في الصراع على الدنيا ثلاث آفات
بسمه تعالى
في الصراع على الدنيا ثلاث آفات [1]
من يراقب حال البشر اليوم وقبل اليوم من لدن خلق البشرية : يجدهم في صراع مستمر وتنازع وتنافس على كل الأصعدة والمستويات , وتثار الأزمات لأتفه الأسباب , ولنيل مغانم دنيوية لا قيمة لها حقيقة , كالصراع على زعامة العشيرة أو ليكون مختار المحلة أو للاستيلاء على مكسب ما , أو الصراع على السلطة والحكم والنفوذ والجاه , وتنتهك في هذا الصراع كل المحرمات والمقدسات وأولها سمعة المسلم من خلال التسقيط والافتراء والبهتان والكذب وإنتهاءاً بالصراعات المسلحة التي تهلك الحرث والنسل .
ومهما خدع الإنسان الآخرين فانه لا يستطيع أن يخدع الله تعالى ولا نفسه بان هذا الصراع هو نتيجة نزوات وشهوات وأهواء النفس الأمارة بالسوء وطاعة لأوامرها التي يحرّكها الشيطان كيف يشاء , فالدخول في هذه الصراعات والتنافسات انحدار وسقوط وابتعاد عما أراده الله تبارك وتعالى , ومنشأه جهل وغفلة عن غرض وجوده في هذه الدنيا وما يراد منه ومسؤولياته أمام الله تبارك وتعالى وحجته على خلقه .
فليراجع الكيِّس العاقل نفسه وليحاسبها أشد مما يحاسب الشريك شريكه كما ورد في الأحاديث الشريفة .
واذكر لكم هنا حديثاً في الموعظة روي عن النبي الكريم عيسى بن مريم سلام الله عليه قال (في المال ثلاث آفات : أن يأخذه من غير حلِّه , فقيل إن أخذه من حلِّه ؟ قال عليه السلام : يضعه في غير حقه , فقيل : إن وضعه في حقه , فقال : يشغله إصلاحه عن الله تعالى )[2].
أقول : ذُكر المال باعتباره أوضح أشكال الدنيا , وإلا فانه ليس الوحيد الذي يقع عليه الصراع , فالسلطة والجاه والنفوذ أقوى تأثيراً من المال , والصراع عليها أشد وأشرس , وأشار الحديث الشريف الى ثلاث أفات تكفي الواحدة منها لإهلاك الإنسان والتسبب الى شقاوة دائمة والعياذ بالله .
أولها مصدر هذه الدنيا المطلوبة أي المال هنا بحسب المثال هل إن كسبه مشروع ليس فيه فساد ولا غش ولا أي سبب محرم آخر , وهذه عقبة كؤود ورد فيها أن طلب الدرهم الحلال أهون من ألف ضربة بالسيف وقد لا يحسُّ الشخص بهذه الصعوبة ويجد في الوصف شيئاً من المبالغة لجهله وقصوره وتقصيره , ولكن الحقيقية هي هذه.
وإذا افترضنا أن المصدر كان حلالاً وطريقة الكسب شرعية مئة بالمئة , تأتي المشكلة الثانية وهي كيفية إنفاقه وموارد صرفه , لان الإنسان مستخلف على هذا المال من قبل الله تعالى قال عز من قائل (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ) الحديد7 والخليفة المؤتمن على المال يجب أن لا يتجاوز ما حدّده له المالك الحقيقي للمال , وإلا فسيتعرض للمساءلة والعقوبة على المخالفة , كما لو بخل عن الصرف في مورد الأمر , أو صرف في مورد النهي , وحتى لو صرف في مورد محلل لكنه تجاوز الحد المسموح في الصرف بحيث أصبح مسرفاً فقد جاء فيه قوله تعالى(وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)الأنعام141أو صرفه في غير مسوّغ عقلائي أو شرعي فأصبح مبذراً قال تعالى فيه (وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً , إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً )الإسراء26/27 وهذه مرتبة شنيعة أن يكون أخاً وقرينا للشيطان .
ولو فرضنا انه كان دقيقاً في صرفه وتجنب تلك العقبات المهولة , فانه توجد مشكلة أخرى لا يمكنه التخلص بها وهي الانشغال بمداراة هذا المال وتنميته واستثماره ومداولته ومتابعة السوق والتعامل مع الناس بكل ما يعنيه ذلك من خلافات ونزاعات وحيل ومشاكسات فيشغله ذلك عن ذكر الله تعالى وعن العروج في ملكوته , وكل ما يشغل العبد عن الله تعالى فهو خسران وانحطاط والعياذ بالله تعالى .
هذه هي الدنيا , وهذه ضريبة اللهاث وراءها , والصراع والتنافس على كُل شأن من شؤونها , وأقل ضريبة يدفعها هي انشغال الفكر بالأخذ والرد وتهيئة طرق التغلب على الآخر والتخطيط ووضع المقدمات وحساب النتائج.
وأول ضحية هي الصلاة بين يدي الله تعالى وذكره والتفكير في شكره على نعمه , ويضاف إليها القلق والهم , وما يستتبع هذه الخصومة من الكيد والحسد والإيقاع بالآخر , وتستمّر قائمة الموجبات للتعاسة , في أمالي الشيخ الطوسي (قده) بسنده عن الإمام الباقر (عليه السلام) عن أبائه (عليهم السلام) قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله) من كثر همه سقم بدنه , ومن ساء خلقه عذَّب نفسه , ومن لاحى الرجال سقطت مروءته وذهبت كرامته , ثم قال (صلى الله عليه وآله) لم يزل جبرئيل ينهاني عن ملاحاة الرجال كما ينهاني عن شرب الخمر وعبادة الأوثان)[3]