خطاب المرحلة (25)...كيف نعيد لصلاة الجمعة بريقها
كيف نعيد لصلاة الجمعة بريقها
بسم الله الرحمن الرحيم
نُقل لي وتؤيده بعض الشواهد أن توجه الناس إلى الشعائر الدينية اقل مما كان في زمن النظام المهزوم، وحتى صلاة الجمعة المباركة التي كان يتوقع لها أن تكون أمضى سلاح في عملية التغيير والتربية والإصلاح لم يعُد لها ذلك البريق والجاذبية الروحية التي كنّا نحسّها حين أقامها السيد الشهيد الصدر (قدس سره)، وكانت من أعلى درجات المواجهة مع الطغاة، وكان المفروض زيادة عدد المصلين الآن بعد زوال المانع من الحضور ومشاركة عدد من الجهات المرجعية في دعمها وإقامتها.
لكن الذي حصل هو انحسار عدد المصلين ولا نجد فيهم ذلك الحماس الجماهيري والروح الثورية التي كانت تتدفق من المؤمنين وهم يزحفون بشجاعة وصبر إلى محاّل أقامتها فلماذا حصل هذا وكيف نحمي الشعائر المقدسة من هذه التداعيات التي تقلل من تأثيرها، في تحقيق أهدافها وهي تزكية النفوس وتطهير القلوب ولمّ الشمل وتقوية الصف وعزة الدين والمذهب وتحقيق وحدة الموقف بإزاء القضايا المصيرية.
وإذا استقرأنا الواقع ودرسناه برؤية تحليلية عميقة فسنجد لذلك أسباباً ومناشئ يكون تشخيصها والتعرف عليها الخطوة الأولى، والمهمة في وضع الحلول المناسبة، إلا أنني أودّ الإشارة إلى أحد تلك الأسباب، وهو عدم شعور الناس بعنصر التحدي والمواجهة بإقامة هذه الصلاة، بعكس ما كان في زمن النظام المقبور حيث كان كل مصلَّ يشعر بحضوره ومشاركته في هذه الشعيرة أنه يسجل موقفاً معارضاً للسلطة ورافضاً لوجودها ومتحدياً لأساليبها وأعمالها الوحشية في القمع والمنع، وهذا الشعور كان يدفع الكثيرين للحضور والتضحية من أجل المشاركة بكل شيء حتى النفس ولا يُنكر أثر هذا الحافز في التحرك والفعالية والهمة والنشاط وهذا واضح ومجرب فمثلاً الطالب عليه أن يحضّر الدرس من قبل تلقيه والمدرس عليه التحضير كذلك قبل إلقائه، لكن اهتمام المدرس بذلك أكبر لوجود تحدي من قبل الطلبة، إذ ربما يسأله أحدهم أو يعترض وتشكل عليه فيستعد المدرس ليكون بمستوى هذا التحدي، بعكس الطالب الذي وظيفته التلقي، نعم إذا توقع الطالب امتحاناً فإنه سيشكل له تحدياً وسيدفعه إلى بذل الجهد.
وقد التفتت القوى المستكبرة إلى هذه النقطة لذا فإنها توجّه شعبها دائماً نحو عدو سواء كان حقيقياً أو وهمياً لكي تقنعه بمخططاتها ومشاريعها التي لولا هذا التحفيز باتجاه العدو لما وجدت الشعب متجاوباً معها ومؤيداً لها فلا يتحمس لتنفيذها فقضوا عشرات السنين في حرب باردة مع الاتحاد السوفيتي وكلما احتاجوا إلى تمرير أمر على شعوبهم سخنوا هذه الحرب وهوّلوا من أخطارها ونشروا القلق والرعب من مستقبلها، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وجدوا في الإسلام عدوهم الجديد الذي يحشّد الناس من ورائهم فضخّموا من خطورة هذا العدو ونعتوه بأوصاف مقززة ومثيرة للاشمئزاز والكراهية والنفور، واستطاعوا بذلك إقناع شعوبهم بأمور مخالفة للمبادئ التي يؤمنون بها، فخصصوا زيادات بمليارات الدولارات للميزانية العسكرية، وسنّوا قوانين منافية لحقوق الإنسان التي يتشدقون بها، وأجازوا لأنفسهم الحرب الاستباقية والتدخل في شؤون البلدان الأخرى تحت ذرائع شتى ومصادرة أرادة الشعوب
وحينما جاؤوا إلى هنا أباحوا كل شيء وسمحوا بحرية الصحافة والنشر وإقامة الشعائر، واندفع الجميع نحو التمتع بهذا الحق فالكل يكتب والكل ينشر والكل يتحدث ويتكلم والكل يتدخل في السياسة من غير رؤية واضحة وعمل منظم وتوزيع دقيق للمسؤوليات، حتى لم يبق قارئ حينما تكتب ولا مستمع حينما تتحدث ففقدت الكلمة بريقها وتأثيرها وصار الكثير منها ينطلق في فراغ.
وهكذا صلاة الجمعة والجماعة وإقامة المجالس الحسينية لم يعد يشعر الفرد بأهمية لإقامتها والمشاركة فيها بعد أن أصبحت في متناول الجميع أو قل إن الدوافع الموجودة غير كافية لتحقيق الحماس والاندفاع الكافيين.
وحصول هذا الشعور خاطئ بل خطير وقد اتضح ذلك من خلال الشواهد التي ذكرناها أول الكلام فلابد من توعية الأمة باتجاهه، وهنا يمكن إثارة عدة نقاط:ـ
الأولى: إن هؤلاء الذين جاءوا ليحررونا بزعمهم ويعطونا الفرصة الكاملة لممارسة شعائرنا لا يحبّون هذه الشعائر ويخافون منها ومن تأثيرها، ويعملون على منعها والحد منها، لكن بأساليب مختلفة ومنها أنهم يتركون فرصة العمل للجميع ويبقون هم مراقبين ليتعرفوا على الشكل المناسب لمواجهتها، فوجدوا مع الأسف أن هذا كافٍ لتمييعها وإفراغها من محتواها وإعراض المجتمع تلقائياً عنها بسبب سوء التطبيق والاستفادة من هذا الحق فتصدى الجميع لإقامتها من دون مراعاة لشروط الصحة بالنسبة لصلاة الجمعة، وأصبحت سبباً للفرقة والتنازع وصار هذا الموقع الشريف مثاراً للحسد والتباغض والتقاطع، فتحملّت هذه الشعيرة المباركة آثاراً سلبية بسبب عدم الوعي في الاستفادة منها وتوظيفها في الاتجاه الصحيح، فعلى جميع الأطراف أن يعيدوا النظر في طريقة أداء هذه الفريضة الإلهية ويفكروا في الطريقة المثلى لإعادة رونق هذه الفريضة وتأثيرها العظيم في النفوس والقلوب، لتكون كما أريد لها الأداة الأقوى في مواجهة التحديات الفكرية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية وغيرها.
فهذا هو العنصر الأول من التحدي الذي يمكن أن يعيد لهذه الفريضة مكانتها وهو إفشال مخطط الأعداء في تمييعها وتفريغها من محتواها ويجعلها أداة للفرقة والاختلاف بدلاً من الوحدة والشعور بالعزة والقوة.
العنصر الثاني: من التحدي هو اتجاه النفس الأمارة بالسوء فإن الأعداء الخارجيين الذين نتحمس لمواجهتهم مهما ضعفوا وانهزموا أو تلاشوا يبقى العدو الأول الذي نحمله في داخلنا وهي النفس الأمارة بالسوء التي تدعوا إلى اتباع الشهوات وإشباع الغرائز بأي وسيلة كانت ولو كانت محرمة، وتورث عذاب الله الأليم وتميل إلى الراحة والدعة والسكون وعدم الامتثال لأوامر الله تبارك وتعالى حتى جاء في الحديث الشريف (اعدي أعدائك نفسك التي بين جنبيك)، وحتى سمي الوقوف في وجه اندفاعة النفس للشهوات وتحقيق الرغبات بالجهاد الأكبر، في حين إن جهاد الأعداء الآخرين بكل ما يمتلكون من قوة وعدة وعدد هو جهاد أصغر لأن الأول دائمي ومستمر ولأنه يخفى على غير البصير الذي وفقه الله تبارك وتعالى ونال ألطافه، ولأنه صعب عسير التحمل ولأنه ضد مشتهيات النفس بينما يمكن أن يكون الآخر موافقاً لها لما فيه من سمعة ورياء وامتيازات أخرى تحببه إلى النفوس فهذا هو التحدي الثاني الذي نواجهه ويولد فينا الحماس والاندفاع للمشاركة في العبادات والطاعات بأوسع أشكالها وذلك لقهر النفس وتهذيبها وترويضها لتأتي آمنةً يوم الفزع الأكبر على تعبير أمير المؤمنين (عليه السلام).
فالالتفات إلى هؤلاء الأعداء وما تتطلبه مواجهتهم من عمل دؤوب سيعيد هذه الشعائر الإلهية إلى مكانتها السامية وهي مسؤولية الجميع أئمة ومأمومين.
أسال الله تعالى أن يبصّرنا وإياكم طريق الحق ويأخذ بأيدينا للسير عليه إنه ولي النعم.