محور الفدرالية
محور الفدرالية
بسم الله الرحمن الرحيم
في العالم الآن بعض الدول التي تنتهج الانظمة السياسية الفدرالية ولكنها فدراليات متنوعة فكل من هذه الدول التي تربو على العشرين دولة لها نظامها الفدرالي الخاص بها ما يؤكد ان لكل دولة خصوصيتها في اختيار النظام الفدرالي الذي يناسب وقائعها التاريخية والجغرافية والسياسية والاقتصادية وتنوعها القومي والديني وغيره كما ان الفدرالية تنبع اصلاً من الديمقراطية حيث يكون لافراد الشعب حق وحرية في اختيار نوع الحكم السياسي والمشاركة فيه من خلال ممثليهم في الدولة أي ان الديمقراطية هي الارضية الصلبة للفدرالية ولكن الفدرالية هذا المصطلح الاغريقي الاصل (federalism) معناه الاول او الاقرب اليه هو الاتحاد المتكون اصلاً من الحاجة الملحة الى هذا الاتحاد بين طرفين او اكثر وهو الاتحاد الاختياري وليس الدمج القسري كما كان في العصور القديمة وان اتخذ تسمية الفدرالية.. لهذا فان الفدرالية كمصطلح يعني الاتحاد الاختياري هو مصطلح حديث ظهر بظهور النظام الفدرالي للولايات المتحدة الامريكية بعد مؤتمر فيلادلفيا عام 1787 م بصيغة قانونية واصول دستورية واختيار شعبي واسع.. ولا نريد ان نتوسع اكثر في موضوع الفدرالية وتشعباتها اكثر مما تطرق اليه سماحة الشيخ في بعض احاديثه في خطاب المرحلة التي يتطرق فيها الى هذا الموضوع الحساس ونتداخل مع هذا الموضوع من خلال هذه الاحاديث.
ففي تعليقاته على الاتفاق لادارة المرحلة الانتقالية يذكر سماحة الشيخ (.. وانا كفرد عراقي لا اريد الفدرالية التي هي مقدمة لتقسيم العراق والتفكيك بل هي كذلك فعلاً من الناحية المعنوية والشعور على الاقل، والفدرالية ان كان فيها خير فللاجزاء التي تريد ان تتجمع وليس للكل المتحد الذي يراد تجزئته..) فان سماحة الشيخ ياخذ بالحسبان راي غالبية العراقيين الذين يرون في الفدرالية طرحاً سياسياً جديداً عليهم لا يعرفون مآلاتها والى اين تؤدي بالبلد وذلك لعدم توصيل فكرة الفدرالية اليهم لا عن طريق السياسيين و لا الاعلام او الطريق الاكاديمي وغيرها بل حتى السياسيون انفسهم لم يتفقوا على نوع الفدرالية المزمع اقامتها للعراق فظل هذا المصطلح بحدود المشروع القابل للتفحص والمراجعة والتريث كما ان موضوع الفدرالية جاء من خارج العراق وذلك حين طرح في مؤتمر لندن للمعارضة في 14-15/12/2002 كمشروع نظام سياسي جديد للعراق بعد سقوط النظام المباد ولعل طرحه يعود الى اسباب عدة منها ضمان عدم عودة الحكم الاستبدادي الواحد المتفرد بالسلطة والتخلص من عقدة المركزية القاسية التي غالباً ما تاتي بالدكتاتورية والاستبداد والاساءة الى استخدام السلطة والثروات، كذلك وضع قضية الاكراد بالحسبان حيث كان الاكراد منفصلين باقليم منذ مطلع التسعينات ويتمتعون بحقوق الاستقلال، كذلك ان الانفتاح الديمقراطي الذي يعقب الحكم الاستبدادي غالباً ما يدفع الى تحقيق نتائج لا تقف عند حدود الديمقراطية فقط.. ولكن كل هذه الاسباب وغيرها لاتجعل من الفدرالية وكانها قدر محتوم على العراقيين وفي نفس الوقت يمكن ان يتوصل العراقيون الى نوع من الفدرالية يلائم واقعهم السياسي والجغرافي وتعدد القوميات وغيرها بما يخدم مشاريعهم السياسية والاقتصادية ويفعـّل دور الفرد العراقي في المشاركة في العملية السياسية و لاسيما هو يرى او يسمع بنجاح الانظمة الديمقراطية في بلدان عديدة منها الولايات المتحدة الامريكية او الدولة الاقرب اليه وهي الامارات العربية المتحدة لذلك فهو أي المواطن العراقي ازاء هذا التحسس وهذا الطموح يضع امامه عامل الزمن وهظم معنى الفدرالية ووعيها بالشكل الصحيح الذي يؤهله لاختيار نوع منها يلائم واقعه بكل خصوصياته أي بعد ان تتضح الرؤية الواضحة والشفافة ويستقر الاحساس النفسي ازاءها ومعرفة المفاهيم التي تقوم على اساسها الفدرالية المزمعة فاسباب التوجس من الفدرالية كثيرة عند العراقي:
اولها: وجود المحتل الذي قد تكون له اجندة بتقسيم العراق من خلال المشروع الفدرالي بعد ان احتله عسكرياً.
ثانياً: التوجس من الوضع الاقليمي الذي يتنازع الساحة العراقية السياسية من خلال مصالحه وأجندة الدول المجاورة للعراق فيه كذلك التوجس من بعض السياسيين او اقطاب السياسة في العراق من ان يستغلوا موضوع الفدرالية لخدمة مشاريع سياسية معينة ولا سيما ان الفدرالية اقرت في الدستور وصارت المطالبة بها مطالبة شرعية سياسياً وجماهيرياً كما ان هاجس الاستعجال في قبول الفدرالية دون مراجعة وتمحيص من قبل الشعب سيجعلها نظاماً محصناً يصعب التراجع عنه او انها ستجر البلد الى مطبات سياسية يصعب التخلص منها، فهذه الاسباب وغيرها تمثل هاجس التوجس والريبة او الخشية من الاندفاع السريع باتجاه الفدرالية وهذا ما يؤكده سماحة الشيخ في قوله (كما ان اقرارها بهذا الشكل الآن سوف يركزها في الواقع وتصبح حقيقة مسلمة يصعب على واضعي الدستور الدائم الغاؤها او تعديلها كما انها ستكون منشأ لكثير من الخلافات التي تمزق الوحدة الوطنية للخلاف اصلاً على حدود الاقاليم..) كما يدعم هذا التوجس اموراً اخرى يمكن الاطلاع عليها من رد الاستاذ جابر خليفة جابر في كتاب (هذا بيان للناس) الصادر عن منشورات جامعة الصدر الدينية يرد على احد المواطنين العراقيين المغتربين خارج العراق حين وجه اسئلة الى سماحة الشيخ محمد اليعقوبي فاوعز سماحته الى الاستاذ جابر بالرد وكان موضوع الفدرالية من هذه المواضيع الحيوية فطالما صرح سماحة الشيخ في خطاباته و في معرض كلامه عن الفدرالية وهو يؤكد على المحافظة على وحدة العراق (لا يمنع من تحقيق لامركزية في الادارة لمراعاة خصوصيات المحافظات المختلفة من حيث اللغة والدين والمذهب والعرق واعطاء صلاحيات واسعة للادارات المحلية في المحافظات..) فكان توضيح الاستاذ جابر للاخ السائل يتركز على ان الفدرالية حق دستوري مشروع للعراقيين ولكن تطبيقها في الوقت الحاضر ليس من مصلحة الشعب العراقي وذلك لاسباب يمكن احالتها الى ما ذكرناه من التوجس حيال الفدرالية مع بعض التفاصيل المهمة التي يذكرها الاستاذ جابر وهو الخشية من تقسيم العراق الواحد وان مرحلة اللامركزية يجب ان لا تختصر وان ينعم العراقيون بهذه المرحلة التي تسبق الفدرالية والخشية من ابتلاع كركوك ضمن اقليم كردستان كذلك موضوع الثروات الوطنية المشتركة والمتداخلة تحت الارض العراقية الواحدة وموضوع الامن المائي وموضوع ضمانة حقوق الاقليات الشيعية في المحافظات الغربية وغيرها التي تتركز على عدم الاستعجال والانجرار وراء الصيحات التي تنادي الى الانتقال السريع الى الفدرالية أي التركيز على عامل الزمن وعامل وعي التجربة العراقية الجديدة ووعي مفهوم الفدرالية والتدرج بها الى ما يناسب الطموح لها والخشية منها في آن واحد.. فان كان ولابد فان الحل الامثل على الساحة العراقية الآن هو اللامركزية الادارية في ادارة شؤون المحافظات وذلك لما في هذا الحل من حفاظ على وحدة العراق وزيادة لصلاحيات المحافظات في ادارة شؤونها الادارية وكذلك حتى لا تشكل الفدرالية مصدر قلق دائم لا سيما للعراقيين المتوجسين من الاندفاع السريع باتجاهها وهؤلاء هم الغالبية العراقية التي ترى التدرج الى الفدرالية هو الطريق الاكثر أمناً وضمانة لوحدة العراق ولكي يبقى خط الرجعة ممكنا في اية مرحلة تبدو فيها خطورة المشروع الفدرالي قائماً او قادماً.. ولكي تبقى المثاقفة حول الفدرالية مستمرة حتى تنضج في الذهن السياسي الجمعي كتجربة سياسية جديدة ولكي يبقى مبدأ الاستفتاء من قبل الشعب عليها ممكنا في مرحلة قادمة... كذلك يجب ان يكون هناك وقت كاف للمرجعيات الرشيدة مجتمعة لمدارسة موضوع الفدرالية واختيار نوع الفدرالية المناسبة للعراق ولا سيما من الناحية الدينية والشرعية وبالتالي الوطنية المطلوبة والتثقيف الجماهيري المطلوب لها.
اما من ناحية اهمية الفدرالية او التطلع السياسي المشروع لها فذلك لانها نظام يسعى الى اضعاف مفهوم الدولة المركزية الذي طالما عانى منه العراقيون ولا سيما في العصر الحديث كما ان الفدرالية تنجح او تكثر حيث يكثر التنوع القومي والاثني والديني فهي نجحت مثلاً في الولايات المتحدة والارجنتين والمكسيك وسويسرا وبلجيكا والاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا والهند واندونوسيا واستراليا وغيرها من الدول ولكنها كما قلنا تختلف من دولة الى اخرى حسب المواصفات الخاصة لكل بلد كما ان موضوع اضعاف المركزية لا يعني دائماً ضعف الدولة بل ان الدولة التي تنجح في استخدام نظام فدرالي مناسب لها ستكون اكثر تنظيماً واكثر مراعاة لمصالح الشعب بكل فئاته وشرائحه فينطبق عليها قول الفيلسوف جيفرسون في القرن الثامن عشر(الدولة التي تحكم جيداً هي التي تحكم أقل) فالتجاوب مع الحاجات الوطنية والقومية والاقليمية هو معيار آخر للفدرالية.
وقد شخّص سماحة الشيخ هذه الاهمية لتطبيق اللامركزية كمدخل للفدرالية الناجحة كما يؤكد سماحته (نرى من مصلحة الشعب العراقي الآن ان يسير وفق نظام اللامركزية للمحافظات مع تحديد السلطات الحصرية والمشتركة للحكومة المركزية والحكومات المحلية في المحافظات اما الفدرالية فتثبت كحق لمحافظة او اكثر متى شاءت ووجدت في نفسها القدرة على تشكيل اقليم وادارته لان الفدرالية يمكن ان تكون حلاً لبعض المشاكل التي يمكن ان تحصل في الحكومة المركزية وهي غير حاصلة الآن..).
هذا هو التوجه الحذر والمدروس الى الفدرالية المبني على اساس التدرج والتوعية اللازمة لها والوقوف على الفوائد المتوخاة منها او المضار التي يمكن ان يجلبها التعجل في اعتمادها لذلك يركز سماحته على التاهيل المطلوب لها بقوله (كما ان الشعب العراقي في محافظات الوسط والجنوب عليه ان يستغل هذه المدة لتأهيل نفسه على مستوى إدارة الاقاليم وقد اخذ بهذه الافكار في الصياغة المعتمدة من الدستور..) هذا هو الموقف الواضح لمرجعيتنا الرشيدة من الفدرالية الذي يمليه الوازع الايماني والحس الوطني من موقع المسؤولية الدينية والوطنية ازاء هذا الامر....