خطاب المرحلة (68)...حوارات في الفكر السياسي الإسلامي الحلقة الأولى الفقيه وقيادة الأمة

| |عدد القراءات : 3221
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

حوارات في الفكر السياسي الإسلامي

الحلقة الأولى

الفقيه وقيادة الأمة

 بسمه تعالى وبه نستعين

 وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطاهرين

 

س1: الفقيه المجتهد المجاهد أين يضع نفسه في سياقات الحدث العراقي الفاعلة وتطوراتها وتعقيداتها؟

بسمه تعالى: الإنسان -كل إنسان- جزء من هذه الأمة فيتأثر بحركتها ويؤثر فيها، وقد شبه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كيان الأمة بركاب السفينة لا يستطيع أحد أن يقلع خشبته منها ويقول هذا ملكي وأنا حر بالتصرف فيها فإن مآل ذلك غرق الجميع وهو فيهم، لذا ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) ولا يمكن أن يتكل أحد على آخر، بل يشترك الجميع في تحمل المسؤولية ومن هنا ورد في الأحاديث الشريفة (من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم).

          وما دامت الأمة كياناً واحداً له معالمه وخصائصه فلحركتها – فعلاً أو تركاً – شريعة تنظمها غير التكاليف التي تتوجه إلى أفرادها كأفراد وهذا ما سميته بالفقه الاجتماعي في بحث (الأسس العامة للفقه الاجتماعي).

          ولا شك أن المسؤوليات الملقاة على عاتق الناس تختلف سعة وضيقاً بحسب الموقع الذي يشغله الفرد.

          ويقف الفقيه في قمة تلك المسؤوليات وأوسعها لأنه الكهف الذي تأوي إليه الأمة إذا نزلت بها عظائم الأمور، والنور الذي تستهدي به في حياتها، والمعين الذي تنهل منه معارفها وصمام أمان وحدتها و تماسكها، والقيادة التي تسير خلفها نحو ما يصلح شانها فمحله من الأمة محل الرأس من الجسد والقطب من الرحى.

          وقد نبه الأئمة المعصومون (عليهم السلام) الأمة إلى هذا الموقع الشريف للفقيه الجامع للشرائط فوصفوا الفقهاء بـ (أمناء الرسل)، (حصون الإسلام)،  و(القادة) وإن الفقهاء – بحسب تعبير الإمام – (حجتي عليكم وأنا حجة الله).

ولعل من نافلة القول أن أشير إلى أن المراد بالفقيه الذي تنطبق عليه الأوصاف أعلاه ليس من اكتفى بتحصيل العلم حتى لو بلغ أسنى درجاته، وإنما يحتاج إلى ضم تهذيب النفس والمعرفة بالله تبارك وتعالى، والوعي العميق لهموم الأمة ومشاكلها وقضاياها والظروف المحيطة بها وان يحيط نفسه بمستشارين وعيون مخلصين واعين نزيهين.

وفي ضوء هذه المقدمة نقول إن الفقيه هو العقل الذي تجتمع عنده أفكار الأمة ورؤاها فيصوغها بما آتاه الله من مؤهلات في أفضل مشروع يمكن ان تستقيم به حياتها ويعرضه عليها لتسعى إلى تنفيذه، وهذه العلاقة بين الفقيه والأمة هي التي ترسم أدوار كل منها، فالفقيه ليس رئيس حكومة ولا رئيس دائرة ولا أي شيء من هذا القبيل، وإنما هو الأب والراعي لكل هؤلاء الذين يحققون الخير لأنفسهم ولأمتهم بمقدار أخذهم بتوجيهات المرجعية التي لا تكره أحداً على طاعتها وإنما تعمل على إقناع الناس بمنهجها ومشروعها.

هذا هو باختصار موقع الفقيه من فعاليات الأمة وقضاياها وآمالها وآلامها، وبقي على الأمة أن تتعرف على قياداتها الحقيقية وتفي لها بالتزامها.

س2: كما تعلمون أن القرار السياسي يحتاج إلى أهلية ومقومات فما هي هذه المقومات بنظر سماحتكم؟

بسمه تعالى: ليكون القرار السياسي صائباً أو قريباً من ذلك لا بد أن تتوفر في صاحبه عدة مؤهلات:

1- علمية: بمعنى الإحاطة بالعلوم التي لها دخل في هذا القرار، وعلى رأسها الفقه الذي يمثل الشريعة والقانون الذي ينظم حياة الفرد والمجتمع بأن يكون مجتهداً له القدرة على استنباط الأحكام والمواقف الشرعية لمختلف الحالات.

2- أخلاقية: بأن يكون مخلصاً لله تبارك وتعالى متجرداً عن الأنانية الفردية والفئوية نزيهاً في عمله محباً للناس شاعراً بهمومهم وآلامهم وآمالهم وتحصل هذه الصفات بتربية طويلة و (جهاد أكبر) مع النفس.

3- مهنية: أي الكفاءة والقدرة على إدارة العمل المناط به وتتحقق بعد ممارسة طويلة للعمل والاستفادة من خبرات السابقين وتجاربهم.

4- واقعية: بأن يكون ابن الحالة التي تعيشها الأمة ويولد من رحم المعاناة والظروف التي تمر بها ويكون واعياً للملابسات التي تحيط بالقضية التي يريد أن يتخذ قراراً بإزائها.

وقد أشارت الآية الشريفة إلى تشخيص بعض صفات القيادة في شخصية الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) قال تعالى: [لَقَد جَاءَكُم رَسُولٌ] يحمل رسالة وشريعة ربانية قد استوعبها علماً وعملاً [مِنْ أنفُسِكُم] عاش محنتكم وعرف مشاكلكم وهو خبير بكم، وأنتم أيضاً تعرفونه في صدقه وأمانته وإخلاصه [عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتُّْم] يتألم لما يصيبكم من عناء وشقاء نتيجة الابتعاد عن المنهج الإلهي في الحياة، فله همة عظيمة في إنقاذكم من هذه الحياة النكدة، ولا يعيش هم نفسه فقط ومصلحته وأنانيته ومعزولاً عن الناس [حَرِيصٌ عَلَيكُم] يبذل كل ما في وسعه لإسعادكم ولا يدخر جهداً في إصلاحكم [بِالمُؤمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ] يضحي من أجلهم ويؤثر على نفسه.

س3: لا يخفى على سماحتكم أن الإفتاء في الأمور السياسية أكثر تعقيداً من الأمور العبادية باعتبار أن المسائل السياسية متغيرة فما تقولون بهذه الرؤيا؟

بسمه تعالى: من  الناحية الفنية فإن ممارسة الفقيه للاستنباط لها آليات موحدة كأي ممارسة مهنية، لكن المقدمات و الوسائل التي يستند إليها الفقيه في عمله قد تختلف من مسألة إلى أخرى، ومن هنا قد تنشأ الصعوبة في اتخاذ القرار في القضايا العامة التي تهم الأمة، وهذه الصعوبة لها عدة مناشئ:

أ- أنها تتعلق بمصير الأمة فالخطأ فيها تكون خسارته فادحة بعكس الشؤون الفردية التي لا ضرر فيها على الفرد لأنه معذور باتباعه لمرجعه حتى لو أخطأ ولا تترتب عليه أضرار تذكر. ولهذا كان التدقيق والفحص في المسائل الاجتماعية أكبر والجهد المبذول أكثر.

ب- إن المسائل الفردية قد أشبعت بالبحث من قبل الفقهاء السابقين وبشكل معمق ومستوعب مما يقلل جهد البحث على الفقيه اللاحق بدرجة كبيرة عكس المسائل العامة التي تكون غالباً مستحدثة وذات ظروف موضوعية مختلفة ويكون البحث فيها مبتكراً ولا تخفى صعوبة مثله.

جـ- إن المسائل الفردية قد عولجت مباشرة بالنصوص من قبل المعصومين (عليهم السلام)، أما المسائل العامة فلا يوجد نص ينطبق عليها غالباً، وإنما توجد عمومات وإطلاقات لا تنظر إلى الواقعة بشكل مباشر مما يتطلب إحاطة وموسوعية ودقة نظر الفقيه واستحضار لكل تلك الأدلة، وقد يتطلب الأمر أحياناً ان يفهم الفقيه ذوق الشريعة وروحها وأسلوب عمل المعصومين وهو ما لا يؤتاه إلا ذو حظ عظيم ومن الصعب اكتشافه.

د- إن المسائل العامة تتطلب تعايشاً مع واقع الأمة والظروف المحيطة بها وهو لا يتسنى للفقيه بحسب طبيعة حياته المحافظة، ويمكنه أن يستعيض عنها بمستشارين إلا أن من الصعب أن يجد الفقيه عدداً كافياً من الناصحين الورعين الثقات الموصوفين بالبصيرة الثاقبة ونكران الذات، فمن الممكن أن يكون خطأ الفقيه بسبب الرؤية غير الدقيقة التي ينقلها إليه مستشاروه.

والحل طبعاً وإن كان صعباً على غير العلماء الرساليين الحريصين على إصلاح الأمة وإسعادها، هو أن يعيش الفقيه في أوساط الأمة ولا يحتجب عن أي أحد من أفرادها ويستمع إلى الجميع ليكوِّن لنفسه رؤية خاصة مهما تكون نسبة الخطأ فيها فإنها أفضل من الاعتماد على رؤية الآخرين.

س4: ذكرتم في عدة لقاءات وبيانات أن مجمع السلطات تكون بيد الفقيه الجامع للشرائط في النظام الإسلامي، فأين محل الانتخابات التي تنادون بها وما هو دور الأمة في هذا النظام، وإذا اختارت الأمة رئيساً للجمهورية لا يتصف بملكة الاجتهاد فهل يكون أمرها في سفال كما جاء في بعض الأحاديث عن المعصومين (عليهم السلام)، باعتبار أن أمر الأمة قد تولاه من ليس أهلاً للولاية عليها.

بسمه تعالى: التولية التي مرجعها إلى المجتهد الجامع للشرائط هي التشريعية والقضائية أما التنفيذية كرئاسة الحكومة والوزراء -بحسب النظام السياسي المعمول به-، فيمكن تفويضه إلى الأمة لتختار النزيه الكفوء البصير بمصالحها، ويمضي المجتهد الجامع للشرائط هذا الانتخاب ليكتسب مشروعيته، وباختصار فإن ما هو مختص بالشريعة الإلهية كالتشريع والقضاء فإن مرجعه إلى المجتهد العادل، أما ما يرجع إلى شؤون العباد كإنشاء معمل في المدينة الفلانية وشق طريق بالمواصفات الكذائية فهي التي يمكن لممثلي الأمة في مجلس البرلمان النظر فيها، وليس من حقهم مثلاً أن يشرعوا مساواة المرأة للرجل في الميراث، أو منع تعدد الزوجات ونحوها حتى لو كان التصويت بالأكثرية لصالح هذا القرار.

وعلى أي حال فإن النظام الإسلامي يفترض تطبيقه في مجتمع مقتنع بالإسلام وبقادته، ولذا فهو لا ينتخب إلا من هو ملتزم بالشريعة. وهذا الموضوع من الأمور التي تستحق الكثير من البيان والتفصيل.

محمد اليعقوبي

11  ذ.ق  1425

24/12/2004