خطاب المرحلة (11)... هل لأمريكا الفضل في حصول التغيير

| |عدد القراءات : 18855
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

هل لأمريكا الفضل في حصول التغيير(1)

 بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله كما يستحقه حمداً كثيراً وأعوذ به من شر نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي والصلاة والسلام على سيد خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين.

تدّعي أمريكا أنها هي صاحبة الفضل على الشعب العراقي في تحريره من ظلم الطاغية وحكمه المشؤوم، ومن المؤسف أن الكثيرين قد وقعوا في هذا الوهم ويشعر البعض انه مدين للولايات المتحدة في ذلك وبعضهم ممن يسمون بالإسلاميين؛ لذا تجدهم موافقين على كل ما تمليه عليهم الولايات المتحدة وإن كان فيه مصادرة لاستقلالهم ولأرادتهم ولحقوق شعبهم.

لذا وجب تصحيح هذا الوهم من خلال عدة نقاط:-

1-إن الشعب بجهاده المتواصل ضد النظام وتضحياته الكثيرة ورفضه الشديد للحكام المتسلطين أوجد حالة من الرفض والكراهية والانعزال والمحاصرة للنظام مما أوجب سقوطه وانهياره من دون قتال يذكر، بحيث لم تقع معركة حقيقية طيلة الحرب، وكل الذي حصل هو مناوشات متفرقة وعمليات فردية حتى بغداد التي هي عاصمة النظام وموضع اعتنائه المكثف لم تقاتل، وأي حكومة إذا كانت مرفوضة ومعزولة ومقاطعة من قبل الشعب فإنها تسقط لأنها لا تمتلك مصادر القوة والبقاء، ولو كان الشعب ملتفاً حول قيادته لكان على الولايات المتحدة أن تدفع ثمناً باهظاً من دون أن تحقق شيئاً.

2- إن أمريكا وإن كانت أفضل من النظام في بعض الجهات المعلومة لديكم، إلا أنها أضرّ علينا من جهات أخرى هي أهم فإن أساليب الطاغية وان كانت شرسة وهمجية في إيذاء الشعب وحرمانه، إلا أنها واضحة ومكشوفة مما جعل رد الفعل يكون واضحاً، وهو انتشار الالتزام الديني لذا  فإنها لم تكن خطراً على الحركة الدينية المتصاعدة، ولم تمنع من نموها وانتشارها ومازلنا نشهد بركاتها العميمة.

أما المواجهة الجديدة فهي أخلاقية وعقائدية وفكرية واجتماعية مع انفتاح وانفلات ودغدغة لشهوات النفس الأمّارة بالسوء وتوسع مادي، فهي أخبث وأخفى وأخطر وقد لا ينجو فيها من نجى في الامتحان السابق؛ لذا فإن المسألة تحتاج إلى همة عالية وجهد إضافي واعتصام مكثف بالله تبارك وتعالى، مثل هذه المحنة عبر عنها أحد أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إننا نجحنا كلنا في امتحان الشدة والبلاء في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لكن أكثرنا فشل في امتحان النعمة والرخاء التي حصلت بسبب الفتوحات الإسلامية وتوسع الدولة الإسلامية بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بحيث صار يقاتل بعضهم بعضاً وخرج عدد منهم على أمير المؤمنين (عليه السلام) يقاتله وهو صاحب أوضح حق في إمامة المسلمين بالنص والاختيار والشورى والاستحقاق.

فنحن إذن لم ينته تمحيصنا ولا اختبارنا بزوال النظام، وإنما انتقلنا إلى نمط جديد من التمحيص هو أشد على النفس، وسنة التمحيص المتدرج في الشدة جارية خصوصاً على هذا الشعب الكريم لإعداده لنصرة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) الذي جاء هؤلاء لتطويقه ومحاصرته وسلب القدرات ومنابع القوة الموجودة في هذه الأرض، حتى لا يجد الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ما يعينه على حركته، وإنهاء القواعد المؤمنة به والمستعدة لنصرته بكل أشكال الإنهاء، كما فعل فرعون مع قوم موسى (عليه السلام) حين علم أن نهايته على يد رجل منهم فأخذ يذبح أبناءهم ويستحيي نسائهم، لكن فرعون كان مهتماً بالقضاء المادي على أعدائه المحتملين، أما هؤلاء فيضيفون إليها القتل المعنوي بمسخ القيم الروحية وسلخ الناس عنها وإبعادهم عن مصدر قوتهم الحقيقية وهو الإيمان بالله تعالى.

ورد في تفسير قوله تعالى (ويقتلون النبيين) عن الإمام أن ذلك بتحريف تعاليمهم وتمييع دعوتهم وعزلهم عن مؤيديهم، وتشويه صورتهم في أعين الناس، وهو أسلوب أخطر في القضاء على الدعوات الإصلاحية وعلى المصلحين من القتل الجسدي الذي يصنع من الضحية بطلاً شعبياً تلتف الجماهير حوله وتزداد إعجاباً به وأخذاً بأفكاره وقد رأيتم كلا الشكلين في حياة الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) فقد كان القتل المعنوي لتشويه سمعته وأنه عميل للدولة وأنه زرع الفتنة والتشكيك في اجتهاده كان أقسى عليه من القتل المادي الذي رفعه مكاناً عليَاً وأدى إلى التفاف الجميع عليه عكس الأول، وقد عبّر (قدس سره) عن فترة القتل المعنوي أوائل مرجعيته بأنني عشتها بأعصابي، فكونوا واعين لهذه المخاطر فاني أرى أن كثيراً من الناس قد وقعوا في هذا الفخ الخطير.

3- إن أمريكا وبريطانيا وكل القوى المادية لا تفكر إلا بمصالحها، أما القيم والمبادئ الإنسانية فهي آخر ما تفكر فيه بل لا تفكر فيه إلا بمقدار ما يخدم مصالحها، فلا نصدق أنها جاءت لتحريرنا، نعم قد تلتقي مصلحتها مع مصلحتنا فتفعل ما يبدو أنه خدمة لنا، إلا أن الواقع أنها مملوءة أنانية فلا تفكر إلا في نفسها، وهذه الصفة من المرتكزات الأساسية للشخصية الغربية المبنية على الأسس المادية.

4-إن الشعب وإن تحرر من شكل من أشكال الظلم إلا أنه بقي مهدداً بالظلم الأكبر، وهو ظلم النفس الأمارة بالسوء التي تدعو إلى معصية الله تبارك وتعالى، وتجرّ صاحبها إلى المهالك وتجعله عند الله أهون هالك – كما في الدعاء – هذا العدو الذي نحمله في داخلنا يكون معنا في السر والعلن ويجري في عروقنا مجرى الدم، وقد وصفه الحديث الشريف بأنه (أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك) فنحن لم نتحرر من (الظلم) كل الظلم وإنما تحررنا من (ظلم) أي شكل من أشكال الظلم وبقي الأهم، لذا كان جهاد النفس هو الجهاد الأكبر والفوز فيه هو الفوز الحقيقي، ويؤازره عدو آخر هو الشيطان الذي لا يفارقنا حتى الموت وقد وصفه الله تبارك وتعالى بالعدو المبين، وهو يزيّن المعصية ويغري الإنسان بها بشتى الأساليب حتى يوقعه بها ولا يهدأ باله إلا بذلك وقد حذرنا القرآن منه أشد تحذير.

ينقل عن أحد الواعظين انه قال يوماً لحضّار مجلسه إني قد أُخبرت عن طريق أحد الثقاة أن لصاً بينكم ويريد أن يسرقكم، فاهتم الجالسون بالأمر وحرص كل منهم على ما يحمل واخذ الحيطة والحذر، فقال الواعظ مؤنباً إلا تهتمون بدينكم كاهتمامكم بديناركم ودرهمكم، فتحمون دينكم من سارق لا يغيب لحظة عنكم ولا يرضى بغير إدخالكم في جهنم، وخسارتكم في الحياة الباقية وقد أخبركم عن تربصه بكم الله تبارك وتعالى أصدق القائلين.

5- إن التغيير وإن حصل ظاهراً على يد الولايات المتحدة وحلفائها وهو صحيح لأن الظالم لا يقدر عليه إلا من هو أظلم منه إلا أنّ المسبب الحقيقي هو الله تبارك وتعالى وبيده الأمور كلها [لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ] (الأعراف:54)، وما هذه الأسباب الطبيعية إلا وسائل وأدوات يهيئها الله تبارك وتعالى عند تحقق الشرط، وشرط تغيير الظلم وإزالته هو عودة الأمة إلى ربها ودينها والتزامهم بشريعته قال تعالى: [إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأنفسهِمْ] (الرعد:11).

فعندما حققتم الشرط وبدأت الحياة الدينية تدب في المجتمع وأصبح الإسلام هو خيار الجميع، ووصلوا إلى مستوى التضحية بالنفس في سبيل الله تعالى أذن الله بالتغيير الذي يستحقونه، ولولا هذا الإذن لما استطاعت أمريكا ولا كل القوى المادية أن تفعله كما ورد في الحديث (إن إزالة جبل من مكانه أهون من زوال ظالم قبل أوانه).

فاعملوا على تحرير أنفسكم من أنفسكم فإنها مرهونة بأعمالكم، فاستبقوا الخيرات وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، وحطموا الأغلال النفسية والفكرية والاجتماعية التي تعيق تكاملكم، وإن ظهوركم ثقيلة بأوزاركم فخففوا عنها بالاستغفار وأكثروا من الطاعات وتنافسوا لنيل رضى الله تبارك وتعالى فإن الله تبارك وتعالى بعث أنبيائه لتحريركم وتخليصكم من هذه الأغلال، قال تعالى [وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ] (الأعراف:157).

ويوجد تفصيل لهذا الكلام في كتاب (نحن والغرب) وكتاب (كونوا أحراراً) وهو من حلقات سلسلة (نحو مجتمع نظيف).

أسأل الله تعالى لكم الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة إنه ولي النعم.



(1) الكلمة التي ألقيت في أهالي مدينة الكوت وقضاء الحي بتأريخ 2 جمادي الأولى 1424 المصادف 2/7/2003.