إصلاح النظام العشائري القائم

| |عدد القراءات : 2321
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إصلاح النظام العشائري القائم([1])     

 

الحمد لله كما هو أهله وكما يستحقه حمداً كثيراً والصلاة على خير خلقه أبي القاسم محمد وعلى  آله الطاهرين.

          قال الله تبارك وتعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] (الحجرات:13).

          فالغرض من جعل الشعوب والقبائل والعشائر لتُعرفوا بها ولتتميز الأنساب فإن الأسماء كثيراً ما تتشابه وإنما تتميز بالعشيرة واللقب، والمعنى الآخر لقوله تعالى: [لِتَعَارَفُوا] أي لتتعارفوا بينكم وتتواصلوا وتنسجموا ويتكامل بعضكم بالبعض الآخر ويسودكم عمل المعروف فيما بينكم. وليس لتتفاخروا بأنسابكم أو لتتنابزوا بالألقاب بينكم أو لتتباهوا بكثرتكم أو لتتحزبوا لعشائركم وتتعصبوا لها حتى وإن كانت على باطل.

          هذا ما أراده الله تبارك وتعالى ورتّب عليه آثاراً وهي صلة الأرحام والإحسان إليهم ورعايتهم وعظّم حرمة الرحم فقال تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً] (النساء:1) وكان أول ما بدأ به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين بعثه الله تعالى بالنبوة أن جمع عشيرته ودعاهم إلى هذا الخير الكثير حينما نزل قوله تعالى: [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] (الشعراء:214).

مضافاً إلى أن النظام العشائري يجعل من الأفراد كياناً فيكسبهم قوة إلى قوتهم وتنظيماً لشؤونهم والتنظيم قوة، وفي ذلك يوصي أمير المؤمنين(عليه السلام) (صل عشيرتك فإنهم جناحك الذين بهم تطير).

          لكن هذه الرابطة التي جعلها الله تعالى لتلك الأغراض الإنسانية تحوّلت منذ القدم إلى نظام اجتماعي يحكم أبناءه ويدير شؤونهم وربما أملاه نمط الحياة التي يعيشونها كمجتمعات بداوة ونمط الأعمال كامتلاك الثروة الحيوانية ورعيها أو الزراعة ونحوها، وأصبح بديلاً للنظام السياسي والدولة والحكومة كما هو المعروف من حال العرب قبل الإسلام، وكان نظاماً متخلفاً متعصباً معنصراً قائماً على التفرد وإلغاء الآخر ولو بإبادته ومصادرة ممتلكاته فأزهقت الأرواح وانتهكت الأعراض وسالت أبحر من الدماء لا لشيء إلا لتلبية نداء هذه العصبية الجاهلية، وكان من أيسر الأمور إذكاء الحروب الجنونية بين القبائل لأتفه الأمور كحرب داحس والغبراء التي استمرت أربعين سنة على إثر مسابقة للخيول، وأشعلت حرب أخرى لأن شخصاً قتل كلباً كان لشيخ العشيرة الأخرى قد أجاره ونحو هذه الأمور مما لا يصدقها عاقل لولا أنها قد وقعت فعلاً.

          وكان حول العرب أمم نبذت هذا النظام وأنشأت لنفسها أنظمة سياسية للدولة والحكم فتقدمت مادياً وأنشأت حضارات مرموقة كالرومان والفرس.

          حتى بعث الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله أي على كل الأنظمة والقوانين التي حكمت البشر وأردتهم في الهلاك فذوَّب هذه الانتماءات وآخى بين المهاجرين والأنصار والذين جاءوا بعدهم من سائر الذين اعتنقوا دين الإسلام، فكانوا كما وصفهم الله تعالى: [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] (الحجرات: 10) ووصف حالهم السابق من التشرذم والتفرق وما آلوا إليه من الوحدة والأخوة فقال تعالى: [وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] (آل عمران:103).

          ولكن لما ارتحل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الرفيق الأعلى وانقلبت الأمة على الأعقاب رجعت إليها بعض العادات الجاهلية ومنها العصبية القبلية وكان بنو أمية يغذّون هذا التقسيم ويذكون التفرقة ويقرّبون بعض القبائل على حساب بعض ليملكوا زمام الجميع.

          واليوم حينما تنظر إلى وضع العشائر تجده في حال سيئ وتعيس ومتخلف، والغالب في رؤساء العشائر ومن بيدهم الأمر والنهي أنهم يحكمون بغير ما أنزل الله تعالى، والظلم متفشي في أرجائها وعلى مختلف الأصعدة، ويئن أبناء العشائر من قساوة هذا النظام وأحكامه الجائرة ولكنهم لا يستطيعون الخروج من قبضته، أو يستطيعون ولكنهم لا يملكون الشجاعة لاتخاذ مثل هذا القرار.

          لقد بذلت المرجعية الرسالية جهداً في سبيل إصلاح نظام العشائر وكتب سيدنا الشهيد الصدر (قدس سره) كتاب (فقه العشائر) لتصحيح تصرفاتهم وأحكامهم على وفق الشريعة، ووضع سنينة عشائرية على طبق التشريع الإسلامي لتكون بديلاً عن السنينة العشائرية المتعارفة.

          وأصدرنا بعده كتاب (رؤى إسلامية في نظام العشائر وتقاليدها) لتصحيح الجانب الفكري والثقافي لدى العشائر وإقناعهم بتطبيق النظام الإسلامي، وتبعته فتاوى كثيرة في ما يتعرضون له من حالات، لكن هذا الجهد كله لم يُجدِ نفعاً إلا عند القلة ممن وفقهم الله تعالى لطاعته، وتردى الحال إلى الأسوأ بعد سقوط صدام واختلال النظام وانتشار الفوضى والعنف ووقوع السلاح بيد الجهلة والغوغائيين، ولم يعد للدولة والسلطة وجود مهاب مما شجع على بروز قيادات محلية اجتماعية أو دينية أو عشائرية وأصبح كل منهم حاكماً في مساحته ويحصل الصدام بينهم أحياناً بحسب تضارب المصالح والولاءات.

          إننا نفهم بعض المبررات لوجود النظام العشائري كحفظ الأرض وزراعتها والدفاع عنها وتقارب ذوي الأرحام لزيادة الأواصر بينهم، ولكن ما لا نفهمه ولا نقبله تحوّله إلى نظام استبدادي ظالم يحكم بالأهواء والعصبية وشهوات النفس والأنانية، ونحذّر من تحوله الى نظام متخلف يكون غالباً من أكبر المعوقات لقيام مجتمع مدني متحضّر، وإذا بقي على وضعه الحالي فسيبقى التخلف والجهل سائداً في أمة كبيرة تخضع لقوانينه، وقد أثبتت التجارب التي أشرنا إليها أن محاولات إصلاحه غير مجدية ما دام يدار بنفس الذهنية السائدة.

أيها الأحبة..

          أنتم تعلمون أنا جميعاً مطالبون بأن يكون لنا دور في التمهيد لظهور الإمام (أرواحنا له الفداء) وتمكينه من إقامة دولة العدل الإلهي، والجميع مشتركون بدورهم كأفراد وأعني به أن يكونوا صالحين يعملون ما يرضي الله تبارك وتعالى ويجتنبون ما يسخطه تعالى ويبعدهم عنه وهو باب ينفتح منه ألف باب كما هو واضح.

          ومضافاً إلى هذا الدور الفردي فإن على كل فرد تكاليف اجتماعية أوسع من ذلك وهي متباينة ومتفاوتة من فرد لآخر بحسب موقعه وعنوانه ومؤهلاته والأدوات المتاحة لديه مادياً –كالمال- ومعنوياً –كالعلم أو الجاه أو النفوذ- ونحوها. ولعل الأغلب إن لم يكن الكل مشمولون بهذا التكليف أيضاً لأن لهم شيئاً مما ذكرنا وإن تفاوتوا فيه. وتدخل في هذا التكليف وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتشييد مشاريع الخير والجهاد لإقامة السنن الصالحة وإقامة الشعائر الدينية وغيرها كثير.

          ورؤساء العشائر ممن لهم تكليف واسع على النحو الثاني لامتلاكهم عناصر تأثير عديدة كالجاه والنفوذ والسطوة وكثرة الأتباع والقوة وربما المال والسلاح وغيرها، وهذا يعني أن مسؤوليتهم أوسع من غيرهم بكثير؛ لأن هذه كلها نعمٌ يُسأل الإنسان عن توظيفها في طاعة الله تعالى، قال عز من قائل: [ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ] (التكاثر:8) والنعيم شامل لكل نعمة أنعم بها الله تعالى على عبده، وقال تعالى: [وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ] (الصافات:24) وهذه المساءلة شاملة لكل أنحاء المسؤولية وأشكالها، وأعتقد أن رؤساء العشائر وغيرهم من المسؤولين –كأعضاء الحكومة وأصحاب السلطان- لو كُشف لهم الغطاء وعرفوا خطورة موقعهم وطول وقوفهم للسؤال بين يدي الله تعالى لما تنافسوا على شيء من هذا، ولنبذوه وراء ظهورهم وهربوا منه.

وقد ورد في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (ألا ومن تولى عرافة قوم حبسه الله عز وجل على شفير جهنم بكل يوم ألف سنة وحشر يوم القيامة ويداه مغلولتان إلى عنقه، فان قام فيهم بأمر الله أطلقه الله، وإن كان ظالما هوى به في نار جهنم وبئس المصير)([2]).

          وقد بيّن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرون (عليهم السلام) لأصحابهم الواعين الصادقين في طاعة ربهم هذه الحقيقة، روى الشيخ الطوسي في كتاب الأمالي عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (يا أبا ذر إني أحبّ لك ما أحبّ لنفسي، إني أراك ضعيفاً فلا تأمّرنّ على اثنين ولا تولّينّ مال يتيم)([3]) فإذا كان مثل أبي ذر الذي تشتاق له الجنة والذي قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر) يشفق عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويدعوه إلى عدم الإمرة ولو على اثنين لأنه يعجز عن القيام بالأمر كما يجب فكيف بغيره؟ خصوصاً رؤساء العشائر الذين نعلم افتقاد أكثرهم لمؤهلات الإمرة وهي العلم بأحكام الدين والورع والحلم والحكمة والرحمة والشفقة على الناس.

          فالذي نأمله من رؤساء العشائر وهم مسلمون موالون لأهل البيت (عليهم السلام) وأولى الناس باتباعهم أن يكونوا لهم زيناً كما قال إمامنا جعفر الصادق (عليه السلام) ولا يكونوا عليهم شيناً، ومن المقترحات التي نتبناها في هذا المجال أن ننظم لهم دورات دراسية في النجف الأشرف، مدة الدورة شهر واحد، نستضيفهم فيها ونعطيهم ما يحتاجونه في عملهم من دروس في الفقه والعقائد والأخلاق والعلاقات الإنسانية والإدارة ليكونوا مباركين دالين على الخير وآمرين بالمعروف وناهين عن المنكر.

          وندعوهم كما ندعو كل أبناء العشائر إلى اتخاذ خطوات عملية لتحويل مجتمعهم إلى أمة متحضرة متمدنة واعية منها:-

1-  المطالبة بإنشاء المدارس الأكاديمية في كل تجمع من الناس مهما كان نائياً ولو بأبسط صورها ـ كالمدارس المتنقلة ـ والقضاء على الأمية تماماً وإلزام الفئات العمرية جميعاً بالالتحاق بها.

2-  نشر المؤسسات الثقافية والإنسانية والصحية والاجتماعية والخيرية والدينية مما يعرف بمؤسسات المجتمع المدني في كل العشائر والقرى والارياف والمدن في أنحاء البلاد لتؤدي كل منها دورها بحسب الغرض الذي أسست له.

3-    دعوة الخطباء والمبلغين إلى كل ناحية أو قرية أو عشيرة أو أي مكان ممكن لتعليم الأحكام وإرشاد الناس ووعظهم.

4-    انخراط أبناء العشائر في الوظائف وتحصيل الشهادات العلمية العالية وتشجيع من يتمكن منهم على السكن في المدن.

5-  وضع القوانين الرسمية الصارمة التي تحرّم بعض التقاليد العشائرية البالية وتعاقب عليها بحسب نوع الجناية أو الخطأ كالنهوة أو القتل لغسل العار في غير ما حددته الشريعة وسائر الأحكام الظالمة الأخرى.

          وهنا قد يقال بأن تحويل المجتمع العشائري إلى مجتمع مدني –كما لو فتحت فيه الجامعات والمؤسسات الحكومية- يعني الانفتاح على المفاسد الأخلاقية ونحوها.

          والجواب:-

1- إن حالات الفساد والانحراف في العشائر ليست قليلة كالقتل بلا ذنب والزنا والنهوة والنهيبة والظلم والبطش وامتهان المرأة وغيرها.

2- إن الخلل المذكور ليس بسبب كون المجتمع مدنياً وإنما بسبب النفوس الأمارة بالسوء وقلة الواعظين والمتعظين فالجميع معرضون للفساد والانحراف إلا من عصم الله تعالى.

3- إننا لو سلّمنا الإشكال فإن عملية الإصلاح في مجتمع متحضر ومثقف أسلس وأثبت مما في مجتمع عشائري متخلف ونحن نجد اليوم كيف انغمست العشائر أكثر من ذي قبل في الظلم وابتداع العادات والتقاليد المنكرة.

          إن مما يؤسف أن الكثير من القيادات الدينية والسياسية تعي حقيقة هذا الوضع البالي الذي يعيشه حوالي نصف المجتمع العراقي، بل قد يعملون على إبقائه ودعم رؤساء العشائر من أجل المحافظة على مواقعهم وسلطتهم كما يحصل قبيل الانتخابات، فيتحمل هؤلاء وزر هذا الوجود ودوامه وإذا كانوا لا يعون ذلك فالمصيبة أعظم.

          وإزاء هذا كله لا يحل لنا أن نهمل الإشادة بدور بعض زعماء العشائر أو الأفخاذ الذين وعوا مسؤوليتهم أمام ربّهم وقادتهم المعصومين (عليهم السلام) فأصلحوا أنفسهم وسعوا بحزم وشجاعة إلى إصلاح وضع عشائرهم فطوبى لهم، وضاعف الله تعالى لهم الحسنات بعدد من اهتدى بهم من الموجودين ومن الذين يأتون بعدهم والله ولي التوفيق.



([1]) الخطبة الثانية لصلاة عيد الفطر السعيد عام 1431.

([2]) بحار الأنوار: 72/343 في مناهي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

([3]) بحار الأنوار: 75/4.