مائدة شعبان
مائدة شعبان([1])
سُمي هذا الشهر (شعبان ) لتشعب الخيرات فيه من لدن الله تبارك وتعالى – كما ورد في الرواية الشريفة – وتشعب الخيرات يمكن ان يكون له أكثر من معنى.
( منها) إيجاد اسباب للخير خاصة بهذا الشهر الشريف وهو صحيح ويكفيه شرفا أن فيه ليلة تضاهي ليلة القدر و هي النصف منه ، مع تضمنه لمناسبات جليلة تتجدد فيها أفراح النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعترته ومواليه وتكون سبباً لإفاضة الخيرات وفيه أيضا أعمال مخصوصة من أدعية ومناجات وزيارات ،فهذه كلها أسباب لتشعب الخيرات خاصة بهذا الشهر .
(ومنها ) أن الإنسان يوفق فيه إلى الطاعات أزيد مما يوفق إليها في غيره من الشهور ، فالصلاة و الصوم و الصدقة والبر بالوالدين وصلة الرحم وقضاء حوائج المؤمنين و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها كثير كلها طاعات ومستحبة في جميع الأزمنة لكن اندفاع الإنسان للقيام بها يكون في هذا الشهر أزيد بما لا يقاس به غيره، مما يعني ان هذا الشهر كان سبباً للتعرض لتلك الخيرات الموجودة أصلاً.
(ومنها) إن الأجر الذي يعطى للعاملين في هذا الشهر يكون أزيد مما يعطي لهم في غيره من الشهور على نفس الأعمال ، فالصوم حسن في كل زمان إلا انه في شعبان أحسن ، و الصلاة حسنة في كل زمان إلا أنها في شعبان أحسن، وهكذا كل الأعمال الصالحة الأخرى وتفاوت الدرجات يوم القيام إنما يكون بحسب حسن العمل قال تعالى (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (الملك /2).
وهذه المعاني كلها متحققة في شعبان ، فالإنسان الساعي نحو الكمال يعمل لتحصيلها جميعا ، ومن أتى بأي شعبة من شعب الخير هذه يكون قد تعلق بغصن من أغصان شجرة طوبى كما ورد في الرواية[2] الشريفة.
فهذه هي مائدة شعبان التي أعدّها الله تبارك وتعالى ولو نظرت حولك وفي داخلك لوجدت ما لا يعد ولا يُحصى من الخيرات وسبل الطاعة الموصلة إلى رضا الله تبارك وتعالى بعكس ما يصوّر البعض من امتلاء الدنيا والناس بالفساد والمعصية، وهذا صحيح لكنك انظر إلى العالم الأول لا الثاني. كمن ينظر من خلال عدسة بيضاء شفافة فانه يرى الدنيا منيرة مشرقة، وآخر ينظر إليها من خلال عدسة سوداء قاتمة فيراها مظلمة، بل يستطيع الإنسان أن يجعل من نفس دنيا الفساد والمعصية والانحراف ساحة للطاعة من خلال ممارسة الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والهداية إلى الحق وغلق منافذ الفساد وأدواته.
إن نفس وجود هذا العدد من الشباب الرساليين العاملين في ناحية من نواحي محافظة الناصرية لهو دليل على سعة مساحة الخير وأهله، في حين مرّ على الأئمة (سلام الله عليهم) وأصحابهم دور لم يستطيعوا فيه كسب واحد إلى ولاية أهل البيت (عليهم السلام) كما يظهر من بعض الروايات.
فعلى الإنسان العاقل أن يغتنم وجود هذه الـشعب من الخيرات والأغصان المتدلية من شجرة طوبى ليجتني من ثمارها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا يزهد في شيء منها فانه لا يعلم أيها أكثر سبباً للقرب من الله تبارك وتعالى.
فهذه هي مائدة شعبان التي أعدها الله تبارك وتعالى لعباده في هذا الشهر الشريف فأين منها المائدة التي طلبها الحواريون من النبي الكريم عيسى روح الله (عليه السلام) (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِين، قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (المائدة: 112-114)
فقارنوا بين الموقفين وبين المائدتين، تلك مائدة طلبها الحواريون اختباراً لصدق نبيهم ومائدتنا انزلها الله اختياراً، وتلك مائدة مادية تنفد ولا تبقى ومائدتكم معنوية باقية خالدة، وهذا كله تشريف من الله تعالى لنبينا محمد (صلى الله عليه وآله) وتكريم وتبيان لشرفه وفضله، ولذلك كان من الطبيعي أن يكون من أعظم المستحبات في هذا الشهر الإكثار من الصلوات على النبي وآله (صلى الله عليهم أجمعين) ووردت في ذلك صلوات شعبانية عن الإمام السجاد (عليه السلام) وهي التي أولها (اللهم صل على محمد وآل محمد شجرة النبوة...) إلى آخر الدعاء لأنه الواسطة في هذا الفيض الإلهي المبارك.
ودع عنك اشكال بعض المهرّجين في الفضائيات على الشيعة بأنهم يتوسلون إلى الله تعالى بالنبي وآله (صلوات الله وسلامه عليهم) والله لا يحتاج إلى واسطة ولماذا لا يسألون –أي الشيعة- الله تبارك وتعالى مباشرة؟ ونحوها من الإشكالات التي لا قيمة لها لأنهم لو رجعوا إلى مصادرهم فضلاً عن مصادرنا لوجدوا مشروعية هذا التوسل بل استحبابه فإن الله تعالى يحبُّ أن يسأل ويحبّ أن يتوسّل إليه بمن اصطفاهم من عباده ليفيض من خلالهم على عباده بالعطاء لا لأنه يحتاج إلى واسطة فهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ولكن ليظهر شرف وفضل وكرامة هؤلاء المصطفين الأخيار الأطهار.
ولنسأل هؤلاء المهرّجين: أليس الله بقادر على أن ينزل شرائعه وأحكامه إلى صدور عباده وقلوبهم وعقولهم بأي وسيلة من دون حاجة إلى توسيط الأنبياء والرسل (عليهم السلام) فلماذا يتخذ هؤلاء الوسائط؟
فكما أن الحكمة الإلهية اقتضت توسيط الأنبياء في الفيض التشريعي كذلك فإنها اقتضت التوسيط في الفيض التكويني بلا فرق بينهما، لو كان يعقل هؤلاء المتحجرون.
وهنا نشير إلى وجه من معاني الحديث الوارد بأن شهر رجب شهر أمير المؤمنين (عليه السلام) وشهر شعبان شهر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وشهر رمضان شهر الله تبارك وتعالى، أي أن جملة من الخيرات والألطاف الإلهية التي يفيضها الله تعالى على عباده في رجب هي من بركات الإمامة، وجملة منها في شعبان هي من بركات النبوة الخاتمة، أما شهر رمضان ففيه ألطاف إلهية أوسع من ذلك كله.
ولذلك ورد عن الصادق (عليه السلام) (إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان إذا رأى هلال شعبان أمر منادياً ينادي في المدينة: يا أهل يثرب: إني رسول رسول الله (صلى الله عليه وآله) إليكم، ألا أن شعبان شهري، فرحم الله من أعانني على شهري)([3])
وإعانته (صلى الله عليه وآله) تكون بإتباعه والسير على هداه ليتعرضوا بذلك لتلك النفحات الإلهية الخاصة التي تفاض بسبب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فينالها من تعرض لها ويزداد بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) سروراً ورفعة لأنه السبب فيها ولا تتحقق هذه الاعانة الا بإعانة الله تعالى وتوفيقه، قال الإمام السجاد (ع) في الصلوات الشعبانية (اللهم فأعنّا على الاستنان بسنته (صلى الله عليه وآله) فيه ونيل الشفاعة لديه، اللهم وأجعله لي شفيعاً مشفّعاً وطريقاً إليك مهيعا – أي واسعاً بيّنا- واجعلني له متبعا إلى آخر الدعاء، فلا تُنال تلك البركات المحمدية إلا بإتباعه والأخذ بسنته بتوفيق الله تبارك وتعالى.
وقد بيّن الدعاء جملة من تلك السنن والاسباب إلى الخير ومنها قوله (عليه السلام) (وارزقني مواساة من قتّرت عليه من رزقك بما وسّعت عليّ من فضلك) والفضل مطلق لا يختص بالمال فقد يكون للبعض فضل من جاه أو فضل من قوة بدنية أو فضل من موقع متنفذ أو فضل من علم ومعرفة أو فضل من أخلاق أو غيرها مما وسّع الله تعالى بها على عباده فليواسي بها الآخرين المحرومين من ذلك الفضل، فمن كان له فضل من مال فليوسّع على الفقراء المحتاجين، ومن كان له فضل من علم فليبذله لمن يجهلونه، ومن كان عنده فضل من أخلاق فليسع الآخرين بأخلاقه ويأخذ بأيديهم لإصلاح ما بهم، ومن كان له فضل من قوة فليُعنِ الآخرين وهكذا.
وأنتم بفضل الله تبارك وتعالى من السائرين على هذا الطريق المبارك فمنكم من انضمّ إلى مؤسسة قرآنية لنشر هذه المعارف الجليلة، ومنكم من انضم إلى مؤسسة إنسانية لمساعدة المحتاجين والمحرومين، وبعضكم انضمّ إلى مؤسسة علمية ثقافية لتوعية المجتمع وتثقيفه، وهذه كلها من شعب الخير والاستنان بسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فطوبى لكم.
([1]) من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي(دام ظله) مع وفد شبابي من ناحية الفهود في محافظة الناصرية ضم مؤسسة العلم نور الطلابية ومؤسسة الرحمة الإنسانية وموكب الإمام الصادق(عليه السلام)، يوم الاربعاء 1/شعبان/1431 المصادف 14/7/2010.
([2]) راجع أعمال الليلة الأولى من شعبان في مفاتيح الجنان.
([3]) راجع مفاتيح الجنان- أعمال شهر شعبان ورواها عن الشيخ الطوسي (قدس الله سره).