خطاب المرحلة (86)... قصم ظهري رجلان

| |عدد القراءات : 2441
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

قصم ظهري رجلان([1])

 بسم الله الرحمن الرحيم

 بالرغم من أن أمير المؤمنين (عليه السلام) تعرض لمحن وكوارث عديدة كان منها خروج الرموز الاجتماعية الكبيرة المنتسبة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في معركة الجمل، واستطاعوا بذلك اقتطاع شريحة كبيرة من الأمة، ثم تمرد معاوية وممارسته للتظليل بخبث ومكر، ثم فتنة التشكيك التي وقع فيها الخوارج وارتكبوا أفظع الجرائم حيث قتلوا عبد الله ابن الصحابي الجليل خبّاب بن الأرت وقتلوا زوجته الحامل وبقروا بطنها واستخرجوا جنينها فقتلوه.

وكل ذلك كلف الأمة عشرات الآلاف من الضحايا الذين كانوا يمكن أن يكونوا قوة عظيمة للإسلام، ولمشروع أمير المؤمنين الإصلاحي وقد تفتّت لذلك قلبه الشريف وذاب، حتى صار يتمنى الموت ومع ذلك لم يعبّر عن شيء منها كما عبّر في حديثه الشريف: (قصم ظهري رجلان عالم متهتك وجاهل متنسك)، وهو (عليه السلام) حينما يقول (رجلان) يقصد تيارين في المجتمع يمثلهما هذان العنوانان، وهما العلم الذي يكون خاضعاً للنفس الأمارة بالسوء وعدم تربيتها التربية الصالحة والانسياق وراء شهواتها والثاني هو الجهل والسذاجة والتخلف المتلبس بلباس الدين فتنعدم عند كليهما القدرة على اتخاذ الموقف الصحيح لأنهما يفتقدان البصيرة التي تدلهما على الهدى، فيضِلان، ويُضلان معهما أمة كبيرة تُخدَع بعلم الأول الذي يراد به غير الله تعالى، وبتنسك الثاني الممزوج بالجهل والحماقة.

وهاتان الظاهرتان هما سبب ضعف الأمة وتمزقها وتمكن الأعداء الخارجيين وسيطرتهم على الأمة، ويساهم هذان الرجلان في إبعاد الأمة عن مسيرتها الصحيحة وقيادتها الحقيقية ويضللان الناس.

أما الأول فبعمله الذي لم يوظفه للهدى والصلاح، والثاني بنسكه الظاهر وتقدسه الفارغ من الوعي والبصيرة والحكمة، وشواهد هذين التيارين كثيرة عبر التأريخ. وهذا ما تعيشه الأمة إلى اليوم، فكيف سنستطيع مواجهة الأعداء الخارجيين ونحن نختزن هذين المرضين اللذين ينخران في جسد الأمة حتى يقضيا عليها ويجعلاها فريسة للطامعين.

وقد نبّه الله تبارك وتعالى عباده إلى هذين الخطرين ووضع لهما العلاجات التفصيلية، فحثّ على التعلم والتدبر والتفكر والحوار والجدال بالتي هي أحسن، واتباع العلماء ونبذ الجهل والتقليد الأعمى للآباء والموروثات الاجتماعية والتعصب للرأي، وكذا فعل الأئمة المعصومون (عليهم السلام) في المئات من الأحاديث الشريفة.

ودعا الله تبارك وتعالى كثيراً إلى مخالفة النفس والهوى وعدم الانصياع لغوايتها وتزيين الشيطان، ومنها قوله تعالى: [فَأمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الحَيَاةَ الدُنّيَا، فَإنَّ الجَحِيمَ هِيَ المَأوَى، وَأمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَفْسَ عَنِ الهَوَى، فِإنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأوَى] (النازعات: 37-41).

وقد فهم الأخلاقيون  من الآية الشريفة عدم اتباع هوى النفس وما تشتهيه حتى في الأمور المحللة إذا وجد شيئاً أفضل منها، فمثلاً حينما يريد الإنسان أن يستريح من حرّ الصيف والانقطاع الطويل للكهرباء وصعوبة الحياة فيسافر إلى أوربا أو الدول المجاورة لقضاء فصل الصيف، فإنه لم يفعل محرماً ولكن ألم يكن الأجدر به أن يواسي أهله وإخوانه ويشاركهم صعوبة الحياة وينفق هذه الملايين في قضاء حاجة مؤمن أو تزويج شباب يعانون من الكبت الجنسي، أو يعالج مريضا يشكو من حالة مستعصية ولا يجد ثمناً للعلاج، فهذه مرحلة أرقى من درجات نهي النفس عن الهوى تزيد العبد قرباً إلى الله تبارك وتعالى.

يروي لنا التأريخ عن عبد الله بن المبارك أنه كان يحج سنة ويتصدق سنة، وفي السنة التي قرر فيها الحج المستحب طبعا وأخذ بالاستعداد له كان يسير في إحدى الطرقات، فرأى امرأة رثّة الثياب جالسة قرب موضع رمي النفايات وهي تنتف ريش دجاجة ميتة فاستوقفه الحال وسألها عن السبب فأعرضت عن الجواب وقالت: أمضِ لسبيلك يا رجل، فإن أمرنا لا يهمّك وأصرّ على استماع جوابها فقالت: اعلم يا رجل أنني امرأة علوية ولي بنات علويات لا نجد قوتاً من أيام، وقد حلّ لنا أكل الميتة فاهتز قلب ابن المبارك ألماً، وشفقة ورحمة وأعطاها المال الذي ادخره للحج ولم يذهب، وبعد انتهاء الموسم ومجيء الحجاج كان الناس يفدون عليه للتهنئة بالسلامة والدعاء بقبول الأعمال والمناسك، ولم ينفع معهم إقامة الشواهد على أنه لم يكن في الموسم؛ لأنهم أجمعوا على رؤيته هناك في جميع المشاعر المقدسة، فأفادت الروايات أن الله تبارك وتعالى بعث ملكاً على صورة ابن المبارك ليؤدي المناسك ويهب ثوابها إلى ذلك الرجل الذي تنازل عن رغبته النفسية بالحج رغم استحبابها العظيم، وساعد أسرة علوية محتاجة بالمبلغ المخصص لتلك العبادة. فحصل على ثواب الحج إضافة إلى ثواب إنقاذ تلك الأسرة المؤمنة.

فعلى الأمة أن تلتفت إلى هذين العدوين الكامنين في داخلها، وهما اتباع الهوى وقلّة الوعي، وإلا فإن الأمة سوف لا تهتدي إلى طريقها ولا تتعرف على قيادتها الحقيقية التي تريد لها الخير والتي وصفتهم الأحاديث الشريفة بأنهم سفن النجاة.

 

محمد اليعقوبي

8 ج2  1426 هـ

الموافق 15/7/2005 م



([1]) من حديث سماحة الشيخ مع وفد ناحية الإصلاح وأور في محافظة ذي قار ومنطقة معمل الورق في البصرة يوم 8 / ج2 / 1426 المصادف 15/7/2005.