المرجعية وخطابات المرحلة
العيد يرسّخ ركني الإسلام كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة
اقام سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) صلاة عيد الفطر المبارك لهذا العام 1425 في باحة داره حيث اجتمع العشرات من المؤمنين وبعد الصلاة قام لاداء الخطبتين وافتتحهما بالحمد والثناء على الله تبارك وتعالى كما هو أهله وكما يستحقه حمداً كثيراً ثم قال (توجد كلمة لاحد العلماء يقول: بُني الاسلام على ركنين: كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة) وهي عبارة صادقة بدرجة كبيرة ولم تأتِ من فراغ وإنما هي مستقرأة من مجموعة وفيرة من النصوص الشريفة في القرآن والسنة وهذان الركنان تُساهم فعاليات العيد في ترسيخهما في نفوس وقلوب المؤمنين.
اما كلمة التوحيد ولا نعني بها لقلقة اللسان فقط فهي وان كانت تمثل درجة من درجات الايمان ومعبّرة عما في قلب الانسان وضميره ومبرزة لهذا الاعتقاد الباطني الا انها غير كافية كما قال تعالى {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الحجرات:14) فالمطلوب من المسلم مراحل أخرى:
منها: انعقاد القلب على هذه الحقيقة بان لا اله ولا مدبر ولا ربَّ ولا معبود ولا كامل وغيرها من المعاني الا الله تبارك وتعالى.
ومنها: إشراق هذه المعاني على حياة الإنسان وتأثيرها في سلوكه فلا يخشى الا الله تبارك وتعالى ولا يطيع أحد غيره ولا يرجو الخير الا منه ولا يبتغي رضا أحدٍ غيره ولا يتوكل الا عليه ... وهكذا.
وقد جعل الله تبارك وتعالى ازمنة شريفة -ومنها يوم العيد- فرصة كبيرة لتعميق هذه المعاني فقام الأئمة (عليهم السلام) بحكم وظيفتهم الالهية وهي الأخذ بيد العباد في طريق الهداية وإيصالهم إلى الكمال بوضع برنامج عمل تفصيلي لهذه الايام فعلموا شيعتهم عدة صيغ للطاعة من الصلاة والدعاء والسنن والمستحبات وتضمنت الادعية الحمد والثناء لله تعالى على جميل صنعه إذ وفق لصيام هذا الشهر العظيم واعان على قيامه وتلاوة كتابه الكريم في وقت حُرِم منها الكثيرون بحسب درجات الحرمان المتفاوتة فأحدهم -وهو اسوأهم- لم يؤدِ ما فرض الله عليه من صيام وصلاة واشتغل بالمعاصي وآخر صام ظاهراً بمعنى انه امتنع عن الطعام والشراب لكنه لم يمنعه صومه عن الخوض في المحرمات كالغيبة وظلم الناس والمعاملات المحرمة والنظر إلى ما حرم الله وحضور مجالس الباطلين ونحوها فهو قد حُرِم من درجة من درجات العطاء الالهي وهكذا تمتد درجات الحرمان بمقابل درجات القبول والقرب من الله تعالى وكل درجة من درجات القبول تقابلها درجة من درجات الحرمان {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً}(الاسراء: من الآية21).
ومما تضمته الأدعية معان: التوسل إلى الله تعالى بالمغفرة وعدم المؤاخذة على التقصير وقبول الاعمال بكرمه وان لا يعاملنا بعدله (اللهم أدِّ عنا حق ما مضى من شهر رمضان واغفر لنا تقصيرنا فيه ولا تؤاخذنا باسرافنا على انفسنا واجعلنا من المرحومين ولا تجعلنا من المحرومين) وفي دعاء آخر (الهي ربح الصائمون وفاز القائمون ونجى المخلصون ونحن عبيد المذنبون).
فإذن ليس كل عمل يأتي به الانسان يكون مقبولاً وإن كان مطابقاً للشروط التي ذكرها الفقهاء (قده) في رسائلهم العملية التي تتكفل بابراء الذمة من التكليف اما القبول فيتطلب درجة من درجات التقوى {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(المائدة: من الآية27).
ومن الاجزاء الواجبة في خطبتي صلاة العيد التذكير بتقوى الله تبارك وتعالى كتلاوة الآية الشريفة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}(التوبة:119) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ}(النساء: من الآية1) وقد ورد مثل هذا الحث كثيراً في القرآن في اشارة واضحة إلى غياب هذه الحالة عن حياة الناس حتى المؤمنين فالعيد -بخطبتي صلاته- يعيد للمؤمنين هذه الحالة الروحية الوجدانية التي يستشعرها في حياته ويستحضرها في معاملاته وتصرفاته لتكون هي المقياس لذا فسروّها في بعض الاقوال (ان يجدك الله حيث امرك ويفتقدك حيث نهاك) فاذا امرك بالصوم فيريد ان يجدك مع الصائمين وامرك بالصلاة فلا بد ان يجدك مع المصلين ... وهكذا ونهاك عن الغيبة فيجب ان يفتقدك في مجالس الخائضين فيها ... وهكذا.
وفي السياق دعا الأئمة (عليهم السلام) شيعتهم إلى الاكثار من ذكر الله تعالى والعمل الصالح يوم العيد وعدم جواز الاشتغال باللعب والضحك ومما ورد في هذا المجال عن الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) انه نظر إلى ناس في يوم فطر يلعبون ويضحكون فقال لاصحابه والتفت اليهم: ان الله عز وجل جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى رضوانه، فسبق فيه قوم ففازوا وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب كل العجب من الضاحك اللاعب في اليوم الذي يثاب فيه المحسنون ويخيب في المقصرون وايم الله لو كشف الغطاء لنشغل محسن باحسانه ومسيء باسائته) (الوسائل مج5 باب37 من ابواب صلاة العيد ح3).
وهكذا يعمق العيد هذا الركن الأول من ركني الاسلام في شخصية المؤمن) ثم انهى خطبته الأولى بقراءة سورة الكوثر.
وبعد جلسة خفيفة قام إلى الخطبة الثانية
فبدأها بالحمد لله تبارك وتعالى ثم الصلاة على النبي وآله باسمائهم فرداً فرداً وقال: (ان العيد يتكفل بترسيخ الركن الثاني وهو توحيد الكلمة من خلال عملين:
الأول: الحث على التزاور والمعانقة والمصافحة ونبذ القطيعة والتباغض والتشاجر وهذه الاساليب العملية لها دور فعال في حفظ تماسك المجتمع المسلم ووحدته وسيادة روح الالفة والمحبة بين افراده فمن الاحاديث الواردة في المصافحة عن ابي جعفر (عليه السلام) قال (ان المؤمنين اذا التقيا فتصافحا أدخل الله يده بين ايديهما واقبل بوجه على اشدهما حباً لصاحبه فاذا اقبل الله بوجهه عليهما تحاتت عنهما الذنوب كما يتحات الورق من الشجر) (وسائل الشيعة مج6 كتاب الحج ابواب العشرة باب126 ح7) وغيرها كثير، ولما علم الله تبارك وتعالى ان الناس يشتغلون خلال السنة بتفاصيل حياتهم اليومية فتقل اللقاءات بينهم خصوصاً مع تعقيد الحياة المعاصرة لذا جعل العيد فرصة ليجددوا هذه العلاقات ويزيلوا عنها ما شابها من الكدر ونزعات الشيطان.
وهذا التماسك والتآلف هو الاساس الرصين لبناء أمة مزدهرة متقدمة قوية وترى ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اول ما عمل حين صدع بدعوته المباركة هي المؤاخاة بين المهاجرين والانصار ثم بعد ما هاجر آخى بين المهاجرين والانصار كأول خطوة قبل ان يبدأ عمله الرسالي الواسع العظيم وكان اصحابه بمستوى المسؤولية فكان الانصاري يتنازل للمهاجر عن نصف ماله حتى اذا كان له رغيفان أعطاه واحد وإذا كانت له زوجتان طلّق واحدة وتزوجها المهاجر وهكذا استطاع ان يبني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دولته المباركة الحصينة في المدينة وانطلق منها ليفتح العالم لانه (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلم انه لا تستقيم له دولة ولا يستطيع ان يبلّغ رسالة ربه واصحابه متقاطعون متباغضون يلعن بعضهم بعضاً ويفسق بعضهم بعضاً فكان لا يسمع كلام احدهم السيئ عن الآخر ويقول لهم (أحبّ أن امضي عنكم وأنا سليم الصدر) وبذلك قطع هذه المادة الاساسية للتقاطع وسوء الظن وهي النميمة ونقل نقائص الآخرين وتشويه سمعتهم وتسقيطهم.
فما أحوجنا اليوم إلى وعي هذه العملية المباركة التي قام بها المصلح العظيم وباني دولة الاسلام العظيمة ولو سألتني عن أهم معوق للعمل الاسلامي في الفترة السابقة بعد سقوط الطاغية لاجبتك انه هذا التقاطع والتشنج في العلاقات والتزاحم على المواقع الدينية والسياسية والاجتماعية -رغم انها كلها إذا خلت من الاخلاص لله تعالى فهي لا تعدو كونها دنيا زائفة وزائلة- مما انهك الأمة وأضعفها وجعلها نهباً للأعداء يطمع فيها كل قريب وبعيد، واضاع الكثير من فرص التقدم ومشاريع بناء الأمة المتكاملة وهدر الطاقات وأمات الآمال التي انتعشت في يوم ما.
إننا باذن الله تعالى مقبلون على عملية انتخابات وقد بذلت الأمة وقياداتها جهوداً مضنية لاقرارها حتى رضخت الاطراف المعنية ونحن نريدها ان تكون نزيهة ومنافسة شريفة لتقدم الاكفاء وتحكيم ارادة الأمة في من يقودها لكنهم سيعملون لتحقيق مصالحهم من خلال هذه العملية وليس من الضروري ان تتطابق المصالح فستستمر حالة التجاذب والتدافع ليحقق كل طرف ما يريد {َلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}الحج: من الآية40) ومحل الشاهد ان من السلبيات المتوقعة والتي سيعمل الأعداء على ترسيخها هي حالة المهاترات الكلامية وتبادل الاتهامات ومحاولة التسقيط والتشويه والالغاء والاقصاء التي ستتبعها الفئات المتنافسة بشتى الوسائل المتاحة من اجل ارضاء انانياتهم وتحقيق مصالحهم الشخصية أو الفئوية مما سيمزق الأمة بشكل أوسع وها نحن ننبه إلى هذا الخطر من وقت مبكر لأخذ الحيطة والحذر.
ان التنوع في التفكير والوصول إلى نتائج مختلفة استناداً إلى مقدمات متباينة حالة طبيعية ودليل على الابداع ولكي لا يجوز لها ان تتجاوز حدودها الايجابية لتؤدي إلى التقاطع والتناحر.
إننا نشهد اليوم تمزقاً على صعيد الوطن فبعض الاكراد ينادون بالانفصال في الشمال وآخرون يطالبون بانفصال الجنوب واسيئ معنى الفدرالية.
ونشهد تمزقاً على صعيد الدين فهؤلاء المتحجرون الجهلة الحاقدون يقتلون ويدمرون ويفجرون بلا رادعٍ من دين أو اخلاق أو انسانية وبوسائل وحشية وحوداث اللطيفية والمحمودية والسيارات المفخخة والاغتيالات بعض الشواهد على ذلك يريدون ان يجروا البلاد والعباد الى حرب طائفية تهلك الحرث النسل وينفذوا خطط اعداء الأمة من حيث يشعرون أو لا يشعرون ولولا حكمة المرجعية الشريفة وحلمها وبصيرتها وورعها ووعي الأمة وطاعتها لقيادتها الدينية لمابقي المجتمع على حاله اليوم .
ونشهد تمزقاً داخل المذهب الواحد بسبب اختلاف التوجهات الفكرية والقناعات المتعددة وهكذا تستمر الإنشقاقات بشكل لا يُسِّر الصديق ويدمي قلب كل غيور .
ومع هذا الوضع الخطير كيف ستبنى الأمة وتزدهر البلاد وكيف سنحقق السلام والسعادة لأبناء الشعب لذا يجب أن يثوب الجميع الى رشدهم وينظروا بعين الناقد البصير ويعودوا الى سنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم) حيث كان أول عمل هو تأليف قلوب اتباعه وتوحيد شملهم وبناء مجتمع متماسك محذراً إياهم من مغبة التفرق والتشتت التي يكون أول نتائجها ذهاب القوة والدولة (( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها)) آل عمران : 103 .
ولمراسيم العيد وسننة ومستحباته الدور الكبير في سيادة روح المحبة والتصافي بين أفراد الأمة .
الثاني : التذكير وإلفات النظر الى القيادة الحقيقية للأمة التي أمر الله تبارك وتعالى باتباعها (وجعل امامتنا نظاماَ للملة) فالأمامة والقيادة الشرعية للأئمة المعصومين (عليهم السلام) وامتدادهم من الفقهاء العدول الجامعين للشرائط هوا لحصن الذي يحمي الأمة من التفكك ، وما تشتتت الأمة وما تمزقت الا حينما اعرضت عن قيادتها الحقيقية وهذا المعنى يرسخه العيد ويرسخه في قلوب المؤمنين من خلال الحث الأكيد على زيادة الإمام الحسين (عليه السلام) وفهم معاني ثورته المباركة ومن خلال دعاء الندبة الذي ورد استحباب قراءته في الأعياد وهو دعاء جليل يذكر الناس بالركب الكريم من انبياء الله ورسله والأئمة المعصومين والأولياء الصالحين الذي بلغوا رسالات ربهم وأدوا ما عليهم وقدموا التضحيات الجسيمة التي يشير اليها الدعاء ثم يركز في خطابه على الإمام المهدي (عليه السلام) باعتباره الإمام القعلي والقائم باعباء الرسالة الإلهية الشريفة والمدخر لإقامة الحق والعدل وإزالة الأمت والعوج وليذكرنا أن العيد الحقيقي هو يوم إقامة حكم الله تبارك وتعالى في الأرض على يد الإمناء من عباده .
هذا هو يوم العيد في شرفه وهذا هو يوم العيد في معطياته وهذا هو يوم العيد في دورة حياة المسلمين .
ويبقى (كل يوم لم تعص الله فيه فهو عيد) هو شعار المؤمنين وخلاصة نظرتهم الى معنى العيد .
جعلنا الله وإياكم من أهل طاعته ورزقنا وإياكم مرافقة أوليائه في بحبوحة جناته إنه ولي النعم .
ملاحظة :
كانت الخطبتان ارتجالية وقد قررها أحد طلبة جامعة الصدر الدينية ثم نقحها سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله ) .