الخطبة الثانية : ظاهرة الإفطار العلني: الأسباب والعلاج
بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
المعنى الإيجابي لانتظار الإمام (عليه السلام)(*)
الحمد لله وحده، والحمد حقه كما يستحقه حمداً كثيراً، وأعوذ به من شر نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي.
والصلاة والسلام على أشرف خلق الله تبارك وتعالى وأحبِّهم إليه وأكرمهم عليه أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين.
قال الله تبارك وتعالى: [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ](البقرة:197) وقد كان شهر رمضان محطة مباركة للتزود بخير الزاد ليوم المعاد وهي التقوى، بل أن تحصل التقوى هي الحكمة من تشريع الصوم؛ قال تبارك وتعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (البقرة:183) نسأل الله تبارك وتعالى أن يكون ما أمدّنا به من الزاد كافياً لاستقامتنا على الحق في مستقبل أيامنا.
وردت أحاديث كثيرة([1]) في فضل انتظار الفرج منها ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج) وروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (أفضل العبادة انتظار الفرج) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (انتظروا الفرج ولا تيأسوا من روح الله فإن أحب الأعمال إلى الله عز وجل انتظار الفرج ما دام عليه العبد المؤمن، والمنتظر لأمرنا كالمتشحّط بدمه في سبيل الله).
وقد فهم الكثيرون من هذه الأحاديث معنىً سلبياً هو الانكماش والعزلة وعدم التحرك لإزالة الظلم والانحراف وتذرّعوا لذلك بفهم غير ناضج لبعض المفاهيم كالتقية ولبعض الأحاديث الشريفة كروايات (كل راية قبل ظهور القائم فهي راية ضلالة)، فعطّلوا فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما أوجب اتهام الشيعة بالخنوع والاستسلام والركون للظلم والذل، مع أن واقع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) على عكس ذلك تماماً فهي التي تتصف بالحركية والنطق بالحق والتفاعل مع قضايا الأمة ابتداءً من زمن المعصومين (عليهم السلام) حتى عصرنا الحاضر ولم تتخلف عن ذلك إلا فترات بسيطة لسبب أو لآخر. بينما كان الآخرون منساقين وراء رغبات الحكّام سائرين في ركابهم حتى بدأ عندهم الوعي الإسلامي منذ أقل من قرنين من الزمان وسمّوه بالصحوة الإسلامية، ولا يخلو التعبير بالصحوة من إشارة إلى حالة سابقة من الخمول والركود.
إن الانتظار حالة إيجابية وهو يستبطن عملياً معنى الاستعداد ولو لم يكن كذلك لما حظي بالمنزلة الرفيعة في الأحاديث المتقدمة. ولنأخذ أمثلة من حياتنا على هذا المعنى.
فحينما نقول أننا ننتظر الامتحانات العامة فإن هذا يعني أن يكون الطلبة في ذروة الاستعداد لها فيجدّون ويجتهدون ويوفّر لهم ذووهم كل الظروف التي تساعدهم على تحقيق أفضل النتائج، وتنهمك إدارات المدارس في إعداد القاعات والأسئلة والمشرفين وغيرها، وهكذا تجد كل من له علاقة بالموضوع منهمكاً في أداء عمله وما تقتضيه وظيفته.
وحينما تنتظر دولة إقامة فعالية ضخمة كدورة الألعاب الأولمبية التي أقيمت قبل أسابيع في الصين فتجد الدولة كلها مستنفرة في الاستعداد لإقامتها بأحسن حال وتنفق الحكومة المليارات في بناء الملاعب والفنادق وتهيئة المدن وغيرها، وهذا كله مع أن كثيراً من هذه الألعاب عبارة عن سراب يحسبه الظمآن ماءً أو أوهام صنعها الإنسان ليخدع بها نفسه وتتضمن كثيراً من المعاصي زيّنها لهم الشيطان: [وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ..] (الأنفال:48) [وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] (إبراهيم:22).
أقول: إذا كانت الأوهام الباطلة تستحق كل هذا الاستعداد وتحشيد الطاقات وإنفاق الأموال الطائلة، فماذا يعني انتظار اليوم الموعود وأمل الإنسانية الذي لا يعني فقط انتظار إمام عظيم هو بقية الله في أرضه وحجته على عباده -وهذا بحد ذاته يتطلب استعدادات ضخمة-، بل يعني إضافة إلى ذلك انتظار مشروع عظيم مبارك يتوّج جهود الأنبياء والرسل والأئمة والصالحين ويحقق الوعد الإلهي بإقامة دولة الحق والعدل ومحق الفساد والانحراف والظلم.
لا شك أن استقبال قائد عظيم كالإمام (أرواحنا له الفداء) ومشروع خالد كدولته المباركة يستحق منا شيعته التوّاقين لرؤية طلعته المباركة ونصرته والكون في طليعة جنده أن نستعد بحسب ما تقتضيه وظيفتنا وموقعنا.
فالحوزة العلمية والفضلاء والمبلغون ينتشرون في كل ناحية لنشر تعاليم الدين والأخلاق الفاضلة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يساعدهم في ذلك الشباب الواعي الرسالي مستفيدين من وسائل الاتصال المتقدمة وشبكات الإنترنت لإيصال صوت أهل البيت (عليهم السلام) إلى كل مكان في العالم.
والمتصدّون للحكم يبذلون قصارى جهودهم في بناء دولة المؤسسات المزدهرة المتحضرة التي تسودها العدالة والإنصاف والرحمة وبذل الوسع في خدمة الناس وإسعادهم.
والطلبة يجدّون ويجتهدون لبناء مجتمع يمتلك الطاقات المبدعة القادرة على الإعمار والبناء في كل نواحي الحياة ويُغَطّون مختلف الاحتياجات.
والأغنياء والمتمولون ورجال الأعمال يكثّفون جهودهم في الاستثمار لإعمار الحياة وتهيئة أسباب السعادة للناس وخلق فرص العمل وتفجير الطاقات وتشغيل العاطلين ويساهمون في دعم هذه الحركة المباركة، وهكذا.
الأغلال الفكرية:
إن الفهم الخاطئ لفكرة الانتظار والتقية والعزلة وغيرها تُعدُّ من الأغلال الفكرية التي تقيّد حركة الإسلام المباركة مضافاً إلى القصور والتقصير الذاتيين، وما لم نحطّم الأغلال ونكسر القيود فإننا لا نستطيع أن نتحرك، وما بِعثة الأنبياء والرسل (صلوات الله عيهم أجمعين) إلا لكسر هذه القيود وتحرير الإنسان من الأغلال الفكرية والنفسية والاجتماعية التي تعيق حركته([2])، قال تعالى: [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] (الأعراف: 157).
تصور لو أن إنساناً مكبلاً بالحديد في يديه ورجليه وهو في سجن محكم وأننا نطلب منه النهوض والحركة والتخلص من سجنه والإفلات من سجّانه، أترى يستطيع ذلك من دون أن يكسر هذه القيود ويفكّ هذه الأغلاق ولو بمساعدة الآخرين؟ والتأريخ يروي لنا عن أشخاص –كأحد زعماء مشركي قريش- طُلب منه –حين الاحتضار- أن يقول كلمتين ما أيسرهما (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) فلم يقدر وقال: إنهما أثقل من الجبال على صدري. لأنه مكبّل بالموروثات الاجتماعية التي تمنعه من مخالفة طريقة الآباء.
هكذا الإنسان لا يستطيع أن يرتقي سلم الكمال ويستجيب لدعوة الله تبارك وتعالى ورسوله إلا عندما يتحرر من هذه الأغلال قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] (الأنفال: 24).
وما هذه الحياة التي يدعونا الله تبارك وتعالى إليها؟ وما هي صفتها؟ قال تعالى: [مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (النحل:97).
أيها الأحبة:
إذن أساس الحياة الطيبة والانتظار والاستعداد لليوم الموعود الذي يؤسس هذه الحياة الطيبة ركنان: الإيمان المبني على العلم والمعرفة، والعمل الصالح المبني على التقوى؛ ففي الكافي عن أبي بصير قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جُعلت فداك متى الفرج؟ فقال: يا أبا بصير وأنت ممن يريد الدنيا؟ من عرف هذا الأمر فقد فُرِّج عنه لانتظاره).
ولا يخفى ما جواب الإمام (عليه السلام) من توبيخ لمن ينتظر الفرج طلباً للدنيا مثلاً لكي يكون الحكم لأتباع أهل البيت (سلام الله عليهم) فتكون له حصة من (الكعكة) كما يقولون فيكون الوصول إلى الحكم غاية وهدفاً وليس وسيلة لإحقاق الحق وإقامة العدل فيقع أمثال هؤلاء في الظلم والانحراف ولا يحققون الهدف المنشود، وهذا أحد وجوه معنى الرواية الشريفة (كل راية قبل المهدي فهي راية ضلالة) لأنها تتحرك لتغيير الظالم وأخذ موقعه والتمتع بالجاه والسلطة والثروة وليس لتغيير الظلم وخدمة الناس وإصلاح أحوالهم وتأسيس الدولة الكريمة التي تضمن الحياة السعيدة لكل إنسان.
لقد قلنا في خطاب سابق أن الفرج والظهور يبدآن بالإشراق من داخل النفس كلما ازدادت تهذيباً وكمالاً ومن دون انبلاج فجر حقيقة الإيمان في القلب وطهارة النفس فإن الشخص سوف لا يتنعم بظهور الدولة المباركة والعياذ بالله.
بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الثانية
ظاهرة الإفطار العلني: الأسباب والعلاج
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
شهد شهر رمضان الذي فارقناه أمس ظاهرة تستحق الدراسة والتأمل، وهي كثرة المفطرين والتجاهر بالإفطار من دون رادع أو عقوبة في حالة غير مسبوقة حتى في أيام الطاغية المقبور صدام على ما قيل.
ونحن حينما نقول هذا لا نتوقع أن يكون جميع الناس ملتزمين بالدين في حياتهم [أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً] (الرعد: 31) [قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ] (الأنعام:149) [وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ] (النحل:9).
ولا نقصد الناس الذين كانوا يلتزمون بالدين تحت ضغط الجماعات الدينية وخوفاً من بطشها، لأن التزاماً مثل هذا لا يتوقع له الدوام والاستمرار.
ولا نقصد الناس المعذورين الذين لم يتمكنوا من الصيام لأسباب صحية وغيرها.
وإنما نتحدث عن أسباب هذا التراجع في الالتزام الديني. الذي يعتبر تمرداً على الحكم الشرعي وعصياناً له.
فبعضهم يراه ردّة فعل على العنف والبطش الذي مارسته الجماعات المسلحة باسم الإسلام، والإسلام بريء منهم فلما ضعفت شوكتها أظهر البعض رفضهم لها بترك الالتزام بالدين كما ينقل عن بعض القوات الأمنية أنها تجعل علامات انتصارها رفع مكبرات الصوت بالأغاني أثناء تجولها في الشوارع، وهم واهمون بذلك ويضرون أنفسهم ويحوّلون نعمة الله كفراً به [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ] (إبراهيم:28) إذ أن رفض الجماعات المتلبسة بالدين لا يعني رفض الدين نفسه فإن الدين كله خير ولا ذنب له إذا أساء المتلبسون به.
وبعضهم يرجع سبب الظاهرة إلى فشل الأحزاب الحاكمة والتي تصف نفسها بالإسلامية لكن سوء استخدامها للسلطة والجفاء الذي تعاملت به مع الشعب أوجب نفور بعض الناس من الواجهات التي تدعي الإسلام وسرى هذا النفور عند البعض إلى المرجعية الدينية وتحول داخل نفوسهم إلى سلوك معاكس بإظهار التمرد على الأحكام الشرعية كتعبير عن التمرد على تلك الواجهات، وهذا الفريق يضر نفسه قبل أن يضر الآخرين لأن تلك الجهات إذا تسلقت باسم الدين لتحقيق مغانم شخصية كما وصفهم الإمام الحسين (عليه السلام): (الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قلّ الديّانون) فهذا لا يكون مبرراً لمخالفة الدين والخروج عن تعاليمه وهو الطريق إلى سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، ولا يجد الخير في مخالفته [وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى] (طـه:124-126) [وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ] (الزخرف:36-37).
وقد وصف أمير المؤمنين أمثال هؤلاء بأنهم (كالطاعن نفسه ليقتل رِدفه) وهو يطعن نفسه ويسبب لها الهلاك ليصل إلى ردفه الذي يريد قتله ولعله لا يحقق ذلك. والمعالجة الصحيحة لهذه المشكلة بعدم انتخاب مرشحي تلك الجهات الظالمة وعدم تمكينهم مرة أخرى من التسلط على رقاب وثروات الشعب.
وأفطر البعض معتذرين بعدم وجود ما يعينهم على القيام بهذه الطاعة الكريمة فالصائم يحتاج إلى تغذية وإلى ظروف مريحة وهو ما افتقدوه حيث لا يجدون التيار الكهربائي ليستريحوا قليلاً ولا الماء ليغتسلوا ويتبرّدوا ولا فرصة العمل ليوفّروا الغذاء المناسب فأصبح الصوم شاقاً بالنسبة لهم خصوصاً في أوائل الشهر حيث كان الحرّ شديداً جداً. وهذا السبب مرتبط بضعف الأداء الحكومي والفساد المستشري وذكرنا رد الفعل الصحيح.
الخطاب الديني وتأثير الإعلام المعاصر([3]):
ويضاف إلى هذه الأسباب جميعاً عدم ارتقاء مستوى التبليغ والتوعية بأمور الدين إلى ما يناسب التحديات المتصاعدة والقوية والمنوعة لا من حيث الخطاب ولا من حيث الآليات ولا من حيث القدرات الذاتية والمؤسساتية.
وهذا الكلام ليس موجّهاً إلى الحوزة العلمية فقط بل إلى كل المؤمنين خصوصاً الشباب الرساليين، لأن وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شاملة للجميع، ولقد كان الخطاب الديني –بغض النظر عن مستواه- هو المصدر الأساسي لثقافة الناس والمؤثر في توجيههم بلا منافسة تذكر من أحد وكانت المساجد والمنابر والكتب والاستفتاءات هي القنوات التي يستقي منها الناس معارفهم وهي كلها منافذ تطل منها الحوزة العلمية على الأمة، لذا لم تكن صناعة الرأي العام تحتاج إلا إلى سطر واحد بل نصف سطر لخلق موقف موحد تجاه قضية معينة كتحريم السيد الشيرازي لاستعمال التبغ في نهاية القرن التاسع عشر أو فتوى الشيخ الشيرازي بوجوب الجهاد ضد الاحتلال الإنكليزي في ثورة العشرين أو فتوى المرجعية بوجوب المشاركة في الانتخابات عام 2005 لبناء عملية سياسية صحيحة في العراق.
أما اليوم فقد تنوعت مصادر الثقافة المؤثرة على صناعة الرأي فأصبحت الفضائيات وشبكة الإنترنت والمجلات ونحوها من وسائل الإعلام تنافس الخطاب الديني وتزاحمه وتحاول القضم من مساحة تأثيره. مما يوجب على الحوزة العلمية وجميع أبناء الحركة الإسلامية أن يحدّثوا في خطابهم وآليات عملهم ليحافظوا على قوة تأثيرهم لهداية الناس وإرشادهم إلى ما يصلحهم في دنياهم وآخرتهم [إِنْ أُرِيدُ إِلا الأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا باللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ] (هود: 88).
تحديث آليات العمل الإسلامي:
وأذكر مثالين لتنويع الآليات للإشادة بهما:-
1- المسرح الجوّال: حيث قام نخبة من العاملين بإنشاء مسرح ينقلونه من مكان لآخر يعرضون من خلاله مسرحيات تصوّر السيرة العطرة لأهل البيت (سلام الله عليهم أجمعين) وأخرى تجسد الأخلاق الفاضلة أو تحذّر من حالة سيئة وتبيّن آثارها الخطيرة بأساليب قصصية جذّابة مما يؤثر في تلقي وقبول المشاهدين أكثر من التأثّر بسماعها في المحاضرات، وتنشر الأعمال الناجحة منها على الجمهور من خلال الأقراص، وقد بلغني الرواج الذي لاقاه قرص (ربّ ارجعون).
2- قدّم أحد الفضلاء في مدينة العمارة مقترحاً بتنظيم درس فقهي لرؤساء العشائر يشرح فيها المسائل الابتلائية التي يتعرضون لها من خلال إدارتهم لشؤون عشائرهم كالفصل والنهوة وغيرها، وشجّعته على المشروع، وأن تعقد الدروس في مضايف رؤساء العشائر أنفسهم تكريماً لهم وإعزازاً لشأنهم بشكل دوري وتُعرض فتاوى جميع العلماء الذين يرجع إليهم هؤلاء الرؤساء بالتقليد فلاقت الفكرة استحساناً وتأييداً لدى أكثرهم واستمرت الدروس طيلة شهر رمضان المبارك بهمّة ورغبة مما شجّع غيرهم على الانضمام إليها وطالبوا بمواصلة هذه الدروس لما وجدوا فيها من النفع والعزة والكرامة.
وأنا أحيي من هذا المنبر كل الذين ساهموا في إنجاح هذه المشاريع المباركة، وغيرها مما لم أذكر وهي لا تقل إبداعاً وهمّة عن هذين المشروعين.
أيها الأحبة:
روى أبو الصلت الهروي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: (رحم الله عبداً أحيى أمرنا، قلت: كيف يحيي أمركم؟ قال: يتعلم علومنا، ويعلمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا)([4]). فما علينا إلا أن نحسن كيفية إيصال صوت الحق والهداية والصلاح إلى الناس، ونشعرهم بالحاجة إلينا، فما داموا مستغنين عنّا ولا يحتاجوننا فإنهم يعرضون عنّا ولا يلتفتون إلينا، ومتى يحتاجون إلينا؟ عندما يجدون عندنا ما لا يجدونه عند غيرنا، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (أحسن إلى من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره) وهما معنيان متقابلان فالحاجة إليك هي أن يجد عندك القدرة على الإحسان إليه عندئذٍ ستصلح أن تكون إماماً وأميراً له. فعلى المبلّغ الرسالي أن يوفّر للناس ما يحتاجونه ولا يجدونه عند غيره من العلم والمعرفة وفضائل الأخلاق والسير على نهج أهل البيت (سلام الله عليهم)، لاحظ مثلاً أن خطيباً يرتقي المنبر ويدخل في مهاترات سياسية وتصفية حسابات شخصية أو حزبية مع آخرين، وآخر يتحدث في الموعظة ونشر أحكام الدين ويجعل بعض الأحداث السياسية شواهد وموارد لأخذ العظة والعبرة، فإن الناس لا تتفاعل مع الأول لأن هذا الكلام تجده مبذولاً ومملولاً لكثرة السياسيين الذين يتعاطونه، أما الثاني فيصغون إليه لأنهم يحصلون منه على شيء لا يجدونه عند غيره وهو الفقه والموعظة والأخلاق والعقائد ونحوها.
وصايا لإنجاح العمل الرسالي([5]):
ولكي تنجح في عملك الرسالي فإليك جملة وصاياً مضافاً إلى ما سبق:
· حبب نفسك إلى الناس بالكلمة الطيبة والمواقف النبيلة وشاركهم في أفراحهم وأحزانهم واهتم بما يهتمون به لا فرق بين صغير أو كبير، غني أو فقير، وجيه معرّف أم مجهول من عامة الناس، واسعَ في قضاء حوائجهم بمقدار ما تستطيع، وإن لم تستطع فتعاطف معه وتفاعل مع قضيته.
· وتنزّه عما في أيدي الناس واستغنِ عنهم ولا تنتظر منهم جزاءً ولا شكوراً.
· وترفّع عن التحزب والتعنصر لجهة سياسية أو دينية أو عشائرية أو اجتماعية.
· وادعُ إلى الحق والعدل، واجعل هدفك رضا الله تبارك وتعالى.
· والاهتداء بسنة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله الأطهار (عليهم السلام).
--------------------------------------------------------------------------------
(*) خطبتا صلاة عيد الفطر السعيد عام 1429 المصادف 1/10/2008. وقد دأب سماحته على إقامتها في داره والشارع والساحة المتصلة به .
([1]) جُمعت من مصادرها في كتاب المعجم الموضوعي لأحاديث الإمام المهدي (عج) )، الفصل 15، صفحة 413 وما بعدها.
([2]) صدر تحت إشراف سماحة الشيخ إبان الحكم الصدامي المقبور كتاب ضمن سلسة (نحو مجتمع نظيف) عنوانه (كونوا أحراراً) يتضمن دراسة تحليلية لهذه الأغلال وكيفية التخلص منها.
([3]) ورد هذا المقطع في حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع العاملين في إذاعة سبل السلام التي تبث برامجها من مدينة الناصرية يوم 2 شعبان 1429 المصادف 4/8/2008.
([4]) وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب 8، ح52.
[5]) ورد هذا المقطع في حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع عدد من فضلاء مدينة النجف الأشرف يوم 30 شعبان 1429.