أعمال تكون كالقشة التي تقصم ظهر الجمل

| |عدد القراءات : 2311
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسمه تعالى

أعمال تكون كالقشة التي تقصم ظهر الجمل[1]

الحمد لله رب العالمين وصلّى الله تعالى على خير خلقه أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين

وصفت الأحاديث الشريفة المؤمن بأنه (كيِّس فطن) ومن كياسته ما ورد في أحاديث أخرى أن (الكيّس من اتعظ بغيره)، وهذا الغير الذي دعينا للاتعاظ به قد يكونون أشخاصاً وقد تكون حالات أو مواقف أو مشاهد.

ومن تلك الحالات ما نراه في السوق عندما يشتري أحد وزناً معيناً من الدقيق أو السكر فإن كيلة كبيرة منهما يغترفها البائع المحترف لا تنزل الميزان بالوزن المطلوب لكن حبات يضعها البائع في الكفّة يقطّرها بعد ذلك تنزل بها كفة الميزان، محل الشاهد أن نأخذ من هذه الأمثال درساً، وهو أن الإنسان قد تصدر منه معاصي فيمهله الله تبارك وتعالى ويحلم عنه بطول أناته في غضبه (الحمد لله الذي يحلم عني حتى كأني لا ذنب لي) بل يواصل نعمه عليه والعبد يجازيها بالمعصية ويسوّد صحائف أعماله بها ثم يصدر منه فعل قد لا يراه من الكبائر إلا انه يقع بعين المقت والغضب من الله تبارك وتعالى فتنزل عليه العقوبة الإلهية والعياذ بالله، ويكون هذا الفعل كما قيل في المثل (القشة التي قصمت ظهر الجمل)[2]

هذا في جانب السيئات، والأمر كذلك في جانب الحسنات، فإن الإنسان قد يقوم بطاعات يحصل عليها ثواب لكنها لا تجعله من أهل رضا الله تبارك وتعالى ورضوانه (ورضوان من الله أكبر)، وهذه مراتب عالية في الجنان أسمى من جنة الحور العين ولحم طير مما يشتهون ومن امتيازاتها أن صاحبها يحاسب حساباً يسيراً، لأن أهل رضا الله تبارك وتعالى كالطالب الذي يُعفى من الامتحانات النهائية بعد أن حصل بجهده على درجة الإعفاء، وكالطالب الذي عُرف بنيله الدرجات الكاملة في الامتحانات فإن المدرِّس لا يدقق في ورقته الامتحانية وبمجرد أن يرى اسمه يضع علامة الإجابة الصحيحة على كل أجوبته من دون أن يقرأها لأنه يعلم أن الطالب أهل لهذه الدرجة حتى لو وقعت في أجوبته أخطاء فإنه لا يحاسبه عليها لأنها لا تضرّ بمستواه العام وإنما وقعت لظروف خاصة.

ولذا ورد أن الله تعالى (أخفى رضاه في طاعته، وغضبه في معصيته) فمع أن جملة من الأعمال هي من الطاعات التي يؤجر عليها الإنسان لكنه لا يعلم أي عمل منها الذي يحقق رضا الله تبارك وتعالى، ومع أن جملة من الأعمال هي معاصي يعاقب عليها الإنسان إلا انه لا يعلم أي منها الذي يوجب المقت والسخط والعياذ بالله.

وأذكر لكم مورداً لكل منهما مستفاداً من الروايات الشريفة، فمن موجبات الرضا كفالة اليتيم المادي والمعنوي كما شرحناه في إحدى خطب الزيارات الفاطمية، ومما ورد فيه قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة إذا أتقى الله عز وجل)[3] وأشار بالمسبحة والوسطى. أو ما ورد في إدخال السرور على المؤمن ونحوها من الأفعال البسيطة.

ومن موجبات المقت والطرد أمر يستسهل فعله الكثير من المتدينين ولكن ورد فيه ما لم يرد حتى في الكبائر، وهو تسقيط المؤمنين ففي الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال (من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه وهدم مروئته ليسقُط من أعين الناس أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان فلا يقبله الشيطان).[4]

لذا على الإنسان الذي يعرف قيمة نفسه أن لا يقصّر في استثمار فرص الطاعة مهما اعتقد بضآلتها فلعل ذلك العمل يكون موجباً لتحصيل الرضا الإلهي، وأن لا يستخف بمعصية فلعلها تكون موجبة للغضب الإلهي والعياذ بالله ولا يغرّه توالي النعم عليه فيظن أن له حظوة عند الله تبارك وتعالى، بل عليه أن يخشى من ذلك إذ ربما كان من المستدرجين إلى الهلاك بهذه النعم، فمن كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة قوله: (إنّه من وُسِّع عليه في ذات يده فلم ير ذلك استدراجاً فقد أمن مخوفاً) وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله (كم من مغرور بما قد أنعم الله عليه، وكم من مستدرج يستر الله عليه، وكم من مفتون بثناء الناس عليه) وورد عنه (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى (وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (الأعراف: 182-183) قوله (عليه السلام) (هو العبد يذنب الذنب فتجدّد له النعمة معه، تلهيه تلك النعمة عن الاستغفار عن ذلك الذنب) وفي كتاب الكافي ورد عنه (عليه السلام) قوله (إن الله إذا أراد بعبد خيراً فأذنب ذنباً أتبعه بنقمة ويذكره الاستغفار، وإذا أراد الله بعبد شراً فأذنب ذنباً أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار ويتمادى بها، وهو قوله عز وجل (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ) (الأعراف/182) بالنعم عند المعاصي)[5]

فتواتر النعم من مواطن الحذر من الاستدراج الإلهي نحو المقت والسخط، ومن مواطنه أيضاً غفلة الإنسان ووقوعه في المعاصي بعد مواسم الطاعة وتمتعه بنعم الرحمن وموائده المعنوية، فهذا الذي يُحصل في عيد الفطر بعد مائدة شهر رمضان المعنوية، أو ما يحصل في عيد الأضحى بعد يوم عرفة وأيام ذي الحجة المباركات، أو يقضي الإنسان صلاة الجماعة في المسجد ولا يقدّر هذه النعمة المعنوية وغيرها فهذه كلها من مواطن الحذر والخشية، ويطبق بعضهم على هذه الموارد قوله تعالى في طلب حواريي المسيح عيسى (عليه السلام) مائدة من السماء (قال عيسى ابن مريم اللهم أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين، قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعدُ منكم فإني أُعذّبه عذاباً لا أُعذّبه أحداً من العالمين) (المائدة: 114- 115).

وموائد النعم المعنوية أولى من الموائد المادية في ترتيب هذه الآثار القاسية والعياذ بالله تعالى.

وينبغي الالتفات أيضاً إلى أن المقصود بالطاعة الموجبة للرضا الإلهي ما يشمل اجتناب المحرّم، كالذي ورد في غض البصر عن المرأة الأجنبية، روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله (النظرة سهم من سهام ابليس مسموم، من تركها لله عز وجل لا لغيره أعقبه الله آمناً وإيماناً يجد طعمه)[6] وعنه (عليه السلام) قال (من نظر إلى امرأة فرفع بصره إلى السماء أو غض بصره لم يرتدّ إليه بصره حتى يزوجه الله من الحور العين).[7]

وكذا تشمل المعصية الموجبة للغضب الإلهي ترك الطاعة والتقصير فيها، كالذي ورد في التقاعس عن قضاء حاجة المؤمن، وقد وردت في ذلك عدة روايات منها قول الإمام الكاظم (عليه السلام) (من أتاه أخوه المؤمن في حاجة فإنما هي رحمة من الله تبارك وتعالى ساقها إليه، فإن قبل ذلك فقد وصله بولايتنا، وهو موصول بولاية الله، وإن ردّه عن حاجته وهو يقدر على قضائها سلّط الله عليه شجاعاً من نار ينهشه في قبره إلى يوم القيامة مغفوراً له أو معذباً).[8]

وانتم بفضل الله تبارك وتعالى بين يديكم فرص عظيمة لنيل رضا الله تبارك وتعالى، فكثير منكم مرشدون لقوافل الحجيج هذا العام، وأكثركم من طلبة العلوم الدينية والباقون من الشباب المتفقهين الرساليين فعندكم فرصة كفالة أيتام آل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين) بالموعظة والارشاد والتوجيه وتعليم الأحكام، وعندكم فرصة إدخال السرور عليهم وقضاء حوائجهم، وقد اختاركم الله تبارك وتعالى لحمل هذه الأمانة فاستثمروا هذه الفرص، كلٌ منكم بحسب موقعه وساحة عمله. والله الموفق.



[1] من حديث سماحة المرجع اليعقوبي في ملتقى مرشدي قوافل الحجيج الذي يعقده في مكتبه سنوياً يوم الخميس 7/ذ.ق/ 1432 المصادف 6/10/2011 ومن حديث سماحته مع طلبة جامعة الصدر الدينية فرع الكوت ومعهد الإمام الجواد (عليه السلام) للعلوم الدينية في الصويرة يوم السبت 9/ذ.ق.

[2] وهو مثل متداول ولا يختص باللغة العربية، فقد وجدت على النت نصاً له باللغة الإنكليزية.

وقيل في أصله أن رجلاً حمل بعيراً أثقالاً أضعاف الاعتيادية فنهاه الناس عن ذلك رفقاً بالحيوان لكن استمر وفي النهاية وضع باقة من قش فوق الأحمال فسقط الجمل. ويضرب المثل للحالات التي يحصل فيها الانهيار بسبب أمر يُعدُّ بسيطاً ولا يمكن أن يتسبب في هذه النتيجة، لكنه أدى إليه باعتباره حصل على خلفية تراكمات سابقة أوصلت الحالة إلى حافة الانهيار فجاء الأمر البسيط لينهي كل شيء.

[3] تفسير نور الثقلين: 5/ 587.

[4] أصول الكافي، ج2، باب الرواية على المؤمن، ج1.

[5] جمع هذه الأحاديث من مصادرها في تفسير الأمثل: 4/587.

[6] -7 وسائل الشيعة، كتاب النكاح، أبواب مقدماته وآدابه، باب 104، ح5، 9.

 [8] وسائل الشيعة، كتاب الأمر بالمعروف، أبواب فعل المعروف، باب25، ح9.