المرأة صانعة الإنسان وحارسة القيم

| |عدد القراءات : 65
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

المرأة صانعة الإنسان وحارسة القيم[1]

الإسلامُ أعظمُ جَوْهرةٍ وأجلُّ هِبَةٍ مَنَّ اللهُ تباركَ وتعالى بها على الناس؛ ففيه حياتُهم الرُّوحية؛ فالإنسانُ ليس جسدًا فحسب، بل جسدٌ ورُوحٌ؛ وللجسدِ حاجاتُهُ المعروفةُ من طعامٍ وشرابٍ وزواجٍ ونومٍ ونحوِ ذلك، وأمّا حياةُ الرُّوحِ فبالإسلامِ والدِّين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الانفال ـ 24] ؛ ولذلك كانت أعظمَ هِبَةٍ إلهيّةٍ للإنسانيّة، لما فيها من حياةٍ للروح وفوز وفلاحٍ يومَ القيامة.

نحنُ لم نُخلَقْ عبثًا؛ قال تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: ١٩١] وليس الخلقُ لِلَّهو؛ {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: ١٧] وإنّ للناسِ يومًا يقومونَ فيه لربِّ العالمين فيُحاسَبُ المُحسنُ على إحسانِه، ويُؤاخَذُ المُسيء بإساءته؛ فكيف النّجاةُ في ذلك اليوم؟ تكونُ بالالتزامِ بالدِّين؛ لذا كان الدِّينُ أعظمَ الهِبات.

وقال تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: ٢٠] وقد فسَّرت الرواياتٌ «النِّعَمَ الظّاهرةَ» بـ (الإسلام)[2] ، والأعداء ـ قبلَ الأصدقاء ـ يعرفون قيمةَ هذه الجوهرةِ النفيسة، فيسعونَ لانتزاعِها منّا؛ {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِمْ} [البقرة: ١٠٩] فإذا عَجَزوا عن الارتقاءِ إلى هذا المستوى، سعَوا إلى إنزالِنا عنه حسدًا.

وأساليبُهم في سلْبِ الدِّينِ منّا كثيرةٌ؛ مرة بالقوة الخشنة (عسكريّة) وأخرى بالقوة الناعمة عبر الإعلامِ والاقتصادِ وغيرها، وعبر التاريخ والإسلامُ يتعرّضُ للتشويهِ بقصدِ إسقاطِه في نفوسِ أتباعِه حتى يتخلَّوا عنه، ومن أدواتِهم زرعُ جماعاتٍ تنتسبُ إلى الإسلامِ والإسلامُ منها براء، لتفعلَ أفعالًا مُنكرةً تُحسَبُ على الدِّينِ فتُنَفِّرَ الناسَ منه، ومن أخطرِ وسائلِهم لتدميرِ المجتمع: المرأة؛ لأنّهم يعلمونَ أن المرأةَ إذا صلحتْ صلحَ المجتمعُ كلُّه، وإذا ـ لا قدَّرَ الله ـ انحرَفَتْ انحرَفَ المجتمعُ كلُّه، والمرأةُ ليست نِصفَ المجتمعِ فحسب، بل هي كلُّ المجتمع؛ إذ كانت بالعددِ نصفًا، وهي التي تُصلِحُ النِّصفَ الآخر، ووظيفتُها العظيمةُ صناعةُ الإنسانِ وتربيتُه؛ وقد شبَّه بعضُ العلماءِ دورَها بدورِ القرآنِ الكريم؛ فرسالةُ القرآنِ صناعةُ الإنسان، وكذلك المرأةُ.

ولذا يُركِّزون في تشويهَ صورةِ الإسلامِ بإثارةِ شبهات حول قضايا المرأة، نعم لا بأس بالحوارِ العلميِّ القائمِ على الدليلِ والبرهان؛ فالقرآنُ مليء بالحواراتِ مع المخالفين: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [ البقرة: ١١١] ؛  أمّا التشويهُ والتسقيطُ وإثارةُ الشُّبُهاتِ للتنفير، فذلك منهجٌ باطل و لقد شهدْنا ـ ونحنُ طلّاب جامعةٍ ببغداد في كلية الهندسةِ بينَ عامَي ١٩٧٨–١٩٨٢ ـ ما تتعرَّضُ له المرأةُ المُحجَّبةُ من ضغطٍ اجتماعيٍّ واتهاماتٍ بالتخلّفِ والحرمان… وهذه خُطّةُ الشيطانِ منذُ خَلْقِ البشريّة؛ إذ قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ ٱلْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف: ٢٧] يريدُ نزعَ الحجابِ والعفّةِ عن المرأة، وفي ذلك إهانةٌ لقيمتِها وتحويلُها إلى سِلعةٍ بيدِ الرجالِ يتَّجِرونَ بها ثم يرمونَها إذا قضوا حاجتَهم ـ ولكم في مصائرِ بعضِ المشهوراتِ عِبرةٌ ـ خُدِعْنَ ثم تُرِكْنَ.

ومن أساليب هذه الحربِ الناعمةِ ـ التي يجب أن نكونَ واعين لها ـ  أسلوب المقابلة بين مصطلح  «الدِّيني» و«المَدَنيّ» وكأنّ الإسلامَ نقيضُ المدنية! وهذه مغالطة؛ بل الإسلامُ هو الذي أسّسَ مدنيّةَ العربِ والعالم، ماذا كان حالُ العربِ قبل الإسلام؟ قبائلُ متناحرةٌ تعيشُ على القتلِ والسلبِ والغارات، ومن قبائحِهم وَأْدُ البنات؛ قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ۝ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: ٨–٩] ، ثم بالإسلامِ صاروا أمّةً متحضِّرةً سادتِ العالمَ من الصينِ شرقًا إلى الأندلسِ غربًا، وأقرَّت أوروبا أنّها كانت في جهلٍ حتى أخذتْ من حضارةِ المسلمين قرونًا طويلة.

وإنّما راجت تُهَمُ الإسلامِ بسببِ تجاربَ فاسدةٍ لمن تسمَّوا باسمِه،والحقيقةُ أنّ الأنبياءَ ^ والرِّسالاتِ هم صُنّاعُ الحضارة؛ فلو تُرِكَ الإنسانُ وحدَهُ لجَهِل أبسطَ البدهيّات؛ ألم تَرَ إلى قصّةِ ابنيْ آدمَ × ـ قابيلَ وهابيلَ ـ حين قَتَلَ قابيلُ أخاه فأحتارَ كيف يُواري سوأتَه؟ {فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي ٱلْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ}[المائدة: ٣١]  ، ورُوي أنّ النبيَّ إدريسَ × كان أوّلَ من خطَّ بالقلم، وعلَّمَ الخياطة. فهذا هو الإسلامُ:

·      إسلام العدل والإحسان والنهي عن المنكر والبغي {إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنكَرِ وَٱلْبَغْيِ} [النحل: ٩٠]

·      إسلام الانصاف والعدالة حتى لو كنت مختلف مع الاخر {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ٱعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} [المائدة: ٨]

·      إسلام القيام بالقسط ولو على نفسك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ}[النساء: ١٣٥]

·      حتى إنّ إحدى كليّاتِ القانونِ العريقةِ في أمريكا كتبتْ هذه الآيةَ على بابِها لعِظَمِ معناها.

فلْنعتزَّ بإسلامِنا ونتمسّكَ به، ولا تغُرَّنَّا الشُّبُهاتُ والأكاذيبُ التي يُرادُ بها سَلْبُ هذه الجوهرةِ منّا. نعم، تعرّضَ الإسلامُ للتشويه؛ ففي بعضِ كُتُبِ الصِّحاحِ رِواياتٌ نُسِبَتْ إلى النبيِّ ’ وهو بريءٌ منها، دسَّها المُنافقون فأساءتْ إلى صورتِه، ومنها يستقي المسيئونَ رسومَهم، والنبيُّ ’ أجلُّ من ذلك؛ قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: ٤]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: ١٠٧] ، وتأمّلْ سيرتَه في المعارك؛ كم كظمَ الغيظَ وعفا؟!

ولمّا فُتِحَتْ مكّةُ، وقد فعلتْ قريشٌ ما فعلتْ في بدرٍ وأُحُدَ والأحزابِ وقتلتْ الأحبّةَ كحمزةَ (رض)، دخلَ النبيُّ ’ ظافرًا وقال لهم: «ما تظنّون أنّي صانعٌ بكم؟» فأطرقوا وقالوا: أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريم، فقال: «اذهبوا فأنتمُ الطُّلَقاء»[3]، وقال كما قال أخوه يوسفُ × :  {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف: ٩٢] وبلغَه أنّ سعدَ بنَ عُبادةَ كان يرتجز: «اليومَ يومُ الملحمة، اليومَ تُسْبَى الحُرْمَة»[4]، فأمرَ بأخذِ اللواءِ منه، وقال: «قولوا: اليومَ يومُ المَرحَمة، اليومَ تُصانُ الحُرمة»، تلك ثقافةُ الإسلام.

وقد قال النبيُّ ’ لعليٍّ ×: « ‏ ...يَا عَلِيُّ أَنَا وَ أَنْتَ أَبَوَا هَذِهِ‏ الْأُمَّةِ ...»[5] فلم يُؤكِّدْ صفةَ السِّيادةِ والإمامةِ والقيادة  ـ وهي له حق ـ بل أكّد الأبويّةَ؛ وهكذا أهلُ البيتِ ^ صبروا على الظلم والاضطهاد والقتل حفظا لمصلحةِ الإسلامِ والناسِ والدولةِ الإسلامية  فلو استشعرَ كلُّ واحد منا  ـ من موظّفٍ ومُدرِّسٍ ومديرٍ وحاكمٍ ـ هذه الأبويّةَ، لكان تعامُلُه إنسانيًّا عاليًا، واللهُ يُجازي: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}[الكهف: ٣٠]، و{وَقُلِ ٱعْمَلُوا فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ} [التوبة: ١٠٥]، و{ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: ٢].

وأذكرُ حادثةً في سيرةِ الإمامِ الحسنِ × ـ سبطِ رسولِ اللهِ وسيِّدِ شبابِ أهلِ الجَنّةِ ـ وقد قال النبيُّ ’ :  «الحسنُ والحسينُ سيّدا شبابِ أهلِ الجَنّة»[6] مرَّ الحسنُ × بعبدٍ يُطعِمُ كلبًا، فسأله، فقال: «ضاق صدري اليومَ فأحببتُ أن أُدخِلَ السّرورَ على مخلوقٍ؛ لعلّ اللهَ يُدخِلُ السّرورَ عليَّ»؛ فأكبَرَ الإمامُ موقفَهُ، فاشترى العبدَ وبُستانَه، ثم أعتقَهُ وجعلَ البستانَ هديّةً له[7] ؛ فهذا موقفٌ صغيرُ الظّاهر عظيمُ الدّلالة.

وأنا أعرفُ الموصلَ مدينةَ وعيٍ وعِلمٍ ومعرفةٍ ومنجِبةً للعلماءِ، وقد زرناها غيرَ مرّةٍ قبل الثمانينيّات. ولم تكن بيننا تلك الفوارقُ الطائفية؛ كنّا طلابًا لا نعرفُ من هو السنّيُّ ومن هو الشيعيُّ، وعِشنا في أحياءٍ مختلطةٍ فيها المسلمُ والمسيحيُّ… فاعلموا حجمَ المؤامرةِ التي استهدفتْ تمزيقَنا؛ والتي يريدون بها إذلالَ الشعبِ العراقيِّ الواعي الحرّ لتمريرِ مشاريعِهم. واللهُ يعلمُ براءتَنا.

 وانتم بحمد الله عندكم منظماتِ المجتمعِ المدنيِّ والعملِ الإنسانيِّ؛ فإنّ قضاءَ حوائجِ الناسِ من أعظمِ القُرُبات. وسُئلَ بعضُ العلماءِ: لو لم يبقَ من حياتِك إلا دقائقُ معدوداتٌ، فما أفضلُ عملٍ تختمُ به؟ قال: «أجلسُ على بابِ داري أرقبُ محتاجًا لأقضيَ حاجتَه». فالموصلُ—بعد الصّدمةِ العنيفةِ التي مرّت بها—بحاجةٍ إلى ترتيبِ أوراقِها؛ والزلزالُ تعقبهُ هزّاتٌ ارتداديّةٌ قد تكونُ أخطرَ، ولذا هبَّ أبناءُ العراقِ جميعًا لتحريرِها، وقرابينُ الشهداءِ ماثلةٌ في كلِّ مكان، ومنهم شهداءُ الحوزةِ العلميّةِ، فلنُعَزِّزْ هذه الثقافةَ المباركة.

نُعيدُ التأكيد: المرأةُ ليست نصفَ المجتمعِ بل كلَّه؛ فهي صانعةُ الإنسان. وقد سررنا بزيارتِكنَّ المباركةِ، ونرجو أن تفتحَ أبوابَ البركاتِ، ويكونَ الشبابُ أيضًا عونًا لكنّ؛ ﴿هُوَ ٱلَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِۦ وَبِٱلْمُؤْمِنِينَ﴾ (الأنفال: ٦٢). أهلًا ومرحبًا، وحياكنَّ اللهُ جميعًا.

 



[1] - تقرير الكلمة التي تحدث بها سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي دام ظله) مع جمع من الكوادر النسوية في الموصل ضمَّ جامعيات وناشطات مدنيات يوم 24 / 9 / 2025م.

[2] ـ مجمع البيان فى تفسير القرآن ، ج‏8 ، ص 501    . وانظر أيضا : الدر المنثور فى تفسير المأثور ،  ج‏5 ، ص 167  . 

[3] ـ كتاب السنن الكبرى - البيهقي - ط العلمية ؛ ج 9 ؛ ص 199 ؛ الرقم : 18275

[4] ـ كتاب سيرة ابن هشام – مجموعة محققين ؛  ج 2 ؛ ص 406 .

[5] ـ الأمالي( للصدوق) ؛ ص657

[6] ـ كتاب الطبقات الكبرى - متمم الصحابة - الطبقة الخامسة ؛ ج 1 ؛ ص 264 ؛ الرقم 201 .

[7] ـ ترجمة الإمام الحسن (ع) - ابن عساكر - الصفحة ١٤٨