005.