كتاب الاجتهاد والتقليد
كتاب الاجتهاد والتقليد
نحن نعلم إجمالاً - أي، حتى لو لم نعلم بالتفاصيل- بأنّ الله تبارك وتعالى لم يخلقنا في هذه الدنيا عبثاً أو لهواً (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ) (الأنبياء : 17) وإنّما خلقنا لهدف (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات : 56) أي (ليعرفون) كما ورد في الرواية الشريفة.
ويظهر من بعض الروايات التي وردت في تفسير قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (الأعراف : 172) أنّ عقداً تم الاتفاق عليه بين الله تبارك وتعالى وبين عباده بأن يخرجهم من ذلك العالم إلى عالم الدنيا ويسخّر لهم كل ما في الأرض (خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرض جَمِيعاً) (البقرة : 29) على أن يطيعوه بتكاليف يسيرة فيصلّون خمس مرات في اليوم ويصومون شهراً في السنة ويحجّون بيته الحرام في العمر مرة ويجتنبون الفواحش بعد أن أحلّ لهم ما يعوضهم عنها ويلبي احتياجاتهم الجسدية والنفسية والروحية وكل ذلك من أجل مصالح تعود لهم، ثم وعدهم -إن وفوا بالاتفاق- جنات النعيم خالدين فيها فوقّع كل البشر على هذا العقد لأنّه صفقة رابحة لا يرفضها ذو عقل، فلما خرجوا إلى الدنيا نسوا العهد ولم يجد لهم الله تبارك عزماً فأرسل إليهم الأنبياء والرسل وأنزل عليهم الكتب ليذكروّهم بذلك العهد فمنهم من التزم وعاد إلى فطرته التي فطر الناس عليها ومنهم من تمرد وأعرض.
وأعتقد أنّنا الآن لو عرضت علينا نفس الصفقة لما ترددنا في الموافقة عليها، وعلى أي حال فإنّ هذا العلم الإجمالي بوجود تكاليف علينا يوجب علينا التحرك للخروج من عهدة هذه التكاليف التي بيّنها الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم والنبي وآله الطاهرون (صلوات الله عليهم أجمعين) في السنة الشريفة، وعدا بعض الأحكام التي يعلم الإنسان يقيناً أنّها من الشريعة (كوجوب الصلاة وحرمة شرب الخمر وإباحة النكاح) فإنّ هذا التحرك يكون بأحد أساليب ثلاثة:
الأول: أن تكون للمكلف القدرة على الوصول إلى الحكم الشرعي الذي تطمئن إليه نفسه من مصادر التشريع، وهذه القدرة التي تصبح ملكة راسخة في ذهن الإنسان تُعرف بــ (الاجتهاد)، وهي تتوقف على مقدمات عديدة كالتضلّع في علوم اللغة العربية لمعرفة مداليل الكلام في عصر صدور النص، وعلم الرجال لتمييز الرواة الثقات عن غيرهم، وعلم أصول الفقه الذي يبيّن قواعد التعامل مع النص الشرعي وطرق الوصول إلى الحكم من مصادره، وغيرها من العلوم كالتفسير والتاريخ والحديث والمنطق والفلسفة وهي كما ترى مسؤولية شاقة ومرتبة شريفة لا ينالها إلا ذو حظ عظيم.
الثاني: اختصار الطريق والرجوع إلى من توفرت عنده ملكة الاجتهاد وأتعب نفسه في تحصيل الأحكام وكان ورعاً تقياً لا يُتَّهم بأنّ آراءه الفقهية ناشئة من مصالح شخصية أو تزلفاً للحكّام أو تحت أي ضغط آخر. ويسمى هذا الرجوع (التقليد) وهو أيسر الطرق.
والتقليد بهذا المعنى - أي رجوع غير العارف بأسرار مهنة معينة إلى العارف بها- سيرة يتبعها العقلاء في سائر شؤونهم، فمن يعاني من مشاكل في صحته يرجع إلى الطبيب ومن يريد أن ينشئ بناية يرجع إلى المهندس وهكذا.
الثالث: أن يكون الإنسان ذا معرفةٍ بما يقتضيه الاحتياط للحكم الشرعي في كل حالة تعترضه، فيقوم بما يقتضيه الاحتياط ولو تطلب تكرار الاحتمالات التي يتيقن في نهايتها بمطابقة إحدى الصور للحكم الواقعي، كما لو شك أنّ تكليفه صلاة القصر أو التمام فيؤدي الفريضة على كلا الاحتمالين ويكون قد أصاب تكليفه الواقعي حتماً ويسمى طريق (الاحتياط).
وهو طريق شاق صعب، ويتطلب ذوقاً فقهياً معتدّاً به لمعرفة مقتضيات الاحتياط في كل مورد ويؤدي إلى مضيعة الوقت، ولو التزم به الناس فسيؤدي إلى اختلال النظام الاجتماعي العام لأنّه سيؤثر على الأنشطة الحياتية المتعددة كما أنّه قد تحصل حالات يدور فيها الاحتمال بين حكمين إلزاميين متعارضين كالوجوب والحرمة مما يتعذر معه الاحتياط، كما أنّه ليس متيسراً أحياناً معرفة مقتضى الاحتياط ومتطلباته في الواقعة المعينة، وفي ضوء هذه المشاكل فإنّ اتخاذ الاحتياط طريقاً ثابتاً للتعرف على الأحكام الشرعية وامتثالها أمر محرج أو متعذر ولكن الاحتياط في بعض المسائل من دون اتخاذه منهجاً أمر حسن ومحمود.
ومن هنا انحصر سلوك الناس في التعرف على الأحكام وامتثالها على طريقي الاجتهاد والتقليد وتوجد موارد لا يحتاج فيها إليهما فيما إذا علِم المكلف بالقطع واليقين حكماً من الأحكام الثابت وجودها في الدين كوجوب الصلاة وإباحة أكثر الأشياء.
شروط التكليف
تصبح الأحكام التكليفية ملزمة للإنسان إذا اجتمعت فيه الشروط العامة للتكليف، وهي البلوغ والعقل والقدرة، فلا تكليف على الصبي حتى يبلغ ولا على المجنون حتى يفيق، ولا على العاجز حتى تتوفر له القدرة. وهناك شروط خاصة لبعض التكاليف كالاستطاعة للحج تذكر في محلها.
(مسألة 1) : يتحقق البلوغ عند الإنسان ذكراً أو أنثى بظهور علامات النضج الجنسي كحالة الشبق والشهوة والميل الى الجنس الآخر والتأثر بالامور الجنسية وبعض التغيّرات الجسمية والنفسية، ويكون الاحتلام - أي خروج المني في اليقضة او المنام- علامة قطعية على البلوغ عند الذكور، وكذا الحيض عند الإناث.
ولا بلوغ عند الأنثى قبل إكمال تسع سنين قمرية حتى لو خرج منها دم بصفات الحيض.
ولا يوجد مثل هذا الحد الأدنى للبلوغ عند الذكور، ولكن المعروف تأخّر الذكور عن الإناث في البلوغ.
وإذا لم تحصل أي علامة فيتعيّن تحديد البلوغ بالسن، وهو إكمال خمس عشرة سنة قمرية عند الذكور وثلاث عشرة سنة عند الإناث. وتقلّ السنة القمرية عن الشمسية أحد عشر يوماً.
وينبغي لأولياء الأمور تدريب أبنائهم على الطاعة وتجنيبهم المعاصي قبل هذا العمر لتتحول الحالة عندهم إلى برنامج حياتي ثابت.
مسائل في التقليد
(مسألة 2) : لابد للمكلف من اتخاذ إحدى الطرق المذكورة للوصول إلى الحكم الشرعي وليس له أن يعمل بما يقتضيه رأيه أو هواه لأنّه من اتِّباع الظن وقد نهى الله تعالى عنه (إِنْ يَتَّبِعُونَ إلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (النجم : 28).
(مسألة 3) : يشترط في مرجع التقليد إضافة إلى ما ذكرناه في الاسلوب الثاني من الاجتهاد والعدالة: طهارة المولد وسلامة قواه النفسية والعقلية، وقدرته الكاملة على اداء وظائفه، وأن يكون عاقلاً بالغاً رشيداً، وأن يكون منتمياً لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) لأنّه يمثل واسطة لنقل الأحكام إلى أتباع هذه المدرسة فلا بد أن يكون جزءاً منها، ويشترط أن يكون ذكراً إذا كان من يرجع إليه ذكور، وأن يكون عارفاً بشؤون الحياة العامة لأنّ لها دخلاً في فهم الموضوعات وبالتالي في صحة تطبيق الحكم عليها، وأن يكون ذا خبرة في الممارسة الفقهية والإحاطة بمقدمات الوصول إلى الحكم الشرعي، وكلما كانت هذه الشروط أكثر توفراً في المجتهد وأمكن تحديدها فينبغي اختياره في التقليد وهو المعنى الواسع (للأعلمية) الذي نفهمه.
وإذا توفرت هذه الصفات في أكثر من شخص فيمكن للمكلف اختيار أحد الذين يقعون في دائرة محتملي الأعلمية، ويحسن الاحتياط في المسائل المهمة فيما إذا اختلفوا بينهم، كما لو أحرم من الميقات وكانت حركة سيره ليلاً ولا يوجد مطر في السماء، فقد قال بعضهم بعدم حرمة التظليل، وقال آخرون بحرمته مطلقاً فالاحتياط هنا بترك التظليل لأنّ الحج يجب مرة في العمر فيحسن الاحتياط فيه.
ولما كانت المرجعية في الفتوى لا تنفك عن متابعة شؤون الأمة الحياتية وقيادتها في قضاياها المصيرية فضلاً عن الجزئية فيشترط الرجوع إلى المجتهد الحي الذي قد يجيز لمقلديه العمل بالرسالة العملية للمجتهد الميت إذا اقتنع بذلك مفترضاً فيها أنّها رسالته العملية مع إرجاعهم له في المسائل المستحدثة والتي يختلف فيها معه.
(مسألة 4) : إذا مات المرجع الذي يقلّده المكلف فعليه الرجوع إلى المجتهد الحي الذي تنطبق عليه الشروط السابقة فوراً، وهو الذي يحدد للناس كيفية الرجوع إليه وإلى المجتهد الميت وإذا لم يفعل المكلف ذلك غفلة أو إهمالاً أو اعتزازاً بالميت فعليه استعلام وظيفته فيما أداه في تلك الفترة من المجتهد الحي.
(مسألة 5) : يثبت الاجتهاد والأعلمية بشهادة أهل الخبرة والاختصاص وهم فضلاء وأساتذة الحوزة العلمية الشريفة القادرون على فهم بحوث المجتهدين والتمييز بينها فضلاً عن مجتهديها، أمّا غيرهم فليس لهم بيان الرأي في هذا الموضوع ولا اعتبار لقولهم مهما كان عددهم كبيراً، نعم، لهؤلاء الغير نقل شهادة أهل الخبرة إلى ذويهم وأصدقائهم كالرجل ينقل الى اسرته ما افاده اهل الخبرة، وهذا ما جرت عليه سيرة العقلاء في سائر العلوم والفنون، والفقه منها.
ويشترط في أهل الخبرة إضافة إلى الفضيلة العلمية المرموقة الدقة في الشهادة والورع والترفع عن الهوى والمصالح الشخصية والفئوية.
(مسألة 6) : إذا قلّد مجتهداً فاختلّ فيه أحد شروط الرجوع إليه وجب العدول إلى من اجتمعت فيه، وإذا ظهر من هو أجمع للشروط الأساسية في التقليد بحيث يصبح اطمئنان المكلف أكبر بصواب الأحكام لدى الثاني باعتبار قوة ملكته وإحاطته بمقدمات ووسائل الوصول إلى الحكم الشرعي وجب على المكلف العدول إلى الثاني أيضاً.
(مسألة 7) : إذا عمل المكلف بلا مستند شرعي من الطرق التي ذكرناها فإن اتفقت مطابقة عمله لفتوى المرجع الذي كان عليه أن يقلّده في زمن العمل - ومنها قصد القربة في موارد اشتراطه- فلا بأس عليه، وإن لم يكن كذلك فيسأل المجتهد الجامع للشروط لتحديد وظيفته من القضاء وعدمه.
(مسألة 8) : الوكيل في عمل يعمل بمقتضى تقليد موكّله لا تقليد نفسه، لكن المستأجر لأداء العبادات عن الميت يؤديها طبقاً لتقليده هو لا المنوب عنه، لأنّ الأجير هو المتقرب إلى الله تعالى بالعبادة وهي فعل نفسه ويترتب عليها إبراء ذمة الميت.
(مسألة 9) : المأذون والوكيل عن المجتهد ينعزل بموت المجتهد سواء كان وكيلاً عاماً أم خاصاً، كالتوكيل في بعض الاوقاف أو في أموال القاصرين.
(مسألة 10) : لا يجوز للمكلف نقل الفتوى إلى غيره إلا بعد التأكد من صدورها من مرجع التقليد وإلا بعد فهم المراد منها جيدا،ً ولو أخطأ في النقل فإن كان ما نقله موافقاً للاحتياط ولم يستلزم تضييع حكم الزامي، كما لو نقل عدم وجوب شيء وكان جائزاً فليس عليه تصحيح النقل، وإن كان العكس كما لو نقل عدم وجوب شيء أو عدم حرمته وكان واجباً أو حراماً فعليه التصحيح.
(مسألة 11) : ما نذكره من الاحتياطات يجب العمل به إلا أن نقول عنه إنّه استحبابي أو يرجع المكلف إلينا لمعرفة وجهه.
(مسألة 12) : يجب على الإنسان أن يتفقه في الدين بالمقدار الذي يبرئ ذمته أمام الله تبارك وتعالى، فيتعلم أحكام الواجبات ليؤديها بالصورة المجزية والمبرئة للذمة ويتعرف على المحرمات ليتجنبها.
(مسألة 13) : إذا نقل أكثر من شخص أجوبة متعارضة عن مرجع تقليده فإن حصل الاطمئنان بنقل أحدهما عمل بموجبه وإن لم يحصل فعليه التثبت والاحتياط حتى يعرف الجواب الصحيح.
(مسألة 14) : لا يجوز التقليد في العقائد، بل يجب أن تكون عن قناعة بالحجة والدليل، ويكفي فيه أن يكون مبسّطاً ويثير كوامن الفطرة فيعتقد بالتوحيد لأنّه (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (الأنبياء : 22) أو كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لولده الحسن (عليه السلام) (لو كان لربك شريك لأتتكَ رُسُله).
الاجتهاد ووظائف المجتهد
الاجتهاد ملكة شريفة تؤهّل صاحبها لأخذ الأحكام من مصادرها وهو شرط أساسي للوصول إلى مرتبة المرجعية وقيادة الأمة التي تعبّر عن لطف إلهي عظيم باختيار من اجتمعت فيه شروطها لنيابة المعصوم (عليه السلام).
وبين الوصول إلى درجة الاجتهاد - التي هي درجة علمية- واستحقاق المرجعية وقيادة الأمة - التي هي مسؤولية دينية اجتماعية عامة- مدة زمنية أولاً لإنضاج الملكة وتقويتها بالممارسة وسعة الإحاطة، ومراتب معنوية ثانياً للسير في مدارج الكمال وتهذيب النفس والارتباط بالله تبارك وتعالى بحيث يصبح مسؤولاً عن مصير أمة كبيرة مما ذكرناه في كتاب (الأسوة الحسنة)، وتأهيل اجتماعي ثالثاً للتدريب على تحمّل المسؤولية ورعاية شؤون الأمة حتى يستحق نيابة المعصوم في استحقاقاته ووظائفه ومسؤولياته.
(مسألة 15) : الاجتهاد ملكة وقدرة فإذا توفرت في الشخص - بفضل الله تبارك وتعالى- صار مجتهداً ولا معنى لتجزئها، نعم، هي قابلة للضعف والقوة كسائر الملكات، وهي -كممارسة- قابلة للتخصص، ولما كانت الممارسة الطويلة وسعة الاطلاع على الآراء الفقهية ذات تأثير في دقة الحكم الصادر فإنّ التخصص في الفقه كالتخصص في الطب وسائر العلوم الأخرى أمر مقبول، بل مستحسن ويساهم في إنضاج العلم وتعميقه والوصول إلى نتائج مبدعة.
وإذا وجد فقيه متخصص في مجال معين وكان (أعلماً) في اختصاصه فيمكن، بل يجب الرجوع إليه في هذا المجال ويبقى في غيره ملتزماً بمرجع تقليده، ويمكن تصّور التخصص على صعيد (الفقه الفردي) المتعارف فيتخصص في كتاب القضاء مثلاً أو النكاح او البيع، ويمكن تصوره على صعيد (الفقه الاجتماعي) فيتخصص في احكام الاحوال الشخصية أو القوانين الجنائية او احكام الدولة السياسية أو الاقتصاد ونحوها.
(مسألة 16) وظائف المرجع ومسؤولياته كثيرة ومتوزعة في ابواب الفقه ولكن يمكن ادراجها ضمن عناوين ثلاثة:
الأول: الإفتاء واستخراج أحكام مختلف الحالات والوقائع من أصول التشريع.
(مسألة 17) : لا يجوز لغير المجتهد النظر في الأدلة لاستخراج الحكم الشرعي بقصد العمل به لنفسه فضلاً عن غيره، كما لا يجوز لغير من اجتمعت فيه شروط المرجعية أن يفتي أو يصدر مواقف أو أحكاماً عملية بقصد عمل الغير.
(مسألة 18) : إنّ ما قيل من حرمة التقليد على المجتهد ولزوم قيامه بنفسه بعملية الاستنباط من الأدلة لا يوجبه تحقق ملكة الاجتهاد عنده وإنّما يتنجّز وجوب الاستنباط عليه عند عدم الاطمئنان للحكم ولو باحتمال معتنى به في مسألة ما، لذا جاز إرجاع المكلفين إلى الغير سواء كان من الأحياء أو الأموات إلا في المسائل التي يتزلزل فيها هذا الاطمئنان، وفي ضوء هذا فلا يحرم على المجتهد العمل بفتاوى مجتهد غيره جامع للشرائط إذا لم تتوفر له فرصة الاستنباط إلا مع عدم حصول الاطمئنان بفتواه.
(مسألة 19) : إذا تبدّل رأي المرجع فعليه إعلام مقلديه ببيان منفصل أو بإعادة طبع الرسالة العملية مع تمييز موارد التبدّل في خصوص المسائل التي تندرج في وظيفة التقريب من الطاعة وتجنيب المعصية وحفظ المصالح.
(مسألة 20) : الاجتهاد واجب اجتماعي أو كفائي بحسب المصطلح، بمعنى أنّ على الأمة تهيئة الظروف والمقدمات لوصول العدد الكافي من أبنائها إلى مرتبة الاجتهاد، لأنّ قيادة الأمة وهدايتها وصلاحها لا يكون إلا بمن توفر فيه هذا الشرط إضافة لما تقدم وقد وعد الله تبارك وتعالى على لسان المعصومين (عليهم السلام) أن الأرض لا تخلو من حجة ترجع إليه الأمة.
(مسألة 21) : إذا سار نظام الحوزة العلمية الشريفة في طريق التخصص في الاجتهاد فيمكن أن نصل في يوم ما إلى مجلسٍ من المجتهدين الجامعين للشرائط تتوزع عليهم مسؤولية الافتاء، ويكون المرجع القائد رئيساً لهم ويمسك بالوظائف الاجتماعية كالقرار السياسي وصلاة الجمعة والقضاء وإقامة الحدود وتنظيم الميزانية المالية ونحوها.
(مسألة 22) : إذا لم تكن لمرجع التقليد فتوى في مسألة معينة وتعذّر استحصالها منه فيمكن الرجوع إلى غيره في خصوص تلك المسألة مع مراعاة أنّ ذلك الغير هو الأجمع للشروط التي ذكرناها.
(مسألة 23) : نقصد بالحاكم الشرعي في أي موضع ورد في هذه الرسالة المجتهد العادل وإن لم يكن مستجمعاً للشروط الأخرى لمرجع التقليد.
الثاني: القضاء بين الناس والنظر في الخصومات.
(مسألة 24) : لا يجوز التحاكم إلا عند المجتهد العادل ولو لم يكن مرجعاً لتقليد المترافعين، أو عند من ينصبه المجتهد العادل للقضاء بعد أن يعرّفه صلاحياته وحدوده كالحكم في القضايا التي هي عبارة عن نقل الفتوى أو الاستماع إلى المتخاصمين وأقوال الشهود ونحوها من القرائن والأدلة ورفع القضية إلى الحاكم الشرعي ونحوها.
(مسألة 25) : إذا عجز المدّعي عن استرداد حقه بالترافع عند الحاكم الشرعي فتبقى حرمة الترافع إلى المحاكم الوضعية ثابتة إلا إذا كان الحق معيّناً ومشخّصاً في الخارج، كداره المغصوبة أو سيارته المسروقة فيجوز له الترافع لاستنقاذها، دون ما لو كان الحق كلياً في الذمة كمبلغ من المال، ولو استعاد مالاً بهذه الطريقة فأخْذُه محرم وإن كان مُحقّاً في دعواه.
(مسألة 26) : إذا نظر الحاكم الشرعي في قضية وحكم بها فلا يجوز نقض حكمه حتى لمجتهد آخر، نعم لذلك الآخر مناقشته في المقدمات والأدلة والحجج التي استند إليها كالقدح في الشهود ونحوه.
(مسألة 27) : الحكم بثبوت الهلال ليس مشمولاً بالمسألة السابقة لأنّه ليس حكماً بهذا المعنى وإنّما هو تطبيق وإجراء لفتوى، فيمكن لمجتهد أن يكون له نظر في ثبوت الهلال غير ما حكم به الآخر لاختلافه معه في المبنى كوحدة الآفاق وعدمها ونحوه.
(مسألة 28) : لا يجوز للمرأة التصدي لمنصب القضاء بين عموم الناس لما عُرِفَ من ذوق الشريعة وارتكاز المتشرعة من عدم وضع المرأة في مثل هذه المواقع، كالمرجعية العامة للتقليد وولاية شؤون الأمة ولكن لا مانع من تحاكم النساء إليها أو أزيد من ذلك في الحدود التي ذكرناها في المسألة (24).
الثالث: ولاية أمر الأمة.
وهذا العنوان يضمّ عدة وظائف:
1- رعاية شؤون الأمة -كياناً وأفراداً- ومصالحها وحل مشاكلها وقضاء حوائجها.
2- الدفاع عن حقوق الأمة في جميع النواحي الدينية والاقتصادية والسياسية والفكرية والأخلاقية والاجتماعية.
3- المحافظة على وحدتها وتماسكها وصيانة عزّتها وكرامتها.
4- هدايتها إلى الكمال وإرشادها وتوجيهها إلى ما يسعدها ويصلح حالها في الدنيا والآخرة.
5- الوقوف في وجه الظلم والفساد والانحراف وتفعيل وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
6- القيام بما يتوقف عليه حفظ النظام الاجتماعي العام.
7- التصدي للوظائف الاجتماعية التي لا يجوز تأديتها اعتباطاً، كإقامة صلوات الجمعة وتنظيم العمل المسلح وتحديد مصارف الأموال العامة ومستحقيها ومراعاة العدالة في الاستفادة من الثروات الطبيعية والأراضي العامة ونحوها.
8- التدخل لتشخيص الشبهات الموضوعية التي ليست هي من وظائف المفتي لكنها من وظائف القائد وولي أمر الأمة، كإثبات أوائل الشهور وكانتهاك المقدسات الموجب للدفاع المسلح ونحوه.
وهذه العناوين العامة يندرج فيها الكثير من المسؤوليات والصلاحيات التفصيلية التي يحتاج بيانها إلى بحث خاص([1]).
والخلاصة أنّ الفقيه الجامع للشرائط لما كان نائباً عن الإمام المعصوم (عجل الله تعالى فرجه الشريف) بالنيابة العامة لا الخاصة التي تعني تعيينه بالنص من قبل الإمام فله كل الصلاحيات والوظائف التي جعلها الله تبارك وتعالى للإمام مما يرجع إلى تدبير شؤون الأمة ديناً ودنياً والتي يتعذر على الامام المعصوم الحجة الغائب القيام بها لمنافاتها لمقتضى المصلحة الالهية باخفاء امره على الناس، ويستثنى منها الوظائف الخاصة بالإمام كالتبليغ عن الله تبارك وتعالى والصفات الخاصة بالإمام كالعصمة.
والدليل على هذه الولاية لنائب الإمام - في حال غيبته- هو نفس الدليل على وجوب وجود الإمام نفسه، وهو حكم العقل بوجوب نصب إمام ومرجع يحفظ البلاد وينظّم أمور العباد الدينية والدنيوية، وقد عبّر أمير المؤمنين(عليه السلام) عن هذا الوجوب بقوله: (لابد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلّغ الله فيه الأجل، ويجمع به الفيء، ويُقاتَل به العدو، وتأمن به السُبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح بَرٌ ويُستراحُ من فاجر)([2]) ومع ثبوت هذه اللابدّية فيلزم منها جعلها من قبل الله تعالى ولابد أن تكون للفقيه العارف بالقانون الإلهي والقادر على استنطاق مصادر التشريع والأخذ منها وأن يكون بدرجة عالية من النزاهة وعدم الانسياق وراء أهواء النفس والترفع عن الدنيا والذوبان في الله تبارك وتعالى بحيث يعيش معه في كل وجدانه وأن يكون متخلقاً بأخلاقه تبارك وتعالى([3]).
ويؤكد هذا الحكم العقلي ويرشد إليه ما ورد عن ابن شاذان عن مولانا أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في حديث قال فيه (فإن قال فلم وجب عليهم معرفة الرسل والإقرار بهم والإذعان لهم بالطاعة، قيل له: لأنّه لما لم يكن في خلقهم وقولهم ما يكملون به مصالحهم وكان الصانع متعالياً عن أن يُرى وكان ضعفهم وعجزهم عن إدراكه ظاهراً لم يكن بُدّاً بينه وبينهم معصوم يؤدي إليهم أمره ونهيه وأدبه ويوقفهم على ما يكون فيه إحراز منافعهم ودفع مضارهم إذ لم يكن في خلقهم ما يعرفون به ويحتاجون إليه من منافعهم ومضارهم فلو لم يجب عليهم معرفته وطاعته لم يكن في مجيء الرسول منفعة ولا سد حاجة ولكان إثباته عبثاً بغير منفعة ولا صلاح وليس هذا من صفة الحكيم الذي أتقن كل شيء، فإن قال: فلمَ جعل أولي الأمر وأمر بطاعتهم، فقل: لعلل كثيرة منها أن الخلق لما وقفوا على حدود وأمروا أن لا يتعدوا ذلك الحد لما فيه من فسادهم لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم إلا بأن يجعل عليهم فيه أميناً يمنعهم من التعدي والدخول فيما حضر عليهم لأنّه إن لم يكن ذلك كذلك لكان أحدٌ لا يترك لذته ومنفعته لفساد غيره، فجعل عليهم قيّماً يمنعهم من الفساد ويقيم فيهم الحدود والأحكام، ومنها أنّا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل عاشوا وبقوا إلا بقيّم ورئيس لما لابد لهم من أمر الدين والدنيا فلم يجُز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق مما يعلم أنّه لابد لهم ولا قوام لهم إلا به فيقاتلون به عدوهم ويقسمون به فيئهم ويقيم لهم جمعتهم وجماعتهم ويمنع ظالمهم من مظلومهم، ومنها أنّه لو لم يجعل لهم إماماً قيّماً أميناً حافظاً مستودعاً لدرست الملة وذهب الدين وغيّرت السنة والأحكام ولزاد فيه المبتدعون ونقص منه الملحدون وشبّهوا ذلك على المسلمين، لأنّا قد وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين مع اختلافهم واختلاف أهوائهم وتشتت أنحائهم فلو لم يجعل لهم قيّماً حافظاً لما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) لفسدوا على نحو ما بيّنّا وغُيّرت الشرائع والسنن والأحكام والايمان وكان في ذلك فساد الخلق أجمعين)([4]).
(مسألة 29) : ليس للمرأة ولاية أمر الأمة.
(مسألة 30) : كما أنّ الفقيه الجامع للشرائط نائب عن الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في الامتيازات والصلاحيات فهو نائب عنه في تحمل المسؤوليات والقيام بالوظائف التي كان يؤديها الإمام (عليه السلام) وقد ذكرنا جملة وافرة منها في كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية).
(مسألة 31) : عندما لا يكون النظام السياسي قائماً على أساس الإسلام ولا يكون الفقيه مبسوط اليد فإنّه يأذن بتصرفات الحكومات القائمة في حدود ما فيه حفظ النظام الاجتماعي العام وعدم مخالفتها للشريعة فتكون تلك الحكومات بمثابة الوكيل عنه في هذه التصرفات وهو المالك الحقيقي لها، لذا يشترط استئذانه في هذه التصرفات، ويترتب على ذلك أنّ كل ما جرت عليه يد الدولة من أبنية ومؤسسات واستثمارات وغيرها فمالكها الحقيقي هو الإمام ويحتاج التصرف فيها الى اذن من نائب الامام وهو المرجع، وليست هي من مجهول المالك أو من المباحات العامة التي تُملك بالحيازة ووضع اليد.
(مسألة 32) : لا يفرض الفقيه ولايته على الأمة بالإكراه وإنّما يشترط تحقق إرادتها واقتناعها بولايته، نعم، لا نقصد بالأمة كل الأمة ولا يتم اختيار الولي الفقيه بالانتخابات العامة لكل الناس وإنّما نقصد بالأمة أهل الخبرة والاختصاص منها في هذا المجال وهم فضلاء وأساتذة الحوزة العلمية الشريفة المتصفون بالورع والنزاهة والمعرفة بمتطلبات العمل الاجتماعي وتطبيق المشروع الاسلامي المبارك.
(مسألة 33) : يجب على الفقيه أن يخطط وينفذ قولاً وعملاً بمقدار ما يُيسّره الله تبارك وتعالى له لإقناع الناس بالإسلام والنظام الإسلامي وصلاحيته لقيادة البشرية نحو السعادة والسلام.
خاتمة في معنى العدالة
ورد اشتراط العدالة في موارد عديدة كمرجع التقليد وإمام الجماعة والشهود والرواة، ويراد بها قابلية وملكة نفسية يكون الشخص بموجبها قادراً على ضبط تصرفاته وعقائده وميوله في حدود تعاليم الشريعة المقدسة، وأساسها المعرفة بالله تبارك وتعالى ومن ثم العلم بما يقرب إلى رضوانه سبحانه ويبعد عن سخطه جل جلاله ومن ثم العمل بهذا العلم([5]).
وتتباين مراتب العدالة قوةً وضعفاً بحسب درجة معرفته بالله تبارك وتعالى وعلمه باستحقاقات هذه المعرفة وهمته في تهذيب نفسه وتطهير قلبه والعمل بهذه الاستحقاقات.
وقد لا يستقر للإنسان حال واحد فتراه متقلباً من حال إلى حال، وقد ضمّت كتب الأخلاق والمعرفة تفاصيل كثيرة عن هذه المراتب والأحوال واستحقاقاتها من أعمال الجوارح والجوانح فيجب على الإنسان أن يتعرف على ما يصلح حاله ويعمل بما ينجيه من غضب الله تبارك وتعالى وينيله رضوانه، ويتعمق هذا الوجوب ويتسع على المتصدي لشؤون الأمة.
(مسألة 34) : العدالة يمكن أن تزول في لحظة من لحظات الانسياق وراء شهوات النفس وتسويلات الشيطان فعلى الإنسان أن يرجع فوراً إلى ربه ويستغفر ويعقد العزم على عدم العود ويطلب العصمة والتسديد من الله تبارك وتعالى (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إذا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فإذا هُم مُّبْصِرُونَ) (الأعراف :201).
ومفارقة العدالة بهذا المقدار لا تعني الإخلال بالشرط وإنّما يصبح غير عادل من أصبح خطّه العام حب الدنيا واتباع الشهوات والإخلاد إلى الأرض والإعراض عن ذكر الله تعالى.
(مسألة 35) : العدالة -كشرط- وإن وردت في عدة موارد كالتي ذكرناها إلا أن الدرجة المطلوبة منها مختلفة من مورد إلى مورد، فيكفي في عدالة الراوي وثاقته وعدم احتمال تعمد الكذب منه، ويراد من عدالة الشاهد أمانته وصدقه وموضوعيته، أمّا إمام الجماعة فيراد منه أكثر من ذلك حيث يراد منه حسن سيرته والتزامه بآداب الشريعة فضلاً عن واجباتها واجتناب محرماتها وتبلغ ذروة الدرجات في ولي أمر الأمة حيث يشترط فيه أقصى حالات السيطرة على ميول النفس وامتلاء القلب بالرحمة والشفقة والعقل بالعلم والمعرفة ونحوها.
تم كتاب الاجتهاد والتقليد بعونه تعالى
والله سبحانه العالم فهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1) فهو وارث من لا وارث له وله الولاية على أموال المفقود ويطلّق زوجته عند مرور أربع سنوات ويُجبر المحتكر على البيع ويحدد الأسعار إذا أجحفت بالناس ويتدخل في تشخيص الشبهات الموضوعية التي لها دخل في نظام حياة الناس ويشترط تحصيل إذنه بالتصرف في مجهول المالك ويتصدى لأي عمل فيه رفع للضرر عن الأمة كتوسيع الطرق وتهديم الأبنية الآيلة للسقوط ويقبض حق الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ويصرفه في موارده وهو الذي ينصب القيّم على الصغير والسفيه والمجنون والمتولي للأوقاف العامة ويقوم بكل ما فيه حفظ النظام الاجتماعي العام كإقامة الجسور وبناء المدارس والمستشفيات واستخراج المعادن واستصلاح الأراضي وهو الذي يأمر بإقامة الحدود ويطلّق الزوجة إذا امتنع الزوج عن توفير حقوقها وغيرها كثير.
(1) نهج البلاغة، الخطبة 40 من كلام له (عليه السلام) في الخوارج لما سمع قولهم (لا حكم إلا لله).
(2) راجع كتابنا (الأسوة الحسنة للقادة والمصلحين).
(1) علل الشرايع للشيخ الصدوق .
(1) راجع كتاب (الأسوة الحسنة للقادة والمصلحين).