خطاب المرحلة (27)... تعليقات على الاتفاق لإدارة المرحلة الانتقالية
تعليقات على الاتفاق لإدارة المرحلة الانتقالية
عقد مجلس الحكم العراقي اتفاقاً مع سلطات الاحتلال في الخامس عشر من شهر تشرين الثاني الحالي 2003 يبين جدولاً زمنياً لعملية أعادة السيادة والسلطة إلى العراقيين ليديروا شؤونهم بأيديهم ويتخلصوا من الاحتلال.
والاتفاق من حيث المبدأ خطوة على الطريق الصحيح فلطالما طلبنا ومعنا المخلصون من أبناء البلد بوضع مثل هذا الجدول الزمني لطمأنة الشعب بجدية مثل هذه الخطوات لسحب المشروعية من كثير من الهجمات التي تحصل هنا وهناك وذهب ضحيتها الأبرياء أكثر من غيرهم، ولرد المشاريع التي تطرح بين آونة وأخرى كحل للخروج من المأزق السياسي الذي يعيشه البلد، وقد قلنا إن جزءاً من حل المشكلة الأمنية هو الحل السياسي الذي يحفظ للجميع حقوقهم وللبلد كرامته وعزته.
ونأمل أن تكون الأطراف الموقعة على الاتفاق جادة وصادقة في وضعه وتنفيذه إلا أن عدة مؤشرات تحبط هذا الأمل وتبدده:
1. إن المشروع لم ينشأ عن شعور بالمسؤولية وبالحاجة إلى عمل وطني لتحرير البلد من الاحتلال بالطرق السلمية، وإنما عرض بعد ضغوط الولايات المتحدة وقرار مجلس الأمن الأخير الذي ألزم مجلس الحكم بتقديم مثل هذا الجدول الزمني قبل الخامس عشر من كانون الأول، بل إن الدلائل تشير إلى أن سلطة الاحتلال هي التي وضعته ونسبته إلى مجلس الحكم للحفاظ على ماء الوجه.
2. تصريحات العديد من المسؤولين والمحللين في الولايات المتحدة بأن إعلان الاتفاق كان لأغراض دعائية تخص حملة الرئيس الأمريكي بوش لإعادة انتخابه لرئاسة الولايات المتحدة العام المقبل بعد أن تصاعد استياء الشعب الأمريكي من كثرة خسائره في العراق وتورط الولايات المتحدة في حرب (فيتنام ثانية)، فيعيد الاتفاق للأمريكيين الأمل بالتخلص من هذا الكابوس، وقد دلت استطلاعات الرأي العام الأمريكي على تراجع شعبية بوش والشعور بفشل العمليات العسكرية في العراق.
3. تعقيد آليات تنفيذ هذا الاتفاق وإطالة زمنه لأكثر من سنتين مما يجعله عرضه للإلغاء والتجميد في أي لحظة بمبررات لا يصعب إيجادها، كعدم استقرار الوضع الأمني وعدم وجود سلطة عراقية كفوءة تقود العملية ونحوها، فيمكن لسلطة الاحتلال أن تقلب الطاولة في وجه مجلس الحكم وجميع العراقيين حينما تشعر بأن سير عملية تنفيذ الاتفاق في غير صالحهم وهم يلمحون إلى ذلك بقولهم: (إن العراق ما زال بحاجة إلى قائد جديد) و (إن تسريع عملية تسليم السلطة إلى العراقيين لا يخدم المصالح الأمريكية) ونحوها.
ويبدو أن مجلس الحكم تساوره هذه الاحتمالات أو يعلم بها لذا طلع علينا السيد جلال الطالباني الرئيس الدوري لمجلس الحكم في لقاء مع جريدة الزمان أجراه الأسبوع الماضي في طهران أثناء زيارته لها قائلاً: (في السياسة لا يوجد إطلاق) (جريدة الزمان عدد 22/11/2003) وهو بصدد الحديث عن جدية الولايات المتحدة في تنفيذ هذا الاتفاق لذا فإن خط الرجوع عن تنفيذ الاتفاق في أي مرحلة من مراحله يبقى مفتوحاً كما أن الأمل بالله تبارك وتعالى في أن يحقق الخير لهذا الشعب المضطهد المظلوم أكبر من أن ينال منه كيد الخائنين ومكر الماكرين وان كان مكرهم لتزول منه الجبال.
وإن الحوزة الشريفة التي هي المرجعية الحقيقة للأمة ولها إمامة القلوب وإن تسلط غيرها على الأجساد ترى من وظيفتها الإلهية أن تنظر بدقة وعمق إلى كل ما يطرح من مشاريع ويثار من قضايا لتقدمها وتنقدها نقداً بنّاءً، فتصحح ما صح منها وتعالج خلل ما أخطأ منها، وفي الحقيقة فإن هذه المراقبة هي وظيفة الأمة جميعاً فمن المؤلم حقاً أن ترى العراق مهد الحضارات وبلد الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) وعاصمة دولة العدل الإلهي ومجمع الخيرات، وكأنه سفينة في بحر هائج تتقاذفها الأمواج يتفرج عليها مالكوها ويحاول الانتهازيون سلب خيراتها، ولا يتصدى لها قائد مخلص أمين يأخذ بزمامها إلى بر الأمان.
وفي هذه السياق نبين التعليقات التالية على الترجمة العربية لنص الاتفاق:
1. إنه ينيط بمجلس الحكم وبالتشاور مع سلطة الاحتلال مسؤولية وضع (القانون الأساسي) وقد اشترط في إحدى فقراته أنه لا يغير ولا يبدل وهذا المصطلح (القانون الأساسي) هو معنى كلمة (الدستور) وقد تضمن هذا القانون فعلاً فقرات تعبر عن المبادئ الأساسية للدساتير من حريات وحقوق وتنظيمات إدارية فهذا سن للدستور أو يخشى أن يقر هذا القانون على أنه دستور لمدى غير معلوم وتميع قضية صياغة الدستور من قبل هيئة منتخبة من قبل الشعب .
2. إنه أخذ مسلماً في القانون الأساسي الترتيب الفدرالي وفيه مصادرة لإرادة الشعب العراقي الذي يجب أن يستفتى عن هذه الصيغة؛ لأن كل جزء في العراق هو ملك العراقيين جميعاً وليس لأحد أن يستأثر بشيء دون آخر مهما كانت المسوغات وقد شبه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كيان الأمة الواحدة بالسفينة التي يشترك فيها عدد من الناس فليس لأحدهم أن يقلع خشبته ويقول هذه لي لأن النتيجة غرق الجميع.
وأنا كفرد عراقي لا أريد الفدرالية التي هي مقدمة لتقسيم العراق والتفكيك، بل هي كذلك فعلاً من الناحية المعنوية والشعور على الأقل، والفدرالية إن كان فيها خير فللأجزاء التي تريد أن تتجمع وليس للكل المتحد الذي يراد تجزئته فلا بد أن يبقى العراق كلاً واحداً متحداً ولجميع أبنائه حق فيه كله.
وهذا من الناحية السياسية وهو لا يمنع من تحقيق لا مركزية في الإدارة لمراعاة خصوصيات المحافظات المختلفة من حيث اللغة والدين والمذهب والعرق وإعطاء صلاحيات واسعة للإدارات المحلية في المحافظات.
3. تقرير قابلية التغيير والتبديل في القانون الأساسي عند موافقة ثلثي أعضاء المجلس المنتخب من قبل الشعب.
4.يعطي الاتفاق دوراً مهماً للمجلس البلدي أو مجلس المحافظة الحالي فثلث أعضاء اللجنة التنظيمية الخمسة عشر هم من هذا المجلس، وستتكفل هذه اللجنة بعقد المؤتمرات الانتخابية مع الواجهات الاجتماعية والسياسية والعشائرية والدينية لانتخاب ممثلي المجلس الانتقالي، وهي التي تصادق على ترشيح الأشخاص للمجلس وتختبر أهليتهم.
ونحن نعلم أن المجالس البلدية وأتكلم من زاوية مدينة النجف الأشرف قد شكلت في غفلة من الزمن وفي عمليات ارتجالية هزيلة لا تعبر بشكل من الأشكال عن إرادة أبناء المدينة، فلا بد من أعادة انتخابات المجلس البلدي بطريقة حرة ومباشرة وعلنية ويحضّر لها أو يعاد النظر في تشكيل هذه اللجان التنظيمية خصوصاً مع ملاحظة النقطة التالية.
5. إن اللجنة التنظيمية المذكورة تُغَيِّب صوت أبناء مراكز المحافظات تماماً والأقضية والنواحي غير الرئيسية لأنها افترضت أن أعضاء اللجنة خمسة عشر يعين مجلس الحكم خمسة منهم ويعين المجلس البلدي خمسة آخرين، وأما الخمسة الآخرون فهم عضو واحد من قبل المجلس المحلي في المدن الخمس الكبرى في المحافظة فمن الذي سيمثل أبناء مركز المحافظة والمدن غير الكبرى؟
6. إن المجلس الانتقالي الذي هو بمثابة (برلمان انتقالي) سوف لا يُختار مباشرة من الشعب بحرية وإرادة كاملتين وإنما ستنتخبه الواجهات العشائرية والدينية والاجتماعية والسياسية وفي هذا:
أ. تغييب لشريحة كبيرة من المجتمع من الذي لا ينتمون إلى هذه الواجهات ولا يعترفون بمصداقيتها في تمثيلهم.
ب. غبن مراكز الثقل في المجتمع كالمرجعية الدينية التي سيكون لها صوت كما لبعض الواجهات التي لا يتجاوز عدد أفرادها أصابع اليد صوت واحد مثلها، وهذه قسمة ضيزي وغير معبرة عن تطلعات الشعب.
جـ- إنها ستتعرض للإشكالات التي تعرض لها مجلس الحكم والمجالس البلدية من أنها تمثل الفئوية والطائفية وعدم الاستيعاب والانفتاح على الجميع وغيرها مما سيعرض البلد إلى مزيد من المشاكل والمصادمات وفقدان الأمن والاستقرار وضياع هذه الفرصة التي يتطلع فيها الجميع لحل مرضي لجميع الأطراف.
وفي عقيدتي فإن هذه الفقرة هي من أخطر ما في الاتفاق وأكبر سبب لإفشاله ووصوله إلى طريق مسدود بعد أن يكون الشعب قد أضاع سنتين من عمره في هذه العملية المعقدة بما تتضمنه السنتان من خسائر وآلام وضحايا لنعود إلى نقطة الصفر والبداية من جديد.
7. ترك الاتفاق بعض الفقرات مبهمة وهذا سيكون مسوغاً للالتفاف عليه أو تأجيله وعرقلته، فمثلاُ قال إن المؤتمرات الانتخابية في المحافظات سوف تنتخب ممثلين ليمثلوا المحافظة في المجلس الانتقالي الجديد مرتكزة على النسب المئوية للشعب العراقي وهذا كله يجب أن يحصل قبل 31 آيار 2004، وحينئذٍ نسأل كيف تحدد النسب المئوية للمحافظات من الشعب العراقي، وهل يوجد تعداد عام للسكان يحدد هذه النسب أي سكان كل محافظة، وإذا وجد فلماذا لا يعتمد كأساس لإجراء انتخابات عامة مباشرة التي يبررون عدم إجرائها لعدم وجود إحصاء دقيق وإذا كانوا سيجرونه فلماذا لا يكون ذلك مقدمة لإجراء هذه الانتخابات الحرة المباشرة.
ومن جهة أخرى فإنهم قالوا: إن المجلس الوطني الانتقالي يتألف من (36) عضواً حيث يمثل كل محافظة عراقية عضوان فأين هذا من النسب المئوية لتعداد كل محافظة.
8. عدم وجود دور للأمم المتحدة في الإشراف على العملية في حين أن الشعب يطالب بذلك لرفع الحساسية التي يشعر بها فيما لو تصدت قوات الاحتلال بمفردها لذلك.
وعلى أي حال كان بالإمكان تلافي هذه الإشكالات والآليات المعقدة الطويلة لترتيب المرحلة الانتقالية بتنفيذ المشروع الذي وضعنا خطوطه العريضة الرئيسية، ولم تعترض عليه مرجعية رئيسية أخرى في النجف الأشرف، ويتلخّص بإجراء انتخابات عامة مباشرة لاختيار أعضاء مجلس تأسيسي بمثابة البرلمان من (260) عضواَ حيث يمثل كل عضو (100) ألف من الشعب، ويعين هذا المجلس لجنة لصياغة الدستور وهو الذي يختار حكومة أو يصادق على الحكومة الحالية بعد أن تعرض عليه فرداً فرداً وينحل مجلس الحكم ويبقى منه مجلس الرئاسة فقط بعد تقليص عدده ليمارس دور رئاسة الجمهورية ويمكن أن تقوم وزارة التخطيط بالتعاون مع وزارة التربية والجهات الشعبية والدينية والسياسية لتوزيع المراكز الانتخابية على المدارس ويتولى المعلمون والمدرسون جمع المعلومات وتدقيقها على البطاقة التموينية وهي عملية لا تستغرق طويلاً وتكون ذات مشروعية كاملة في كل قراراتها لاستنادها إلى إرادة الشعب وبإشراف لجان خاصة وكان المشروع يمكن أن ينفذ قبل الآن لأنه عرض قبل عدة أشهر ونكون قد جنبنا بلدنا وشعبنا الكثير من المشاكل ومع ذلك فإن الفرصة لم تفت ومازالت قائمة.
إن ما يثار من إشكالات على إجراء عملية انتخابات حرة مباشرة كعدم وجود حالة أمن مستقرة لا واقع لها([1])؛ لأن أكثر مناطق البلد مستقرة وتجري فيها الأمور بشكل طبيعي، وإن عدم إمكان إجراء انتخابات في عشرة أو عشرين بالمائة من مناطق العراق غير المستقرة أو غير المثبتة في بيانات لا يضر بصحة الانتخابات ومشروعيتها، فإنه ما من بلد في العالم يشارك فيه كل من يحق له الانتخابات بل إن المشاركة في بعض البلدان تصل حتى إلى 50% كما في الولايات المتحدة. مع ذلك فإن المدن التي يتعذر إجراء الانتخابات فيها يمكن أن تطالب بتقديم مرشحها ولو تعييناً من قبل أبنائها بحسب النسب المقررة.
إن شعبنا الذي اثبت قدرته على إدارة مشاكل معقدة في الفترة السابقة وفي تنظيم الزيارات المليونية التي تحصل للأئمة الأطهار (عليهم السلام) بين فترة وأخرى فتجري بكل دقة ونظام ولا تشهد أي خرق أمني بل ولا حتى حادث مروري، لا يصعب عليه تنظيم انتخابات عامة.
فإذا توفر الإخلاص والصدق والشعور بالمسؤولية والهمة العالية فإن العملية ستتم بإذن الله تعالى وبأسرع وقت وبها يخرج بلدنا من هذا المأزق الذي هو به، ومن يرفض مثل هذا المشروع فإننا لا نتوقع منه الصدق في تنفيذ الاتفاق المعقود للفترة الانتقالية الذي نحن بصدد التعليق عليه لأنه يتضمن إجراء انتخابات أيضاً في بعض مراحله فما الفرق بينهما.
أرجو أن تؤخذ هذه التعليقات بنظر الاعتبار وقد كتبناها باختصار ويمكن استمرار الحوار لبيان تفاصيلها، وأسأل الله تعالى أن يحمي هذا البلد وشعبه من كل سوء ويوفق العاملين المخلصين لما فيه خير الأمة وصلاحها.
محمد اليعقوبي
29 رمضان 1424 المصادف 24/11/2003
([1]) استمرت هذه التوعية للضغط على قوات الاحتلال حتى ترضخ لمطلب إجراء الانتخابات وتبعها بعدئذٍ مسيرات شعبية دعت إليها المرجعيات الدينية حتى أثمرت عن تحديد موعد انتخابات عامة في 31/1/2005.