المشارطة والمحاسبة في أول السنة وآخرها وإحياء الشعائر الحسينية
بسم الله الرحمن الرحيم
المشارطة والمحاسبة في أول السنة وآخرها وإحياء الشعائر الحسينية[1]
ذكر علماء الأخلاق ثلاث آليات للوصول إلى الاستقامة والثبات عليها التي ندعو الله تبارك وتعالى بالهداية إليها يومياً في صلواتنا، وهي المشارطة والمراقبة والمحاسبة، فالأولى قبل العمل والثانية أثناء العمل والثالثة بعده.
ولنوضّح الفكرة بتطبيقها على مفردة في حياتنا وهو اليوم والليلة، فعندما يقوم الفرد من نومه صباحاً يشارط نفسه على أن لا يفعل إلا خيراً وطاعة ويجتنب كل ما يسخط الله تبارك وتعالى ويتعهد أمام الله تعالى بأن يبذل ما بوسعه لتحقيق ذلك فهذه هي المشارطة.
ثم يأتي دور المراقبة أثناء الفعاليات اليومية بالالتفات إلى كونها مطابقة للشريعة ولا يغفل عن شيء منها، وهكذا في كل مفردات حياته وبرنامجه اليومي وتكون المراقبة أكمل لو لاحظ حتى المستحبات والمكروهات، فيؤدي الأولى ويجتنب الثانية، والمراقبة المستمرة تضمن هذه المطابقة والموافقة.
وبعد انتهاء اليوم يأتي دور المحاسبة ليراجع نفسه وما قدّمت خلال اليوم، فإن وجد عملاً صالحاً شكر الله تعالى وسأله القبول والزيادة، وإن وجد سيئة استغفر الله تعالى وعقد العزم على عدم العودة بالاعتصام بالله تبارك وتعالى.
وإذا التزم الإنسان بهذه الآليات الثلاث فإنه سيقلّل الفجوات التي ينفذ منها الشيطان فيوقعه في الخطأ، والمطلوب الالتفات إليها يومياً، ولكن هذه المحطات اليومية تتعرض للغفلة والقصور والتقصير لذا أضيفت إليها محطات أخر.
إذ يظهر من آداب الشريعة إن الأسبوع والشهر والسنة لها أيضاً كيانات وشخصيات غير كيان اليوم، ولكل واحد منها التزاماته وتطبيق الآليات الثلاث عليه لتكثيفها وغلق المزيد من فرص الغفلة وغلبة الهوى والشيطان , فتوجد مثلاً للأسبوع محطة تجديد ومراجعة وانطلاق للأسبوع المقبل يوم الجمعة منها صلاة ركعتين بالحمد مرة والتوحيد سبعاً لكل منها ثم دعاء من سطر[2] واحد ليوم الجمعة بين الظهر والعصر وصلاة جعفر الطيار ضحى يوم الجمعة (راجع تفاصيل هذه الأعمال في مفاتيح الجنان/ أعمال يوم الجمعة) وللشهر مثل ذلك من خلال صلاة أول الشهر بالحمد مرة والتوحيد ثلاثين في الأولى، والحمد مرة والقدر ثلاثين في الثانية. فإذا أتمّها تصدق بما تيسّر فإنه يشتري بذلك سلامة الشهر.
وفي ضوء هذا المنهج توجد صلاة [3] في اليوم الأخير من ذي الحجة باعتباره اليوم الأخير من ذي الحجة باعتباره اليوم الأخير من السنة على المشهور يكون بمثابة مراجعة ومحاسبة ووقفة تأمل فيما صدر من العبد خلال العام، ونقطة انطلاق جديدة لعام جديد، فيسأل الله تعالى أن يغفر له ما سلف في عامه المنصرم وأن يعينه على ملأ الصحائف البيضاء للعام الجديد بما يرضي الله تبارك وتعالى، فإن العبد هو الذي يملي على الملكين ما يكتبان في صحيفة أعماله (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) (الحشر/18) ومن ثمرات هذه الصلاة والدعاء بعدها أن السنة تشهد عند الله تعالى أن هذا الرجل قد ختمها بخير.
فالمؤمن في مثل هذا اليوم الأخير من سنة منقضية سيُغلق ملفها ويحفظ إلى أن يعرض يوم النشور ويشهد بما فيه على صاحبه. وعلى مشارف سنة جديدة لم يسوّد صحائفها شيء، تكون له عينان، عين إلى تلك السنة المنصرمة هي عين المراجعة والمحاسبة فيها ندم على ما صدر منه من ذنوب وتقصيرات وشكر على ما وفق له من طاعات لكنه لا يصل إلى درجة الفرح للقلق من كونه مقبولاً أو لا.
وعين راجيه راغبة إلى السنة المقبلة هي عين المشارطة تسأل الله تعالى أن تكون أفضل من سابقتها وثقيلة الميزان بما يرضي الله تبارك وتعالى. والأمر راجع إلى العبد نفسه فهو الذي بيده قلم العمل يملي به صحائف الليالي والأيام بكامل إرادته.
ومن لطف الله تعالى أن سنتنا تفتتح بذكرى الإمام الحسين (عليه السلام) وفي اجواء التضحية والفداء والعشق الإلهي حيث نحر الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه في محراب الحب والفناء في الله تبارك وتعالى، وهذه الأجواء لها أثرها الذي لا ينكر في تقريب النفوس إلى الطاعة، حتى الفسقة والعصاة يتركون آثامهم في هذه الأيام ببركة الإمام الحسين (عليه السلام)، فتكون هذه الأيام في مفتتح السنة حافزاً لنجاح المشارطة والتعهد أمام الله تبارك وتعالى بأن لا نفعل في سنتنا إلا خيراً مستمدين العزم وقوة الإرادة والتضحية بشهوات النفس وأهوائها وإدامة ذكر الله تعالى من الإمام الحسين (عليه السلام).
ويندرج في ذلك أن يكون إحياؤنا لشعائر الإمام الحسين (عليه السلام) واعياً ملتفتاً إلى الأهداف الإصلاحية التي تحرك الإمام (عليه السلام) لتحقيقها لأن قيمة الأعمال بمضامينها وتحقيق أغراضها وليس بأشكالها، فهذه الصلاة التي هي عمود الدين واستشهد الإمام الحسين (عليه السلام) لإقامتها حق إقامتها (أشهد أنك قد أقمت الصلاة) لا تكون لها قيمة إذا خلت من مضمونها الذي ذكرته الآية الشريفة (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) العنكبوت 45 وقد ورد في رواية صحيحة عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال (والله إنه ليأتي على الرجل خمسون سنة وما قبل الله منه صلاة واحدة، فأي شيء أشدُّ من هذا، والله إنكم لتعرفون من جيرانكم وأصحابكم من لو كان يصلي لبعضكم ما قبلها منه لاستخفافه بها، إن الله لا يقبل إلا الحسن، فكيف يقبل ما يستخف به).[4]
فلابد أن نفهم إن المشاركة في الشعائر الحسينية والبكاء على الحسين (عليه السلام) لا يكفي وحده ما لم تجتمع فيه شروط القبول كما قال تعالى (إنما يتقبل الله من المتقين) المائدة 27 ولن تنال شفاعة الحسين (عليه السلام) وجده وأبيه وأمه وأخيه والأئمة المعصومين من بنيه (صلوات الله عليهم أجمعين) إلا بالتقوى ومن علاماتها الإهتمام بالصلاة في أوقاتها وأن يحسن أداءها، ففي رواية صحيحة عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال (لا تتهاون بصلاتك فإن النبي (صلى الله عليه وآله) قال عند موته: ليس مني من استخف بصلاته لا يرد علي الحوض لا والله) وعنه عليه السلام قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لكل شيء وجه ووجه دينكم الصلاة فلا يشيننّ أحدكم وجه دينه).[5]
فما يصوّره بعض الخطباء من أن اللطم على الإمام الحسين (عليه السلام) والبكاء عليه ولو جناح بعوضة يدخل الجنة بغير حساب وان ملأ الشخص صحيفة أعماله بالآثام كلام مخالف للقرآن الكريم والروايات الثابتة عن المعصومين (عليه السلام) وانحراف في الفهم وخداع للعامة، وهذا الطرح خطير على الدين لأنه يشوهه ويمحقه ، وخطير على المجتمع لأنه يؤدي إلى التمادي في الانحراف ويعطي مشروعية للعكوف على المعاصي ما داموا قد حصلوا على صك الغفران.
فاحذروا أيها الأخوة من هذا الطرح المضلل.
وهنا أسجل استغرابي واستنكاري من حصول بعض حالات الفساد في المجتمع كالذي ينقل عما يجري في المقاهي من أعمال منكرة وتعاطي مخدرات، أو ما يجري في محلات المساج والعلاج الطبيعي من اختلاط منكر ودعوة إلى الرذيلة، أو انتشار الفساد المالي وهدر الأموال العامة التي هي ملك الشعب، أو وجود مافيات وميليشيات القتل والاختطاف والابتزاز والسرقة، كل ذلك يحصل في مدن وسط وجنوب العراق التي فيها أغلبية ساحقة من الموالين لأهل البيت (عليهم السلام) , فإذا كان المشاركون في شعائر الحسين (عليه السلام ) ثمانية ملايين أو أكثر بحيث نستطيع ان نقول ان كل شيعي موالي لأهل البيت عليهم السلام في هذه المدن يشارك بشكل أو بأخر في الشعائر كالمشي إلى مرقده الشريف أو خدمة الزوار أو المشاركة في مواكب العزاء أو المجالس الحسينية، إذن فمن الذي يقوم بتلك الأفعال المنكرة في المجتمع التي ذكرنا نماذج منها، وماذا استفاد هؤلاء من مبادئ الحسين (عليه السلام) وماذا فهموا من حركته المباركة؟ وهل يتوقعون قبول أعمالهم من الله تبارك وتعالى في ضوء الآيات الكريمة والروايات الشريفة.
إن هذا الذي نقوله لا يقلل من أهمية إقامة هذه الشعائر المباركة وفضلها عند الله تبارك وتعالى وعند النبي وآله الكرام (صلى الله عليهم أجمعين) ولا من تأثيرها في هداية الناس إلى ولاية أهل البيت (عليهم السلام)، بل بلغني أن غير المسلمين تأثروا بها من خلال متابعتها على الفضائيات واعتنقوا عقيدة أهل البيت (عليهم السلام) ببركة هذه المسيرة الصامتة التي تتوجه إلى زيارة الأربعين التي لا يمكن تأويلها وتفسيرها بغير المبادئ الانسانية النبيلة التي انطلقت من أجلها تلك الثورة المباركة ولا يمكن التشكيك فيها أو تزييفها.
إن الحسين (عليه السلام) عندما كان يردد يوم عاشوراء (هل من ناصر) لم يكن يتوقع من أولئك الطغاة الذين طبع الله على قلوبهم هداية ولا صلاحاً وإنما كان يريد لها أن تبقى صرخة مدويّة لجميع الأجيال على مدى الأزمنة والدهور لينصروه في تحقيق أهدافه، ويبقى النداء ما دام الواقع الفاسد والظلم الذي قام الإمام الحسين (عليه السلام) لتغيره وانشاء البديل الصالح عنه –فلينصره كلٌ بحسبه ومن موقعه وبما يناسبه من عمل.
فقد يُقبل من البعض شكل من أشكال إحياء الشعائر الحسينية ولا يقبل من آخر لأن المطلوب منه غير ذلك فالتفتوا جيداً.
وبما أنكم من طلبة الجامعات فأذكر لكم شكلاً من أشكال النصرة لله ولرسوله وللإمام (عليه السلام) بأن تنظموا في الأقسام الداخلية أي محل إقامتكم وسكنكم ثلاث محاضرات اسبوعياً على مدى ثلاثة أيام وسط الأسبوع، كل يوم محاضرة بعد صلاة المغرب والعشاء جماعة أحداها في الفقه والأخرى في العقائد والثالثة في السيرة والأخلاق والمعارف القرآنية، ومن يحب يواصل تحصيل العلوم الدينية، وقد أبدى فضلاء الحوزة العلمية استعدادهم للقيام بهذه الخدمة إن شاء الله واعلموا أنكم بذلك تقتربون من معرفة الإمام الحسين (عليه السلام) لينطبق عليكم ما ورد في زيارته (عليه السلام) (عارفاً بحقه) وفقنا الله تعالى وإياكم لأن نكون من أنصار الإمام الحسين (عليه السلام) وممن يدخل السرور على قلبه الشريف بالسعي لتحقيق أهدافه بفضل الله تبارك وتعالى.
[1] من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من طلبة جامعتي ميسان وواسط يوم 29/ذ.ح/1432 الموافق 26/11/2011.
[2] في مفاتيح الجنان (ص73 أعمال يوم الجمعة): (قال الشيخ في المصباح: روي عن الأئمة (عليهم السلام) أن من صلّى الظهر يوم الجمعة وصلى بعدها ركعتين، يقرأ في الأولى الحمد والتوحيد سبعاً وفي الثانية مثل ذلك وبعد فراغه يقول: (اللهم اجعلني من أهل الجنة التي حشوها البركة وعمّارها الملائكة مع نبيّنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و أبينا إبراهيم (عليه السلام) لم تضرّه بلية ولم تصبه فتنة إلى الجمعة الأخرى وجمع الله بينه وبين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين إبراهيم (عليه السلام).
[3] في مفاتيح الجنان (أعمال اليوم الأخير من ذي الحجة/ ص325) (ذكر السيد في الإقبال طبقاً لبعض الروايات، أنه يُصلّى فيه ركعتان بفاتحة الكتاب والتوحيد عشراً وآية الكرسي عشراً ثم يُدعى بعد الصلاة بهذا الدعاء.
(اللهم ما عملت في هذه السنة من عمل نهيتني عنه ولم ترضه، ونسيُته ولم تنسه، ودعوتني إلى التوبة بعد اجترائي عليك اللهم فإني أستغفرك منه فاغفر لي وما عملت من عملٍ يُقرّبني إليك فاقبله مني ولا تقطع رجائي منك يا كريم).
فإذا قلت هذا قال الشيطان: يا ويلي ما تعبت فيه هذه السنة هدّمه أجمع بهذه الكلمات، وشهدت له السنة الماضية انه قد ختمها بخير).
[4] وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب اعداد الفرائض ونوافلها، باب 26 ح2.
[5] المصدر السابق، نفس الباب,.