خطاب المرحلة (45)...موقف الشعب من قانون إدارة العراق للمرحلة الانتقالية
موقف الشعب من قانون إدارة العراق للمرحلة الانتقالية(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله كما هو أهله وكما يستحقه حمداً كثيراً وأعوذ به من شر نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي.
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الأبرار الأخيار الذين فرضت علينا طاعتهم ومودتهم وعرفتنا بذلك منزلتهم وسلم تسليماً كثيراً.
يسألني كثير من الشباب المتحمس الغيور على دينه ومجتمعه ووطنه عن تكليفهم في هذه المرحلة شعوراً منهم بالتقصير أمام الله تبارك وتعالى والإمام الحجة القائم بالأمر (عليه السلام) وأمام التاريخ الذي لا يرحم المسيئين والمقصرين لكنه يخلد العاملين المخلصين المضحين بأحرف من نور.
والشعور بالتقصير في العمل مهما تعاظم حجمه وازدادت أهميته ضروري لكي يندفع الإنسان نحو المزيد من التكامل ولا يقع في الرياء والعجب فيحبط عمله ويكون من الهالكين ولا أقل من تقاعسه عن التكامل وفي ذلك خسارة عظيمة.
مواكب الوعي الحسيني للجامعات والمعاهد العراقية:
فهؤلاء الشباب على حق بشعورهم هذا إلا أنني عندما رأيت مواكب([1]) طلبة الجامعات ليلة عاشوراء في كربلاء المقدسة بتنظيمهم الرائع وشعاراتهم الواعية وعواطفهم الثورية وتلبيتهم المخلصة لنداء مرجعيتهم، وعددهم الضخم الذي فاق كل التوقعات وعجز المنظمون للمواكب عن القيام بخدماتهم بالشكل اللائق رغم الجهود الكبيرة التي بذلوها في سبيل ذلك، فامتدت المسيرة عدة كيلومترات واستغرقت عدة ساعات من قبل المغرب حتى بعد منتصف الليل.
أقول: عندما رأيت كل ذلك قلت ماذا يريد أن يقدم هؤلاء الأحبة أكثر من هذا؟ وأي نصرٍ أعظم من هذا؟ فقد حاول المستكبرون وأذنابهم على تسميم الأجواء الجامعية بالرذائل الخلقية، وحرفوا المناهج الدراسية وعزلوا طلبة الجامعات عن علمائهم وقادتهم الحقيقيين، وقضوا على نخب طاهرة منهم وظنوا أن الجامعات قد سقطت بأيديهم ولم يعد للإسلام مكان فيها، وإذا بها تهب بهذا الشكل المهيب رغم قصر وقت الإعداد لتعبر عن انتمائها للإسلام فكراً وعقيدةً وسلوكاً وعن طاعتها وولائها للقادة الحقيقيين للأمة.
أي صفعة وجهوها لأئمة الضلال الذين ولوا الأدبار هم وشياطينهم من الجن والإنس بعد أن نفضوا أيديهم وخسرت صفقتهم، إنها حرب سجال بين الخير والشر وصراع إرادات بدأ قبل أن يهبط آدم أبو البشر إلى الأرض حينما أطاع إبليس نفسه الأمارة بالسوء وتمرد واستكبر على أمر الله تعالى ثم تجلت في صراع ابني آدم وظل الفريقان متصارعين [فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ] (الشورى: 7) والإنسان مخير في الانتماء إلى أيهما [إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً] (الإنسان:3) [مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا] (الجاثـية: 15) وإن كنا نود أن لا يبقى إنسان عاصياً لله تعالى ومتمرداً على شريعته لأننا نريد الخير والسعادة والفلاح للجميع أما هم [وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ] (النساء: 89)، فأنتم منتصرون في هذا الصراع ما دمتم متمسكين بدينكم موالين لأولياء الله ومعادين لأعدائه.
وقد كنت وأنا أشاهد دخولكم بذلك الجلال والكمال إلى الحرم الحسيني المطهر أتخيل أن الإمام الحسين (عليه السلام) واقف أمام ضريحه المبارك يحتضنكم واحداً واحداً، وحوله أولاده وأهل بيته وأصحابه يباركون لكم هذا الانتماء المقدس إلى مدرسة الإمام الحسين (عليه السلام)، وهو (عليه السلام) يستعرض كتائبكم وأفواجكم ويقرأ أسماء جامعاتكم وكلياتكم ومعاهدكم ومؤسساتكم، ويردد معكم الشعارات الواعية المستوعبة لأهداف ثورته العظيمة مسرور القلب منشرح الصدر، وهو يرى أن دمه المبارك لازال منتجاً ومثمراً، ألم يقل (عليه السلام) (وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)) وأمة جده باقية إلى يوم القيامة فخروجه للإصلاح شامل لكل الأجيال وخالد على مر الزمان إلى يوم القيامة ما دام هناك فساد يجب إصلاحه.
وهنأت في نفسي صاحب العصر والزمان الإمام المهدي الموعود (عليه السلام) بهؤلاء الجنود الذين تعبأوا وتهيأوا لنصرته والتضحية من أجل إقامة دولته المباركة وقلت: قرت عينك يا سيدي يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه الوجوه المشرقة المنيرة التي تشع إيماناً وولاء صادقاً وشوقاً لنيل رضا الله تبارك وتعالى.
وقَرت عين علمائنا وشهدائنا وهم يرون أن جهودهم وجهادهم لم يذهب سدى.
وفي نفس الوقت كنت أتوقع من أعضاء مجلس الحكم أعانهم الله تعالى على المسؤولية الشاقة التي اضطلعوا بحملها أن يحترموا مطالب وتوجهات ذلك الحشد المليوني في مدينة كربلاء المقدسة الممتلئ ثورة وحباً للتضحية، وما زادته الجريمة النكراء([2]) التي حصدت أرواح المئات منهم إلا ثباتاً وإصراراً على مواصلة الشعائر بذلك الشكل المهيب، حيث انطلقت مواكب الهرولة([3]) تلبية لنداء الإمام الحسين (عليه السلام) (هل من ناصر، هل من مغيث، هل من معين) بعد صلاة الظهر وعقيب الانفجارات المروعة بشكل منقطع النظير، ويعجز غير الموالي لأهل البيت (عليهم السلام) عن فهم سره ومعرفة كنهه فطوبى لهم جميعاً.
أقول: كنت أتوقع من أعضاء مجلس الحكم وقد أجّلوا التوقيع على قانون إدارة العراق للمرحلة الانتقالية إلى ما بعد عاشوراء، أن يكونوا أوفياء لهذه الجماهير وملبين لمطالبها لكنهم تجاهلوهم ولم يكلفوا أنفسهم الاتصال بالقيادة الحقيقية الممثلة لهذه الجماهير والتي تدين لها بالولاء والطاعة.
إنها أول ديمقراطية يكون فيها رأي الأقلية القليلة هو السائد والمهيمن والأكثرية تكافح من أجل البقاء فقط، فالإسلام دين أكثر من 90% من أبناء الشعب بل إن الإسلام هو مصدر ثقافته وأعرافه وتقاليده وعنوان حضارته وتاريخه أُحتِرم بخجل في هذا القانون وعُدَّ مصدراً للتشريع كبقية المصادر، ولم تقيد الحريات الممنوحة في مواد القانون بعدم مخالفتها للشريعة الإسلامية بكلام متصل، عدا ما قيل في (المادة السابعة/أ) من عدم جواز سن قانون يتعارض مع ثوابت الإسلام المجمع عليها وهو كلام يمكن التحايل عليه.
والفدرالية التي أقرت على أساس جغرافي لا مبرر لها في بلد متوحد صغير نسبياً كالعراق، وإنما هو مناسب لدول تريد أن تجتمع كما أن الفدرالية من القرارات التي يجب أن يشارك الشعب كله في اتخاذها باستفتاء عام، كما أن إقرارها بهذا الشكل الآن سوف يركزها في الواقع وتصبح حقيقة مسلّمة يصعب على واضعي الدستور الدائم إلغاؤها أو تعديلها، كما أنها ستكون منشأ للكثير من الخلافات التي تمزق الوحدة الوطنية للخلاف أصلاً على حدود الأقاليم.
هذا غير الفقرة (جـ) من المادة الحادية والستين التي تعطي حق النقض لثلاث محافظات على الدستور الدائم إذا صوت ثلثا سكانها على الرفض، وثلثا الثلاثة اثنان، ففي أي ديمقراطية يوجد حق لاثنين أن ينقضوا إرادة ستة عشر([4])؟ إن هذه الفقرة ستعرقل وضع أي دستور؛ لأن أي فقرة تحفظ حقوق طائفة ينقضها الآخر لأنه يراها غير منسجمة مع أطروحاته فيمكن لثلاث محافظات في وسط أو جنوب العراق أن تنقض المادة التي تنص على شكل نظام الحكم المقرر، وتختار نظام ولاية الفقيه مثلاً وهكذا في بقية المواد فكيف ستكون النتيجة؟ ! وكيف سنتمكن من كتابة دستور؟
والمرأة التي يتاجرون بظلمها واضطهادها لا تعاد لها كرامتها بتخصيص ربع المقاعد لها، فهذا مما لا يوجد حتى في ديمقراطيتهم التي يتشدقون بها، وإنما بمساواتها بالرجل من حيث حق الترشيح والانتخاب، ثم يترك الحكم لصناديق الاقتراع لتقرر الأكفأ والأصلح سواء كان رجلاً أو امرأة ومهما بلغ عدد كل منهما.
والخلاصة إن هذا القانون فيه ثغرات كبيرة يمكن أن تكون مفتاحاً للشر والعياذ بالله، ومهما قيل في تبريرها كحفظ حقوق الأقلية ونحوها فإنها واهية وضعيفة، ونحن نطالبهم بما ألزموا به أنفسهم من احترام رأي الأكثرية مع ضمان حقوق الأقلية بالنظام الذي وضعوه لهم وليس بهذه القرارات المجحفة.
وهل روعيت الأقلية المسلمة في بلاد الغرب بمثل هذه الفقرات، والشواهد في الولايات المتحدة وفرنسا تشير إلى غير ذلك.
فالحقيقة إن هذه الفقرات إنما وضعت لضمان تحكم إرادة المحتل في القرار الوطني عبر هذه الثغرات، وإلا فإن الشعب العراقي بخصاله الكريمة ورحمته وتسامحه وحبه لوطنه لا يحتاج إلى ضمانات لحفظ حقوق الأقليات التي لم تضطهد من الأكثرية ولا من فئة معينة عرقية أو مذهبية، وإنما اضطهد الجميع بما فيهم الأكثرية من قبل عصابة لا إنسانية متسلطة، وأنا واحد من أبناء هذا الشعب يعلم الله كم ملأني السرور حينما اجتمعنا عرباً وأكراداً سنة وشيعة في منطقة واحدة([5]) حين سافرنا لأداء فريضة الحج المباركة، بعد أن حرمنا المجرمون منذ سنين من هذا الاجتماع المبارك.
إن لهذه الجماهير مطالب لا تتنازل عنها وسوف تعود إلى إقامة هذه الشعيرة المقدسة في هذا المكان إذا لم تتحقق بتعهدات واضحة من أعضاء مجلس الحكم.
1- إن لا يتحكم قانون الإدارة الانتقالية بالدستور الدائم الذي تكتبه لجنة منتخبة من قبل الشعب مطلقاً.
2- إن لا يتخذ مجلس الحكم قرارات مصيرية كتجنيس الأجانب، وخصخصة القطاعات الحيوية وعقد المعاهدات الأمنية الإستراتيجية؛ لأنه مجلس انتقالي فاقد للشرعية وهذه من صلاحيات مجلس منتخب من قبل الشعب، ولا تكون قراراته ملزمة للحكومة المنتخبة.
3- المشاورة والتنسيق مع القوى الدينية والسياسية الموجودة في الساحة العراقية قبل اتخاذ مثل هذه القرارات وعدم التفرد بإصدارها ولتكون شاملة لأكبر مساحة من أبناء الشعب.
4- الإعداد الفوري لإجراء انتخابات حرة مباشرة لجميع أبناء الشعب حتى يختار الجمعية الوطنية وما يليها من مؤسسات دستورية وعدم تجاوز السقف الزمني المحدد لها.
5- تقييد مواد الدستور بعدم المخالفة للشريعة الإسلامية في كل موضع يمكن أن تنفذ منه هذه المخالفة.
6- العمل الجاد لتشكيل الأجهزة الوطنية التي تحفظ النظام كالجيش والشرطة وتجهيزها بما ينجح عملها، ومن ذلك المباشرة بإعادة تشكيل وزارة الدفاع([6]) بالعناصر الوطنية الملتزمة التي لم تتورط بالجريمة ولم تصر عليها.
إننا إذ نقدر الجهود التي بذلها أعضاء مجلس الحكم للوصول إلى هذا القانون، ونعتقد أنه خطوة مهمة في طريق بناء العراق الجديد وتسلم العراقيين للسلطة، إلا أننا لا نريد لهم أن يفسدوا من حيث يريدون أن يصلحوا، ولا نقبل بوضع حلول مرتجلة قد تنفع أياماً إلا أنها تؤسس واقعاً مليئاً بالمشاكل، بل نريد منهم جميعاً أن يتعاونوا لوضع حلولٍ صالحة بناءة كريمة وهو أمل كل مخلص غيور، كما أننا لا نكتفي بتسليم السلطة وإنما نطالب بتسليم السيادة أيضاً.
محمد اليعقوبي
18 محرم 1425 الموافق 10/3/2004
((1) خطبتا صلاة الجمعة التي أقيمت في ساحة الفردوس وسط بغداد بإمامة الشيخ علي الإبراهيمي وحضور الآلاف من المؤمنين بأمر سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)؛ للاحتجاج على فقرات في قانون إدارة العراق للمرحلة الانتقالية يوم الجمعة 20 محرم 1425 الموافق 12/3/2004، ودعا فيها طلبة الجامعات إلى الإضراب يوم غد السبت، وقد عطلّت الجامعات فيه بشكل كامل، وقد وقع مجلس الحكم على ذلك القانون يوم الأثنين 16 محرم الموافق 8/3/2004 بعد شد وجذب وتحفظات شديدة، وجاءت إقامة هذه الصلاة كخطوة في سلسلة من الخطوات لتحريك الشارع العراقي باتجاه رفض بعض فقرات القانون المذكور. وقد اقتحمت القوات الأمريكية في اليوم التالي جامع الرحمن في حي المنصور ببغداد الواجهة الرئيسية لنشاطات أتباع سماحة الشيخ اليعقوبي والموقع الدائم لصلاة الجمعة وصادرت أسلحة الحراس وطالبت الإدارة بوثائق تثبت أحقيتهم بإدارة المسجد في عملية تخويفية واضحة ومعلومة التوقيت، وقد تكررت هذه الاقتحامات في كل حركة مماثلة.
(1) إشارة إلى مواكب الوعي الحسيني لطلبة الجامعات العراقية التي دعا آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) إلى تنظيمها في كربلاء المقدسة ليلة عاشوراء في بيان سابق منشور في هذا الجزء من خطاب المرحلة، واستجاب للنداء أكثر من عشرة آلاف طالب وعدد كبير من الأساتذة قدموا من مختلف جامعات العراق ومعاهده.
(2) في صبيحة عاشوراء والمؤمنون في قمة ثورتهم العاطفية قام التكفيريون المجرمون بتفجير قنابل وأحزمة ناسفة وسط هذا الحشد البشري الهائل.
(3) المعروفة بمواكب عزاء طويريج.
(4) مجموع محافظات العراق ثمانية عشر.
([5]) يقصد به محل استضافة الحجاج في مدينة الجهراء الكويتية، وقد تقدمت الإشارة إليها (صفحة 268).
([6]) استمر سماحة الشيخ (دام ظله) بالمطالبة بتشكيل وزارة الدفاع (راجع صفحة 286 ومواضع أخرى) للضغط على المحتل الذي كان يسوّف فيها ليبقى ماسكاً بالملف الأمني في العراق يديره كيف يشاء وينفّذ مآربه.