خطاب المرحلة (55)...العمل السياسي من الواجبات الشرعية
العمل السياسي من الواجبات الشرعية(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله كما هو أهله وصلى الله على نبيه والميامين من آله وسلّم تسليماً كثيراً.
تقسم الأعمال التي أوجب الشارع المقدس أداءها إلى قسمين:
الواجبات الفردية: وهي التي يتعين على الفرد القيام بها أمام الله تبارك وتعالى سواء قام غيره بمثل ذلك العمل أم لا كالصلاة والصوم فإن الصلاة واجبة على الفرد سواء صلّى غيره أم لا.
الواجبات الاجتماعية: وهي الأعمال التي يجب على مجموع الأمة القيام بها، فإن تصدى واحد أو أكثر لانجاز هذا الواجب سقط التكليف عن الآخرين وإن لم تقم الأمة به أثم الجميع لتقصيرهم كمهنة الطب، فلا بد أن يدرس الطب عدد من أبناء الأمة حتى يقوموا بهذه المهنة الإنسانية فإذا لم يتوفر العدد الكافي لتلبية حاجة المجتمع حوسب الجميع على التقصير.
وقد شرحت التفاصيل في محاضرة (الأسس العامة للفقه الاجتماعي) وهي منشورة في كتاب مستقل وضمن كتاب (نحن والغرب)، ويبدو أن المصطلح جديد على أذهان المتفقهين لأن الأول يسمى (الواجب العيني) والثاني (الواجب الكفائي)، لكنني ذكرت في تلك المحاضرة مبررات هذه التسمية وأثبتُّ وجود هذا الفهم في ذهن الفقهاء وإن لم يطلقوا عليه هذه التسمية.
وقد عُلِم من ذوق الشريعة اهتمامها البالغ بالواجبات الاجتماعية وأعطتها قيمة اكبر من الفردية، كتفضيل العالم على العابد بدرجات كبيرة وان (إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام)، والجهاد الذي وصفه أمير المؤمنين (باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه) وليس لأوليائه فحسب، وكوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي رتّبت عليها الأحاديث الشريفة مصالح حيوية للأمة فبها تقام الفرائض وتحيى السنن وتحل المكاسب ويأمن العباد إلى غيرها من الثمرات، ومثل هذه الثمرات الكبيرة لم تُعط للواجبات الفردية وان كانت تكتسب شيئاً منها باعتبار آثارها الاجتماعية ككون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وهي ثمرة اجتماعية ونحوها.
ولعل من أهم الواجبات الاجتماعية إدارة شؤون الأمة على جميع المستويات وحفظ مصالحها وإقامة الحق والعدل في البلاد، وتفهم هذه الأهمية من واقعة يوم الغدير حينما أمر الله تبارك وتعالى نبيه الكريم (صلى الله عليه واله وسلم) أن ينصب علياً أمير المؤمنين قائداً للأمة من بعده وإماماً لها وجعل هذا العمل في كفة وتبليغ أحكام الشريعة كلها في كفة أخرى فقال تعالى [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَه] (المائدة:67)(1) وحينما يوصي أمير المؤمنين (عليه السلام) شيعته بالتقوى ونظم الأمر فإنما يقصد بتنظيم الأمر هذه الواجبات الاجتماعية لا الفردية التي لا تحتاج إلى نظم الأمر.
هذا هو منشأ وجوب العمل السياسي وهذه هي أهميته بحيث إن الإمام الحسن السبط (عليه السلام) يجعله من أهم وظائف الإمامة (إن الله تعالى ندبنا لسياسة الأمة)([2]) ويقول الإمام الحسين (عليه السلام) (إن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه)([3]).
وإن أحببت دليلاً إضافياً على الوجوب فنقول إن العمل السياسي هو من أوضح آليات وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأوسع القنوات للقيام بها فوجوبه من وجوبها؛ لأن الفرد العامل يستطيع من خلال موقعه الإداري إصلاح الكثير من الفساد والانحراف وقضاء حوائج المؤمنين وحل مشاكلهم ورد الحقوق إلى أهلها وإقامة العدل في الرعية وهذه الأعمال هي المصاديق الرئيسية لهذه الوظيفة الإلهية ولا تتحقق بمعناها الواسع إلا من خلال التصدي لإدارة شؤون الأمة.
وكثيراً ما ننتقد وجود الفساد الإداري واختلاس أموال الأمة والأنانية والفئوية والطائفية وعدم الاكتراث بمطالب الشعب ومعاملتهم بالقسوة والبطش والظلم ولا نعلم أننا أحد الأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة بالعزوف عن العمل السياسي وترك الساحة لأولئك العابثين بمقدرات الأمة، فهذا تقصير غير مغتفر وإذا كان له عذر في الزمان الماضي فليس له عذر اليوم.
فهي مسؤولية كل إنسان كفوء نزيه قادر على أن ينصف الناس ويعطي لكل ذي حق حقه ويقيم النظام ويبسط الأمن ويسير بالعدل ويمنع الظلم والفساد والانحراف بمقدار ما يستطيع، وهذه هي السياسة في الإسلام التي كان على رأس من باشرها رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وأمير المؤمنين والهداة من أهل بيته بحيث نخاطبهم في الزيارة بأنهم (ساسة العباد وأركان البلاد)([4]).
فالسياسة في الإسلام نظيفة في أهدافها؛ لأنها تبتغي رضا الله تبارك وتعالى وإعلاء كلمته والرفق والرحمة بالعباد وتخليصهم من الظلم والاستعباد، ولا تجعل هدفها (المصالح) المادية الضيقة التي تستتبع الأنانية والاستئثار والشح والاستغلال والقهر والقسوة وهي نظيفة في وسائلها فإنها تحافظ على المبادئ والقيم السامية التي تؤمن بها([5]).
ولا تخالفها من أجل متاع زائل بعكس سياسة أهل الدنيا التي تبرر لهم كل وسيلة همجية يربأ عنها حتى وحوش الغاب.
وهذه الفروق نابعة من الأيدلوجية التي يستند إليها كل من الطرفين، ونضرب مثلاً على ذلك من سيرة أمير المؤمنين الذي كان يعلم أن عبد الرحمن بن ملجم المرادي سيقتله وطالما سمع تهديده بذلك ولكنه لم يتخذ ضده أي إجراء ويقول (عليه السلام) (لا يجوز القصاص قبل الجناية) وحاول أصحابه (عليه السلام) القضاء على مؤامرته إلا أنه (عليه السلام) منعهم وقال: (دعوه فإن قتلني فالحكم فيه لولي الدم)([6]).
أما الحكومات المتسلطة حتى التي تدعي الديمقراطية فإنها تجوب البلاد بعدّتها وعددها شرقاً وغرباً لتعتقل أو تعاقب كل من تتهمه بأنه يهدد أمنها، ولو لمجرد الظن والاحتمال، وها هي الولايات المتحدة عنوان حضارة الغرب تسن القوانين التي تبيح لها الضربة الاستباقية في أي بلد على الأرض لإجهاض أي عمل يمكن أن يُعد تهديداً لمصالحها بالمعنى المطاط الواسع الذي شرعته لنفسها.
فالعمل السياسي الذي جعلناه من الواجبات هو ما كان في إطار الإسلام تشريعاً وتطبيقاً، نعم، قد تختلف آلياته بحسب الفرص المتاحة، والشيء المناسب اليوم هو تشكيل التنظيمات الحزبية والنقابية والشعبية والاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني، لا لتعيش الأنانية الحزبية والعصبية المقيتة لها بل لتكون قنواتٍ للعمل وواجهات وكيانات تدافع عن الفرد وتعبر عن مطالبه وتخوض باسمه ومن أجله العملية السياسية.
وقد أوضحت جانباً من هذه الوظيفة الشرعية في بيان سابق بعنوان (ضرورة مشاركة العراقيين في العملية السياسية)([7]) وشرحت فيه دور الحوزة العلمية والمرجعية الشريفة في احتضان هذا العمل ورعايته ودعمه وتوجيهه لأننا نعتقد إن الوقائع الاجتماعية التي تمس حياة الأمة سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو فكرية أو أخلاقية هي من أوضح وأهم مصاديق (الحوادث الواقعة) التي قال عنها إمام العصر صاحب الزمان الحجة بن الحسن (عجل الله تعالى فرجه الشريف) (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم)([8]).
ويبقى على الأمة مباشرة تفاصيل العمل بهمة وحماس وإخلاص حتى لا تترك ثغرة يمكن أن ينفذ منها من لا وازع أخلاقي ولا ديني ولا أنساني له فيعيث في الأرض فساداً ويهلك الحرث والنسل والأمة بمجموعها آثمة لتقصيرها ووقوفها مكتوفة الأيدي حتى ملك زمامها مثل هؤلاء.
وهنا علينا أن نلتفت إلى نقاط:
1- إن العمل السياسي بالشكل المتقدم –أعني تشكيل الأحزاب والمنظمات ونحوها- لا يعني التخلي عن الخيار المرجعي في قيادة الأمة لأنه النظام الأكمل والأقدر على تصحيح مسار الأمة وفق المنهج الإلهي، وقد خطط له أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ووضعوا له أسسه وقواعده، روي عن الإمام الحسين (عليه السلام) قوله: (مجاري الأمور والأحكام بيد العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه)([9]) وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) (فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه)([10])، وأمر الإمام المهدي (عليه السلام) في حديثه المتقدم بالرجوع إلى الفقهاء العارفين بالكتاب والسنة.
بل إن عمل هذه التشكيلات إنما يكتسب مشروعيته في نظر الجماهير حتى تندفع لتأييده ورفده بالعناصر المؤهلة للعمل إذا توفر له الغطاء الشرعي من المرجعية الرشيدة وقد أوضحنا ذلك في بيان بعنوان (الأسس النظرية لحزب الفضيلة الإسلامي)([11]).
2- ضبط أخلاق المهنة فللتعليم أخلاق وللطب أخلاق وللتجارة أخلاق حتى قال الإمام (عليه السلام) (التاجر فاجر ما لم يتفقه في دينه)، فللعمل السياسي أخلاق هي صمام أمان له من الزيغ والانحراف عن أهدافه السامية فلا بد من دراستها ومراقبة النفس باستمرار خلال التطبيق([12]).
وقد حفلت جوامع الحديث بوصايا المعصومين (عليهم السلام) في هذا المجال وإذا تعذر استخلاص الدروس منها فيمكن مراجعة كتب بحثت هذا الموضوع ككتاب (السياسة من واقع الإسلام) للسيد صادق الشيرازي و(الراعي والرعية) للمرحوم توفيق الفكيكي وهو شرح عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر لما ولاه مصر والفصل الرابع من كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية) الذي عنوانه (هل كان الأئمة (عليهم السلام) يحاولون استلام الحكم).
3- إن وظيفة هذه التشكيلات السياسية ليس الدوران في أروقة السياسة والاحتجاب عن الأمة، بل إن وظيفتها جماهيرية فمكانها ليس المكاتب الفارهة الخاوية من المعاني الروحية، وإنما مكانها قلوب الناس وعقولهم وأماكن تجمعاتهم من خلال عطائها للجماهير، فهي تعيش في وعي الأمة وفكرها وهمومها ومشاكلها ومشاريعها الخيرية، وقد نبهت إلى جملة من هذه الخطوات العملية في بيان رقم (53) من سلسلة خطاب المرحلة عن كيفية استثمار العطلة الصيفية للطلبة.
4- إن وجوب العمل السياسي على الأمة لا يعني أنها كلها تترك أعمالها وتعمل بالسياسة فلكل إنسان ما يناسبه وحاجات المجتمع متنوعة وكلها ضرورية لحياته وإنما يتحقق امتثال هذا الوجوب بتصدي النخبة المؤهلة لأداء هذا العمل، نعم، على الأمة أن تمتلك وعياً سياسياً ويكون لها حضور فاعل في قضاياها المصيرية ولا تبقى متفرجة إزاء الأحداث فساحة العمل ليست كساحة كرة القدم يلعب بها اثنان وعشرون ويبقى الآلاف متفرجين بل الكل يشترك بحسب دوره المناسب.
5- على العاملين في الأحزاب والحركات وسائر التنظيمات أن يتجنبوا الأنانية الحزبية، فمن أهم علامات المؤمن الرسالي انه يعيش هم الأمة والرسالة الإلهية العظيمة ويذوّب نفسه وحزبه وعشيرته وكل شيء في الله تبارك وتعالى، فهو يقدّم الأكفأ وينتخبه ولو كان منتمياً لجهة أخرى وهذه الأنانية هي التي أوجبت نفور شرائح اجتماعية واسعة من العمل التنظيمي وفي ذلك خسارة كبيرة للأمة.
6- من الضروري للقائمين على العمل السياسي والفاعلين فيه إنشاء المعاهد لتطوير المهارات والخبرات السياسية والإشعار بأهمية ومسؤولية الأمة عن القيام به حتى يكون الدافع ذاتياً ولا يتوقف على أمر الآمر وتُدَّرس فيها أخلاق المهنة التي اشرنا إليها.
7- اهتمام العاملين في هذا المجال باستماع الموعظة وقراءة القرآن وحضور الشعائر الدينية وعمل كل ما يحيي القلب؛ لأن هذا العمل مهما كانت نيته مخلصة لله تعالى فانه يبقى من أمور الدنيا التي تقسي القلب كالكسب وغيره، وهذه القساوة إذا استمرت بلا جلاء وتنقية فإنها تؤدي إلى الطبع على القلوب فلا تسمع صوت الحق والهدى والعياذ بالله ويذهب نور الإيمان، وإنما يكون جلاؤها بما ذكرناه قال أمير المؤمنين (عليه السلام) موصياً ولده الإمام الحسن (عليه السلام): (يا بني أحيي قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة) وقال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) يوما لأصحابه: (إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد) قيل وما جلاؤها يا رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)، قال (صلى الله عليه واله وسلم) ذكر الموت وتلاوة القرآن.
أسأل الله تعالى أن ينور قلوبنا ويثبتها على الهدى ويسدد خطانا،
ويجري الخير على أيدينا لعباده إنه ولي النعم.
محمد اليعقوبي
27 ج1 1425 الموافق 15 / 7 / 2004
(1) محاضرة ألقاها سماحة آية الله الشيخ اليعقوبي (دام ظله) على العشرات من طلبة معهد التطوير الاجتماعي الذين انهوا محاضراتهم في الدورة الأولى في المعهد وقد أسس المعهد المرحوم الشهيد مؤيد الكعبي بمباركة سماحة الشيخ وقد اقترح الشهيد أن تكون آخر محاضرة يتلقاها الطلبة من سماحة الشيخ.
(2) راجع كتاب (من وحي الغدير) وقد مر في الجزء الأول من هذا الكتاب.