الشهادة كرامة من الله تعالى لخاصة أوليائه: النساء الكاملات مثالاً

| |عدد القراءات : 37
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

 

بسمه تعالى

الشهادة كرامة من الله تعالى لخاصة أوليائه:

النساء الكاملات مثالاً ([1])

        روى الشيخ الصدوق بسنده عن الإمام الكاظم (×) قال: (قال رسول الله (|): إن الله تبارك وتعالى اختار من النساء أربعاً: مريم وآسية وخديجة وفاطمة)([2]) وروى بطريقين من العامة عن ابن عباس عن النبي (|) قال: (أفضل نساء أهل الجنة أربع: خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد (|) ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم)([3]) وروى العلامة الطبرسي في مجمع البيان عن أبي موسى عن النبي (|) قال: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد (|)) ([4]).

        وقد اشتركت هذه النسوة بدرجات متفاوتة في صفات الكمال من الإخلاص لله تبارك وتعالى وصدق العبودية له سبحانه، والعفة والطهارة، والشجاعة والثبات على الحق وتحمّل ألوان الأذى في سبيل الله تعالى، ونصرة حجة الله على خلقه، ومواجهة المستبدين والمستكبرين والظالمين والمنحرفين وغير ذلك، لذلك أكرمهن الله تعالى بحسن الخاتمة اللائقة بهنّ حيث   أنهن مضين شهيدات حقيقةً أو حكماً، مما يكشف عن القيمة الكبرى للشهادة وأنها فضل من الله لا يؤتاه إلا ذو حظ عظيم، فيجتبيه الله تعالى ويختار له هذه السعادة قال تعالى: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (آل عمران: 140)([5])، والشهادة كرامة من الله يصطفي لها من عباده من يحب قال الأمام السجاد (×) :(وكرامتنا من الله الشهادة) ([6])، وهي كمال لا يناله إلا ذو حظ عظيم لأن الشهيد يقيم البرهان على الحق الذي هو عليه ويدلي بشهادته بأثمن ما يملك، وفي الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (فوق كل برٍ برٌّ حتى يُقتل الرجل في سبيل الله عز وجل فإذا قُتل في سبيل الله فليس فوقه بر)([7]).

ولنبين ما يتعلق بالمقام من سيرة هذه النسوة الأربع: 

1 – امرأة فرعون فإنها كانت مؤمنة بالله تعالى على منهاج النبي موسى (×) لم يغرها الترف والرخاء الذي كانت تتنعم به وهي السيدة الأولى في قصر فرعون، وكانت توفّر الحماية لموسى (عليه السلام) والمؤمنين من أعلى مواقع السلطة من يوم تبنّيه طفلاً صغيراً إلى يوم التآمر على قتله وخروجه من مصر، وكانت مؤثّرة في قصر فرعون وتقوم بما تستطيع من أعمال البر والإحسان، لكنها خشيت في لحظة من أن تكون شاهدة زورٍ على عمل فرعون فطلبت من ربّها أن ينجّيها من فرعون وعمله وليس فقط من بطش فرعون، ولعل الشهادة كانت هي النجاة لها من فرعون وعمله، والنجاة من أن تكون مؤيِّدة معنوية لملكه أمام الشعب وإن كانت في الخفاء على خلاف في ذلك.

        فلما ظهر لفرعون إيمانها أمرها بالرجوع إلى طاعته، فأبت فهدّدها  بالتعذيب والموت إن لم تكفر بإله موسى لكن إيمانها لم يتزلزل، فأمر فرعون بتعذيبها حتى ثبتّها على الأرض  بين أربعة أوتاد وألقاها في الشمس،  وأمر فرعون أن تلقى عليها صخرة عظيمة، بعد كل ذلك الترف والنعيم، فقالت وهي في العذاب: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} (التحريم: 11) وأوحى الله تعالى إليها: أن ارفعي رأسك ففعلت فأريت البيت في الجنة بُنيَ لها من درّ فضحكت, فقال فرعون المهزوم الذي لم يقنع أقرب الناس إليه بربوبيته المزعومة ليبرّر خروجها عن طاعته انظروا إلى الجنون الذي بها, تضحك وهي في العذاب، ثم لا زالت تعذب حتى ماتت من عذاب فرعون لها, وقد عيّره الله تعالى بطريقة العذاب التي كان يمارسها فقال تعالى: {وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ} (ص: 12) وتوعدّه بأشد العذاب في جهنم نكاية بجرائمه يعرض غدّواً وعشيا.

 

2 – مريم بنت عمران: لم أظفر برواية تدل على أن السيدة الطاهرة مريم ماتت قتلاً، وقد خلت الأناجيل المعروفة من أية إشارة على ذلك، لكن أضيف إليها في وقت متأخر بحسب المصادر  لقب (سلطانة الشهداء) في الأدب الروحي اللاتيني وضمن الصيغ التعبدية والتسابيح ودخل في الصلوات الرسمية الكاثوليكية منذ القرن السادس عشر، والظاهر أنهم يعنون بالشهادة غير ما نريده هنا، وعلى أي حال فاحتمال شهادتها (عليها السلام) قائم، وهو ليس بعيداً لأن اليهود الذين تآمروا على قتل ولدها السيد المسيح (صلوات الله عليه) وخططوا لصلبه لولا أن الله تعالى رفعه إليه، فإنهم لا يتوانون عن قتل أمّه الصديقة التي كانت آية من آيات الله ومعجزة على نبوة ولدها عيسى (عليه السلام) وسنداً لولدها في دعوته المباركة ومحرّضة للناس على الإيمان به ولم يكن ذلك محتملاً لدى أعداء النبي الكريم وسيدفعهم حسدهم وحقدهم ورعبهم من الحق إلى التخطيط لقتلها، كما أنهم اتهموها في أعز شيء عندها وهو شرفها أي أنهم اغتالوا شخصيتها وقتلوها معنوياً، حتى تمنت الموت فقالت: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} [مريم: 23] وقرروا إقامة الحد عليها، لولا أن الله تعالى أظهر طهارتها بمعجزة، فاحتمال قتلهم إياها واغتيال شخصها وارد.

        ولو لم تصحّ هذه الفرضية فإن عفافها ضربه الله تعالى مثلاً لجميع المؤمنين من الأولين والآخرين {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12]. وقد بلغت بهذه الفضيلة أعلى درجات الشهداء والصديقين، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (ما المجاهد الشهيد في سبيل الله بأعظم أجراً ممن قدر فعفّ، لكاد العفيف أن يكون ملَكاً من الملائكة) ([8]).

        روى الشيخ الكليني (رضوان الله تعالى عليه) في الكافي بسنده عن المفضل بن عمر قال: (قلت لأبي عبد الله (×) من غسَّل فاطمة (×) قال: ذاك أمير المؤمنين (×)، كأنما استعظمتُ ذلك من قوله، فقال لي: كأنك ضقت مما أخبرتك به، فقلت: قد كان ذلك جعلت فداك، فقال: لا تضيقن فإنها صديقة لم يكن يغسّلها إلا صديق، أما علمت أن مريم (‘) لم يغسلها إلا عيسى (×))([9]).

 

3 - خديجة بنت خويلد: زوج النبي (|) التي كانت تلقبها قريش بالطاهرة، وقد استشهدت بسبب الحصار الظالم الذي فرضته قريش على بني هاشم في شعب أبي طالب (×) بين الجبال مدة ثلاث سنين ومنعوا وصول الطعام والشراب وسائر الاحتياجات إليهم قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف تلك الحال في كتابه إلى معاوية: (فأراد قومنا قتل نبينا واجتياح أصلنا، وهموا بنا الهموم وفعلوا بنا الأفاعيل، ومنعونا العذب، وأحلسونا الخوف، واضطرونا إلى جبل وعر، وأوقدوا لنا نار الحرب، فعزم الله لنا على الذب عن حوزته، والرمي من وراء حرمته. مؤمننا يبغي بذلك الأجر، وكافرنا يحامي عن الأصل)) ([10])، قالت المصادر: ((فلقوا من الجوع والعري ما الله أعلم به)) ([11]) ((فبقوا على ذلك ثلاث سنين حتى بلغ القوم الجهد الشديد حتى سمعوا أصوات صبيانهم يتضاغون - أي يصيحون من الجوع وراء الشعب-)) ([12]فأجهدها الجوع والمرض وهي امرأة تجاوزت الستين حتى شارفت على الموت فأشفق عليها رسول الله (|) وتألم لألمها و ((دخل رسول الله (|) على خديجة وهى لما فيها -أي تحتضر بلغت روحها التراقي- فقال لها: بالرغم منّا ما نرى يا خديجة) ([13]).

 

 4- الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء ($) وقد استشهدت بسبب الآلام التي تجرعتها،  والإصابات التي لحقتها عند هجوم القوم على دارها وأسقطوا جنينها، فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنها (ضربت حتى مرضت من أثر الضربة ثم لم تزل مريضة حتى قبضها الله شهيدة مظلومة) ([14])؛ لذا ورد في الزيارات المروية وصفها بالشهيدة ففي بعضها (السلام عليك أيتها الصديقة الشهيدة) وفي بعضها (السلام على البتول الشهيدة)([15]).

        إن هذه النسوة الكاملات نِعم الأسوة للرجال والنساء معاً كما بيّن الله تعالى في قوله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم: 11] ثم ذكر مريم ابنة عمران، وعنوان الذين آمنوا مطلق شامل للرجال والنساء ([16]).

ولتَكن هذه النسوة الكاملات المثل الأعلى والأسوة الحسنة لكل نساء المسلمين فمن المؤلم أن ينشغلن بأخبار التافهات ويُعرِضن عن القدوات الكاملات، ولنتعلم منهن دروساً في:

1- الإخلاص لله تبارك وتعالى والعبودية الحقة له سبحانه.

2- العفة والطهارة.

3- الشجاعة والثبات على الحق والتضحية من أجله وعدم الاغترار بزينة الدنيا.

4- التفاني في نصرة حجة الله تعالى على الخلق أجمعين والدفاع عنه وحمايته.

5- إقامة الحجة على الظالمين المنحرفين ومواجهة المستبدين والمستكبرين.

6 – بذل الوسع في التفقه في الدين وإرشاد خلق الله تعالى إلى ما يصلحهم في الدنيا والآخرة.

 

        وهكذا لم تتوقف قافلة الشهيدات الرساليات المتأسيات بالنساء الكوامل عبر التاريخ الذي نقل صوراً نادرة عن شجاعتهن وثباتهن وصبرهن وإخلاصهن كشهيدات الأخدود الذي ذكره الله تعالى في سورة البروج([17])، وتضمخت دعوة الإسلام المباركة منذ أيامها الأولى في مكة المكرمة بدم الشهيدة سمية أم عمار بن ياسر حيث استشهدت وزوجها تحت التعذيب القاسي.

 

        وفي الزمن المعاصر تبرز الشهيدة بنت الهدى وثلاثة آلاف شهيدة وهو العدد الذي استطاعت المراكز المتخصصة إحصاءه من شهيدات الإسلام على يد النظام الصدامي البائد خصوصاً ما بين 1980-1985، وهذا لا يوجد له نظير في تاريخ الأمم، فالسلام على شهيدات التوحيد المخلصات وطوبى لهن وحسن مآب.

 



[1] - كلمة ألقيت على طلبة درس التفسير يوم الأربعاء 27 /ج 1 / 1447 الموافق 19 /11/ 2025 بمناسبة ذكرى استشهاد الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام)

[2] - الخصال: 166، باب الأربعة، ح 58 وفي بحار الأنوار: 14 / 195 عن الثعلبي في تفسيره بإسناده عن أبي هريرة: إن رسول الله (|) قال: (حسبك من نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد).

[3] - الخصال: 151 / 4 ، ح 220.

[4] - مجمع البيان: 10 /38، نهاية سورة التحريم.

[5]-  راجع التفصيل في تفسير من نور القرآن :1/240

[6] -اللهوف ص ٩١، ومقتل الخوارزمي ٢ ص ١٣.

[7]  -الخصال، للشيخ الصدوق: 9.

[8] -نهج البلاغة: الحكمة 474.

[9]  - فروع الكافي: 1/ 44، أصول الكافي: 1 /459

 [10] - نهج البلاغة: 3/ 8-9 من كتاب له (عليه السلام) إلى معاوية، ونقله المجلسي عنه في بحار الأنوار: 33/ 111 ، سفينة البحار: 4/437 مادة شعب

[11]  - بحار الأنوار: 19/16 عن الخرائج والجرائح.

[12] - بحار الأنوار: 19/19.

[13]  - بحار الأنوار: 19 / 24 عن كتاب (من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق).

[14]  -بحار الأنوار: 43/ 170، ح 11 عن دلائل الإمامة للطبري.

[15] - بحار الأنوار: 97 / 198- 199.

[16] - راجع التفصيل في تفسير من نور القرآن :7/ 51.

([17]) راجع تفسير الآية في: تفسير من نور القرآن: 7/ 230.