خطاب المرحلة (90)...مبادئ الشفافية ومظاهرها

| |عدد القراءات : 3169
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

مبادئ الشفافية ومظاهرها([1])

 ترد كلمة الشفافية كثيراً على ألسنة السياسيين وعموم المتصدين للعمل الاجتماعي ويطالب الجميع بأن يكون العمل شفافاً، ولكن لم يشرح لنا أحد حقيقة الشفافية وكيف يكون التعامل شفافاً، أي ما هي مظاهر الشفافية؟ وكيف يمكن تدريب النفس عليها أي ما هي المبادئ والخصائص التي يجب توفرها في النفس لتنطلق منها التعاملات الشفافة؟

وبصفتنا عاملين في الحقل الاجتماعي فإن من وظيفتنا تشخيص معوقات العمل ومشاكله ومقومات نجاحه، كما تحدثنا في كلمة سابقة عن عناصر رفع الهمة وخلق الحوافز للاندفاع نحو مزيد من العمل.

وفي ضوء هذه الرؤية فقد وجدنا أن من بين المشاكل الرئيسية التي يعاني منها العمل الاجتماعي. ويعاني منها أكثر العاملين في الحركة الإسلامية – هو عدم التعامل مع الآخرين بشفافية- وهي صفة لا تختص بالعمل فقد يوصف القانون بأنه شفاف أي مرن وقابل لاستيعاب الحالات الاستثنائية ويأخذ الأعذار بنظر الاعتبار وليس جامداً حدياً، فالشفافية إذن من الأسس المهمة لإنجاح العمل ولضمان تطبيق القوانين والاستجابة لها بسلاسة، وهي من أهم مميزات القانون الإسلامي وقادته العظماء. 

وسنشير في حديثنا إلى مظاهر الشفافية في الإسلام ومبادئها وأصولها النفسية مستنداً إلى مجموعة مباركة من الأحاديث الشريفة وستكون الإشارة مجملة تاركاً بيانها التفصيلي إلى الفضلاء والمفكرين لاغتناء مصادرنا الإسلامية بهذه الأحاديث المباركة:

1- إنصاف الآخرين من نفسك: فإذا كان رأي الآخر صحيحاً فكن شجاعاً وقل له ذلك وتنازل عن رأيك  واعترف بخطئك، لذا قالوا أن الاعتراف بالخطأ فضيلة، وقد وبّـخ الله تعالى من يتمسك بموقفه ورأيه رغم اعترافه في داخله بصحة رأي الآخر وحقه فقال تعالى: [وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ] (البقرة:206) وقال تعالى: [وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ] (النمل:14)، ودعا تبارك وتعالى عباده إلى إعطاء الآخرين حقهم من غير غمط ولا بخس، قال تعالى [وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ] (الأعراف:85).

وهذه الصفة شاقة على النفس ولا يتحلى بها إلا من روّض نفسه ودرّبها وملك زمامها؛ لذا جاء في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (يا علي ثلاث لا تطيقها هذه الأمة: المواساة للأخ في ماله وإنصاف الناس من نفسه، وذكر الله على كل حال، وليس هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ولكن إذا ورد على ما يحرم خاف الله عز وجل عنده وتركه)([2]).

2- المشاورة وعدم الاستبداد بالرأي وعدم الاستكبار عن سماع رأي الآخرين ونصيحتهم، فإنها قوة إضافية لك لانضمام عقولهم إلى عقلك فكأنك تفكر بمجموع عقولهم وهو كمال ونضج للرأي؛ لذا جاء فيما أوصى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً (عليه السلام): (لا مظاهرة أوثق من المشاورة ولا عقل كالتدبير)([3]) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها عقولها)([4]) وعن الصادق (عليه السلام): (ما يمنع أحدكم إذا ورد عليه ما لا قبل له به أن يستشير رجلا عاقلاً له دين وورع، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام) أما أنه إذا فعل ذلك لم يخذله الله بل يرفعه الله، ورماه بخير الأمور وأقربها لله)([5]).

وأعطانا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) الدروس العملية في ضرورة المشورة وهم أكمل الخلق وسادتهم والمتصلون بالتسديدات الإلهية التزاماً بقوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ] (آل عمران:159)، ووصف عباده المفلحين بقوله عزّ من قائل [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] (الشورى: 38)، وعن بعض أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام): قال: قال لي الصادق (عليه السلام): (أشر عليّ برجل له فضل وأمانة، فقلت: أنا أشير عليك، فقال شبه المغضب: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يستشير أصحابه ثم يعزم على ما يريد الله)([6]).

3- اعتماد مبدأ الحوار وعدم فرض الرأي على الآخر مهما كنت مقتنعاً به فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعلم أنه على حق ومع ذلك أمره الله تعالى بالحوار مع الآخرين [قُلْ يَا أهل الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه] (آل عمران: 64)، وقوله سبحانه: [وَلا تُجَادِلُوا أهل الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] (العنكبوت: 46).

وقد ثقف الإسلام أتباعه على حرية التعبير عن الرأي واختيار العقيدة قال تعالى [لا إكْرَاهَ في الدِيْن] (البقرة: 256)، ويبلغ هذا المبدأ أوفى حالاته وأكملها حينما يأمر الله تبارك وتعالى المسلمين أن يوفّروا الأمن والحماية لمن يريد من المعسكر الآخر أن يستمع إلى هذا الدين ثم يعيده إلى بلاده آمناً ليختار بكل حرية [وَإِنْ أحد مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ] (التوبة:6). فهل يوجد حث على الحوار وهل توجد شفافية أكثر مما في الإسلام.

4 – التواضع، لأن التكبر والنظر إلى الأنا والإعجاب بالنفس يصد عن سماع الحق ويعمي البصيرة ويذل صاحبه، وعلى العكس منه فإن التواضع يرفع صاحبه ففي الحديث: (من تواضع لله رفعه الله)، وفي دعاء مكارم الأخلاق للإمام السجاد (عليه السلام): (ولا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزّاً ظاهراً إلا أحدثت لي ذلّةً باطنة عند نفسي بقدرها) فلا تتكبر على الآخرين وتواضع لأدنى خلق الله فقد يجري الله الكلمة  المفيدة النافعة الصالحة على لسان من لا تأبه بهم، ومما روي عن سيرة عيسى روح الله (عليه السلام) انه قال لحوارييه يوماً: أريد أن اغسل أقدامكم قالوا نحن أولى بأن نفعل لك ذلك يا روح الله. قال (عليه السلام): لكي تتواضعوا من بعدي.

5- سعة الصدر، وقد ورد في الحديث (آلة الرياسة سعة الصدر) ولا نفهم من الرئاسة أنها المناصب الحكومية الرفيعة فقط، بل كل ولاية أمر لمجموعة هي رئاسة فالمعلم رئيس لطلابه وشيخ العشيرة رئيس لأبناء عشيرته والعالم الديني وإمام الجماعة رئيس لمريديه وأتباعه والأم رئيسة في بيتها فكل واحد محتاج إلى سعة الصدر لكي ينجح في عمله، ولا بد أن تتناسب سعة الصدر مع عظم المسؤولية فكلما كبرت وازداد عدد المرؤوسين وجب أن يتسع الصدر لاستيعابهم جميعاً، ومما أوصى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عمه العباس (إنكم لا تسعون الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم) فيمكن للإنسان بسعة صدره أن يكسب الناس من حوله ويزيد ثقتهم بقيادته.

6- الحب للناس جميعاً، فليس في قلب المؤمن حقد ولا غل ولا كراهية لذلك جعل الله من نعمه على أهل الجنة انه يزيل ما بقي في صدورهم وقلوبهم من هذا قال تعالى: [وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ] (الحجر:47)؛ لأن هذا الغل والحقد والكراهية أول ما يؤذي صاحبه فيجعل حياته منكدة ومعذبة وباله مشغولاًً بهذه الدوّامة من التفكير مما يقعده عن القيام بالكثير من الأعمال الناجحة، أما لو نقّى قلبه منه فسيكون سعيداً فارغ البال للمسؤوليات المهمة، لكن الناس متفاوتون في تطهير قلوبهم حتى المؤمنين، لذا يوجد من يدخل الجنة وهو لم يكمل تنقية قلبه مما ينكد عليه صفو الحياة في نعيم الجنان فيتم الله نعمته عليه بنزع الغل من قلبه ولكن بعد ألم طويل، فلماذا لا يعمل الإنسان على إزالته من الدنيا لينعم بالسعادة مباشرة ويملأ قلبه بحب الخير للناس جميعاً ولا ينال السعادة الكاملة [إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ] (الشعراء: 89) خصوصاً بين المؤمنين العاملين في مشروع إسلامي واحد حتى لو اختلفوا في الرأي وفي آليات العمل فلا يؤثر ذلك على روح الصفاء، أما ما نراه من تحول المودة إلى تقاطع وانتقاص للآخر وتشويه لصورته وما يتبعه من غيبة ونميمة وسوء ظن وكلها من الكبائر فهذه ليست من أخلاق الإسلام، ولنتأس بالإمام الحسين (عليه السلام) الذي بكى على أعدائه يوم عاشوراء معللا ذلك بأنهم سيدخلون النار بسببي وهم المحتشدون لقتله واستئصال أهله وخاطب الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) أي جميع العوالم من المخلوقات وليس للبشر فقط فضلاً عن المسلمين من أتباعه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلنحمل هذا القلب الكبير المملوء بالرحمة والحب وإرادة الخير ولنتأس بالنبي وآله الطاهرين (صلى الله عليهم أجمعين).

7- حسن الخلق مع الناس والتآلف معهم فمن صفات المؤمن انه يألف ويؤتلف، وهذه من أهم مظاهر الشفافية ويوجد في جوامع الحديث حشد هائل من الأحاديث التي تبني في الإنسان مكارم الأخلاق والخصال الحميدة، قال الإمام الصادق عليه السلام: (ما يقدم المؤمن على الله عز وجل بعمل بعد الفرائض أحب لله تعالى من أن يسع الناس بخلقه فإن الخلق الحسن يميت الخطيئة كما تميت الشمس الجليد)، وعنه (عليه السلام): (أن الله تبارك وتعالى ليعطي ثوابه على حسن الخلق كما يعطي المجاهد في سبيل الله). وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (التودد إلى الناس نصف العقل). فما أجمل أن تستقبل الناس دائماً بالبشاشة والانفتاح وتتودد لهم والبسمة دائماً على وجهك حتى في أحلك الظروف وليس أن تكون عبوساً في وجوه الناس.

8- حمل الآخرين على الصحة والتماس العذر لهم أن لم يعجبك شيء من تصرفاتهم، لذا ورد في الحديث: احمل أخاك على سبعين محمل حسن. وهو رقم يضرب للكثرة لا للتحديد فلو احتجت إلى واحد وسبعين تفسيراً فاحمل عليه، فقد وصلت تربية الأئمة لشيعتهم إلى حد أن الإمام يقول لأحد أصحابه انه لو شهد عندك خمسون قسامة (أي خمسون رجلاً يقسمون عندك) أن أخاك المؤمن قال فيك كذا وكذا ثم جاءك هو وقال لم افعل فخذ بقوله وأزل قول القسامة.

9- المحافظة على حدود الصداقة التي حدها الأئمة المعصومون عليهم السلام  فعن الإمام الصادق (عليه السلام): (لا تكون الصداقة إلا بحدودها فمن كانت فيه هذه الحدود أو شيء منها وإلاّ فلا تنسبه إلى شيء من الصداقة

فأولها: أن تكون سريرته وعلانيته لك واحدة.

والثانية: أن يرى زينك زينه وشينك شينه.

والثالثة: أن لا تغيره عليك ولاية ولا مال.

والرابعة: لا يمنعك شيئاً تناله مقدرته.

والخامسة: وهي تجمع هذه الخصال: أن لا يسلمك عند النكبات).

10- المواساة: بل الإيثار، فعن بعض أصحاب الإمام الباقر (عليه السلام) قال: قال لي الباقر: أرأيت من قِبلكم إذا كان الرجل ليس عليه رداء وعند بعض إخوانه رداء يطرحه عليه؟ قال: قلت: لا، قال:... فضرب بيده على فخذه ثم قال: ما هؤلاء بأخوة.

ووصف القرآن الكريم علاقة المؤمنين فيما بينهم بأكمل من ذلك فقال: [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ] (الحشر: 9).

هذه هي المظاهر الرئيسية للشفافية اختصرتها لكم وهي تتطلب الكثير من الصبر والمصابرة والتربية للاتصاف بها والالتزام بمضمونها وعدم الاكتفاء بإلقاء الكلمات من دون تطبيق لذلك يقول الإمام لشيعته (فأعينونا بورع واجتهاد وعفة وسداد). فالتقوى والورع والصبر وعلو الهمة والإخلاص تساعد على المضي في طريق الكمال قال تعالى: [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ  وإنها لَكَبيرةٌ إلا على الخَاشِعين] (البقرة: 45)، وعلى الله نتوكل ليأخذ بأيدينا وأيديكم لتحقيق هذه الصفات لنستحق شفاعة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ونفوز بمجاورة الأحبة محمد وآله الطاهرين صلى الله عليهم أجمعين والحمد لله رب العالمين.

 

محمد اليعقوبي

21 ج2 1426

الموافق 28/6/2005



([1]) كلمة سماحة الشيخ (دامت تأييداته) في المؤتمر العام الأول لرابطة بنات المصطفى بتأريخ 21-22 جمادى الثانية 1426 الذي تقدمت الإشارة إليه.

([2]) بحار الأنوار :72/34.

([3]) الكافي: 8/20.

([4]) بحار الأنوار: 72/104.

([5])  بحار الأنوار: 72/102.

([6])  بحار الأنوار: 72/101.