(لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) - بالشكر تدوم النعم وتزداد
(لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)
بالشكر تدوم النعم وتزداد([1])
قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7)
مفردةُ الشُّكر حاضرةٌ بقوّةٍ في كتاب الله العزيز، وقد وصف الله تبارك وتعالى نفسه بهذه الصفة الكريمة، قال تعالى: {وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً} (النساء: 147) وقال تعالى: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ}([2]) (فاطر: 30) ويكون شكره بحسن جزاء المحسنين وإفاضة النعم عليهم، وقد تكرّر ذكرُ الشُّكر في القرآن الكريم خمساً وسبعين مرّةً بألسنةٍ متنوّعةٍ، حتى جُعلَ غرضاً للتشريع؛ فكثيراً ما تختمُ الآياتُ التشريعية بقولِه تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}([3])، بل جُعل الشُّكرُ في مقابِلِ الكُفر لان كفران النعم يؤدي إلى الكفر، قال تعالى: {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} (النمل: 40).
فالشُّكرُ يقودُ إلى الإيمان، إذ لا يسعُ الإنسانَ الذي يعترفُ بالمنعِم إلا أن يؤمنَ باللهِ تعالى، لأنّه المنعِم الأوّل[4]، قال أمير المؤمنين (×): (لو لم يتوعد الله على معصيته، لكان يجب أن لا يُعصى شكراً لنعمه)([5])، ونُظم هذا المعنى ببيتين قيل أنهما لأمير المؤمنين (×):
هَبْ البعثَ لم تأتنا رسلُه |
|
وجاحمةَ النار لم تُضرَمِ |
أليس من الواجب المستحقِّ |
|
حياء العباد من المنعمِ([6]) |
والآية الكريمة التي نقتبس من نورها هنا يمكن أن تكون تتمة لخطاب موسى (×) مع قومه لأنها جاءت بعد قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} (إبراهيم: 6) ويمكن أن تكون آية مستقلة موجهة إلى المسلمين وهو الأقرب بقرينة أن العودة إلى تتمة كلام موسى (×) احتاجت في الآية التالية إلى الابتداء بـ {وقَالَ مُوسَى} وهو ما يقتضيه معنى {تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وعلى كلا الحالين فإن ورودها في القرآن الكريم يعني أنها إبلاغ وإعلام عام بأمرين:
1 – من السنن الإلهية الثابتة أن شكر المنعم يكون سبباً في دوام النعم قال أمير المؤمنين (×): (النعم تدوم بالشكر)([7]) بل بزيادتها، قال رسول الله (|): (ما فتح الله على عبد باب شكر فخزن عنه باب الزيادة)([8]) وقال أمير المؤمنين (×): (ما كان الله ليفتح على عبد باب الشكر ويغلق عليه باب الزيادة)([9]) وروى في الكافي بسنده عن الإمام الصادق (×) قال: (مكتوب في التوراة: اشكر من أنعم عليك، وأنعم على من شكرك، فإنه لا زوال للنعماء إذا شكرت، ولا بقاء لها إذا كفرت، والشكر زيادة في النعم وأمان من الغير)[10]، وقال الإمام الصادق (×) في حديثه مع سفيان الثوري: (يا سفيان، إذا أنعم الله عليك بنعمة فأحببت بقاءها ودوامها فأكثر من الحمد والشكر عليها فإن الله تعالى قال في كتابه: { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم: 7))([11]).
2 – إن النعم وحالة الرخاء هي ابتلاء أيضاً كحالة المحنة والشدة ليختبر شكرهم بما يقتضيه من معانٍ سنذكرها إن شاء الله تعالى {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (النمل: 40) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (البقرة: 172) {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (النحل: 114) {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} (سبأ: 15).
{وَإِذْ تَأَذَّنَ} إعلان وإعلام يصل إلى كل الناس لأن التأذن يعني الإعلام كالأذان بحقيقةٍ تعهَّد بها {رَبُّكُمْ} الذي يتولى تربيتكم وإصلاحكم وهو الله تعالى رب العالمين وكتبها على نفسه وهو من مصاديق قوله تعالى: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (الأنعام: 12).
{لَئِنْ شَكَرْتُمْ} نعم الله تعالى التي لا تحصى مادية ومعنوية {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (لقمان: 20) وأديتم حقها بالمعنى الذي سنذكره، وهذا الفقرة بمثابة فعل الشرط والطرف الأول من الملازمة.
{لَأَزِيدَنَّكُمْ} جواب الشرط والطرف الآخر من الملازمة ونسبه الله تعالى إلى نفسه تشريفاً وليفيد حتمية وقوع الزيادة التي قد تكون من النعم نفسها كأن يشكر على نعمة المال فيزيده مالاً أو على نعمة العلم فيزيده علماً، أو من غيرها أو من الثواب عليها، أو من العلو في مراتب الكمال التي يتفضل الله تعالى بها على الشاكرين {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران: 144) فهذه كلها مجالات للزيادة ولا داعي لحصرها بالمورد الأول، قال الإمام الصادق (×): (أيما عبد أنعمتُ الله عليه نعمة فأقرّ بها بقلبه وحمد الله عليها بلسانه لم ينفد كلامه حتى يأمر الله له بالزيادة)([12]).
وهذا كله بناءً على متعلق كون الزيادة النعم وهو يحتاج إلى تقدير لكنه ظاهر، ويمكن أن نفهمها بلا تقدير ويكون متعلق الزيادة الشاكرين أنفسهم فيزيد من عددهم أو نوعيتهم في مراتب الكمال، وفي ذلك حقيقة قيِّمة وهي أن التزام الأنسان بالشكر وظهوره عليه، يؤدي إلى زيادة الشاكرين وهو بذلك أسلوب للدعوة إلى الله تبارك وتعالى بصمت.
{وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ} بأن جحدتم النعم والعياذ بالله ولم تشكروها ولم تؤدوا حقها واستكثرتم الشكر على المنعم أو استكبرتم عليه سبحانه جهلاً أو عناداً {إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7) ومن لطفه تعالى بعباده أنه لم يقل لأعذبنكم ليفيد حتمية الوقوع كما صرح بالزيادة عند الشكر، وإنما لوّح بالعذاب رحمة بعباده وهو غني عن عباده وإنما يريد هدايتهم وإصلاحهم نظير قوله تعالى: {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (النمل: 40).
وهذا العذاب يمكن أن يكون في الدنيا بسلب نفس النعمة أو أي عقوبة أخرى إيقاظاً لهم وتحريكاً لفطرتهم حتى يرتدعوا عن الضلال والانحراف، وقد يكون في الآخرة لأنها دار الجزاء.
وشكر المنعم قضية فطرية ويدعو لها العقل السليم مستندة إلى قاعدة {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (الرحمن: 60)، روى زرارة قال: (قلت لأبي جعفر عليه السلام: أصلحك الله، قول الله عز وجل في كتابه: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} قال: فطرهم على التوحيد عند الميثاق على معرفته أنه ربّهم، قلت: وخاطبوه؟ قال: فطأطأ رأسه ثم قال: لولا ذلك لم يعلموا مَن ربّهم ولا من رازقهم)([13]).
والشكر يعني استقامة صاحبه على الطريق الصحيح، وأن الشكر يوجب تزكية النفس ويدعو إلى العمل الصالح؛ لأنَّ الشاكر سيراقب تصرفه بالنعمة فلا يبطر ولا يستكبر ولا يفسد إحسانه بالمنّ والأذى، وبذلك تتوثق العلاقات الاجتماعية وتزدهر الحياة وهذا تفسير طبيعي لزيادة النعم بالشكر.
ولا يغفل عن الشكر إلا من تلوثت فطرته وغرّر به الشيطان وتغلب هواه وأنانيته على عقله، وهو من لؤم الطباع، قال الإمام الحسن (×): (اللؤم أن لا تشكر النعمة)([14]).
والشكر بالمعنى المناسب لسيره نحو الكمال حالة جارية في الأمور التكوينية أي الخارجية أيضاً، مثلاً التاجر الذي له استثمارات متنوعة بعضها رابح يحقق الغرض المطلوب منه وبعضها خاسر فإن التاجر يزيد في تمويل الأول ويوقف الثاني ويسحب أمواله.
وكذا المزارع الذي له أكثر من حقل فإنه ينمي الحقل المثمر ويزيد من الصرف عليه ويوقف العمل في الثاني لعدم سيره في طريق الكمال المتوقع منه وهكذا.
ولكي يصل الإنسان إلى مقام الشكر لا بد أن يلتفت إلى النعمة لأن أغلب الناس غافلون عن النعم التي يرفلون بها والتي تحيط بهم لطول تعوّدهم عليها فلم يلتفتوا إليها كاختلاف الليل والنهار ليكون النهار للعمل والليل للسبات، وطلوع الشمس وغروبها بانتظام عجيب ولولاها لما استقامت الحياة، وتنوع الطعام والشراب الذي يتناوله ولو تعقَّب نوعاً واحداً كالخبز ونظر في المراحل التي مرَّ بها حتى وصل إليه لأدرك عظمة النعمة في شيء واحد فضلاً عن جميع الأشياء، هذا في ما حوله من النعم، أما إذا تأمّل في كيانه هو فإنه سيصاب بالذهول من عظمة جزء واحد من جسمه كالدماغ أو العين فضلاً عن سائر أعضائه فليطالع بعض ما كتب في هذا المجال([15]) ليتعرف.
ومن طرق معرفة النعمة النظر إلى المحرومين منها للاتعاظ بهم، قال أمير المؤمنين (×) في كتابه للحارث الهمداني: (وأكثرْ منْ أنْ تنظر إلى من فُضِّلتَ عليه فإن ذلك من أبواب الشكر)([16]).
وتتضمن حقيقة الشكر عدة معانٍ:
1 – معرفة المنعم الحقيقي وهو الله تبارك وتعالى قال الإمام الصادق (×): (من أنعم الله عليه بنعمة فعرفها بقلبه، فقد أدّى شكرها)([17]) إذ لا قيمة للعمل بلا معرفة، قال الإمام العسكري (×): (لا يعرف النعمة إلا الشاكر، ولا يشكر النعمة إلا العارف)([18]) ولكن الإنسان بسبب جهله وغفلته وأنسه بالمحسوسات ينسب النعمة إلى الوسائط المباشرة كالإنسان الذي أحسن اليه أو الطبيب الذي عالجه أو الأستاذ الذي علّمه وهذا كله واجب كما سنشير إليه لكن عليه ألا يغفل عن المنعم الحقيقي الذي سخّر هذه الوسائط لإيصال النعم والا فأن في إيمانه خللاً، ورد في الحديث عن الإمام الصادق (×): (هو الرجل يقول: لولا فلان لهلكت، ولولا فلان لأصبت كذا وكذا، ولولا فلان لضاع عيالي، ألا ترى أنه قد جعل لله شريكا في ملكه يرزقه ويدفع عنه؟! قال - الراوي -: قلت: فيقول: لولا أن الله من علي بفلان لهلكت؟ قال: نعم لا بأس)([19])، بهذا فنحن نشكر رسول الله (|) على نعمة الهداية للإسلام ولا نغفل عن شكر الله تعالى الذي أرسله رحمة للعالمين، ونشكر أمير المؤمنين (×) على نعمة الولاية مع شكر الله تعالى وشكر رسوله على التعريف بها والهداية إليها والتمسك بها.
ومما يحكى في هذا المجال أن تاجراً خسر أمواله فتوجه إلى الله تعالى في إنقاذه فسخّر الله تعالى له تاجراً آخر عن طريق منام تكرّر عليه وأعطاه المبلغ المطلوب وقال له: هذا هاتفي متى احتجت إليَّ فقال له: إذا احتجتُ إلى شيء فسأطرق باب من بعثك إليَّ.
2 – الشكر الظاهري بإطلاق اللسان بالحمد والشكر لله تعالى أو أداء سجدة الشكر أو صلاة ركعتين شكراً لله تعالى أو الصوم شكراً أو الصدقة ونحو ذلك.
ويظهر من بعض الروايات أن هذا المقدار كافٍ لأداء حق الشكر كرواية الكافي بسنده عن صفوان الجمال عن الإمام الصادق (×) قال: (قال لي: ما أنعم الله على عبدٍ نعمة صغرت أو كبرت فقال: الحمد لله، إلا أدّى شكرها)([20]) وروايته الأخرى عن حماد بن عثمان قال: (خرج أبو عبد الله عليه السلام من المسجد، وقد ضاعت دابته، فقال: لئن ردّها الله عليَّ لأشكرنَّ الله حق شكره، قال: فما لبث أن أتِي بها، فقال: الحمد لله، فقال قائل له: جُعلتُ فداك، ألستَ قلتَ: لأشكرن الله حق شكره؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: ألم تسمعني قلت: الحمد لله؟).
أقول: لكن يظهر من روايات أخر أن أداء الشكر يتطلب أموراً أخرى فلعل هذه الروايات ناظرة إلى حالة تحقق تلك الأمور أو أن المراد بالحمد لله ما هو أوسع من تحريك اللسان إلى ما يشمل الأمور التالية، ومنها:
3 – الشكر العملي والواقعي: بتوظيف هذه النعم في طاعة الله تعالى وقضاء حوائج الإخوان، وحسن استخدامها كترشيد الإنفاق والتنظيم والمشاورة لأهل الخبرة والمحاسبة الدائمة وغلق منافذ العبث واللهو فإن ذلك كله كفيل بزيادة النعم ونمائها قال أمير المؤمنين (×): (شكر العالم على علمه: عمله به وبذله لمستحقه)([21])، وقال علي (×): (أحسن شكر النعم الإنعام بها)([22]) وروى سدير الصيرفي عن الإمام الصادق (×) قال: (يا سدير: ما كثر مال رجل قط إلا عظمت الحجة لله تعالى عليه، فإن قدرتم أن تدفعوها عن أنفسكم فافعلوا، فقال له: يا ابن رسول الله، بماذا؟ قال: بقضاء حوائج إخوانكم من أموالكم)([23]).
ومن باب أولى عدم استعمال النعم في معصيته([24]) سبحانه، قال أمير المؤمنين (×): (أقل ما يجب للمنعم ألا يعصى شكراً لنعمه)([25]) وقال (×): (شكر كل نعمة الورع عن محارم الله)([26]) وقال الإمام الصادق (×): (شكر النعمة اجتناب المحارم)[27] وقال (×) (أدنى الشكر رؤية النعمة من الله من غير علة يتعلق القلب بها دون الله عز وجل، والرضا بما أعطاه، وأن لا تعصيه بنعمته وتخالفه بشئ من أمره ونهيه بسبب نعمته)([28]).
4 – الاعتراف أمام الله تبارك وتعالى بالعجز عن أداء حق شكره، فإن ما نؤديه من شكر لا يضاهي نعم الله تعالى التي لا تعد ولا تحصى، وإن اللسان أو الأعضاء التي نشكر بها هي من نعم الله تعالى وما حصل الشكر الا بتوفيقه تعالى فمتى نؤدي حق شكره سبحانه قال الإمام الصادق (×): (في كل نفَس من أنفاسك شكر لازم لك، بل ألف وأكثر)([29])، بل إن كل شكر يؤديه هو نعمة جديدة تستدعي شكراً فلا يبلغ حق شكر المنعم، روى الكليني بسنده عن الإمام الصادق (×) قال: (أوحى الله عز وجل إلى موسى (×): يا موسى اشكرني حق شكري، فقال، يا رب، وكيف أشكرك حق شكرك وليس من شكر أشكرك إلا وأنت أنعمت به علي؟ قال: يا موسى الآن شكرتني حين علمت أن ذلك مني)([30])، وفي مناجاة الشاكرين للإمام زين العابدين (×): (إلهي أذهلني عن إقامة شكرك تتابع طولك، وأعجزني عن إحصاء ثنائك فيض فضلك) إلى أن يقول (×): (فآلاؤك جمة ضعف لساني عن إحصائها، ونعماؤك كثيرة قصر فهمي عن إدراكها فضلاً عن استقصائها. فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري إياك يفتقر إلى شكر؟! فكلما قلت: لك الحمد، وجب علي لذلك أن أقول: لك الحمد)([31]).
5 – شكر الشخص المباشر الذي احسن اليه وكان واسطة في وصول النعمة قال الله تعالى في نعمة الوجود {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (لقمان: 14)، قال الإمام السجاد (×) (أما حق ذي المعروف عليك فأن تشكره وتذكر معروفه، وتكسبه المقالة الحسنة، وتخلص له الدعاء فيما بينك وبين الله عز وجل، فإذا فعلت ذلك كنت قد شكرته سرا وعلانية، ثم إن قدرت على مكافأته يوما كافيته)([32]) وقال (×) (إنّ اللّه يحبّ كلّ عبد شكور، يقول اللّه تبارك وتعالى لعبد من عبيده يوم القيامة: أشكرت فلانا؟ فيقول: بل شكرتك يا ربّ، فيقول: لم تشكرني إذا لم تشكره)([33])، فقرن الله تعالى شكر المخلوق بشكره روي عن الإمام الرضا (×) قوله: (من لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر الله عز وجل)([34]).
وقد أظهر قادة الإسلام صوراً عجيبة من شكر المحسنين ومجازاتهم كالذي فعله النبي (|) مع الشيماء بنت حليمة السعدية أخته بالرضاعة عندما جاءته مع أسرى قبيلتها بني سعد في معركة حنين فأكرمها وفرش عباءته وأجلسها لإحسانها مع أمها في أيام رضاعته رغم مرور حوالي 60 سنة عليها ثم شفّعها في إطلاق سراح جميع أسرى قومها بعد أن استأذن المسلمين لكي يتنازلوا عن سهامهم([35]).
وارتقى الأئمة (^) بالشكر إلى معانٍ سامية، كقول الإمام الهادي (×): (الشاكر أسعد بالشكر منه بالنعمة التي أوجبت الشكر؛ لأن النعم متاع، والشكر نعم وعقبى)([36]) ومن ذلك اعتبار من أحسنت إليه بنعمة أنه هو المتفضل عليك لأنه وفّر لك الفرصة لطاعة الله تعالى كقول الإمام السجاد (×) عن الفقير الذي يكرمه: (مرحبا بمن يحمل زادي إلى الآخرة)([37]).
وحذّر الأئمة (^) من ترك الشكر، قال الإمام الجواد (×): (نعمة لا تشكر كسيئة لا تغفر)([38]).
وأخبروا (سلام الله عليهم) أن ترك شكر المحسن يؤدي إلى توقف عمل المعروف، قال الإمام الصادق (×): (لعن الله قاطعي سبيل المعروف، وهو الرجل يُصنع اليه المعروف فيكفره فيمنع صاحبه من أن يصنع ذلك إلى غيره)[39]، لكن هذا الكفران للمعروف لا يصلح أن يكون مبرراً للتوقف عن الإحسان إلى الناس، قال أمير المؤمنين (×): (لا يُزَهِّدنَّك في المعروف من لا يشكره لك، فقد يشكرك عليه من لا يستمتع بشيء منه، وقد تدرك من شكر الشاكر -وهو الله تعالى- أكثر مما أضاع الكافر -أي الكافر للنعمة-، والله يحب المحسنين)([40]).
وليلتفت من يغفل عن الشكر مع توالي النعم عليه إلى أن ذلك استدراج له فليحذر قال الإمام علي (×): (يا ابن آدم إذا رأيت ربك سبحانه يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره)[41] وقال الإمام الحسين (×): (الاستدراج من الله سبحانه لعبده أن يسبغ عليه النعم ويسلبه الشكر)[42] وفي الكافي بإسناده عن عمر بن يزيد قال (قلت لأبي عبد الله (×): إني سألت الله عز وجل أن يرزقني مالاً فرزقني، وإني سألت الله أن يرزقني ولداً فرزقني، وسألته أن يرزقني داراً فرزقني، وقد خفت ان يكون ذلك استدراجاً فقال (×): اما والله مع الحمد فلا)[43].
وقد أهتم الشارع المقدس بأدب الشكر وتربية الناس عليه بخطابات متنوعة من خلال: الأمر المباشر: بقوله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} (البقرة: 152).
• الوعد بالزيادة: بقوله تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم: 7).
• اعتباره غاية للتشريع: بقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (القصص: 73).
• ذمّ قِلّته: بقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (سبأ: 13).
• ربطه بالهداية والنجاة: بقوله تعالى: {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ} (النساء: 147).
كما ربّانا عليه المعصومون (^) عملياً بتجسيدهم حَالة الشكر عند كل نعمة: ففي الرواية الصحيحة في الكافي عن ابن مُسكان عن أبي عبد الله (×) قال: (إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان في سفر يسير على ناقة له، إذا نزل فسجد خمس سجدات فلما أن ركب قالوا: يا رسول الله إنا رأيناك صنعت شيئا لم تصنعه؟ فقال نعم استقبلني جبرئيل (عليه السلام) فبشرني ببشارات من الله عز وجل، فسجدت لله شكراً لكل بشرى سجدة)([44]).
وروى في الدر المنثور بعدة طرق عن أنس قال: (أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سائل، فأمر له بتمرة فلم يأخذها وقال: سبحان الله! نبي من الأنبياء يتصدق بتمرة! فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أما علمت أن فيها مثاقيل ذر كثيرة؟ فأتاه آخر فسأله فأعطاه، فقال: تمرة من نبي، لا تفارقني هذه التمرة ما بقيت، ولا أزال أرجو بركتها أبداً، فأمر له النبي (|) بمعروف، وما لبث الرجل أن استغنى)([45]).
وعَنْ هِشَامِ بْنِ أَحْمَرَ قَالَ: (كُنْتُ أَسِيرُ مَعَ أَبِي الْحَسَنِ × فِي بَعْضِ أَطْرَافِ الْمَدِينَةِ إِذْ ثَنَى رِجْلَهُ عَنْ دَابَّتِهِ فَخَرَّ سَاجِداً فَأَطَالَ وَ أَطَالَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَ رَكِبَ دَابَّتَهُ فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ قَدْ أَطَلْتَ السُّجُودَ فَقَالَ (×): إِنَّنِي ذَكَرْتُ نِعْمَةً أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيَّ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَشْكُرَ رَبِّي)([46])، فقد أراد (×) بذلك أن يُربّي الناس على أدب الشكر؛ فعلينا ان نتعلم منهم (^) كيف نربي أنفسنا وأهلنا وأولادنا على ثقافة الشكر .
لكن المؤسف غياب هذا الأدب الفطري عن سلوك اغلب الناس وعدم انتشار ثقافة الشكر، سواء في ذلك، شكر الله تعالى المنعم الحقيقي أو شكر الناس رسول الله (|) وأمير المؤمنين والأئمة المعصومين من أهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) أو شكر المحسنين، قال تعالى {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (سبأ: 13).
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} (البقرة: 243) (يونس: 60) (غافر: 61)، وقد توقع الشيطان ذلك منذ خلق البشرية {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف: 17) فصدّقوا ظنه فيهم.
قال أمير المؤمنين (×): (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكفَّراً لا يُشكر معروفه، وكذلك نحن أهل البيت مكفَّرون لا يُشكر معروفنا، وخيار المؤمنين مكفَّرون لا يُشكر معروفهم)([47]).
وشاعت كلمة يتداولها الناس (لا شكر على واجب)[48]وهي منافية لهذا الخلق القرآني اذا اريد منها التكبر على شكر المنعم باعتبار أن ما قام به واجب عليه، كالزوجة لما تقوم بخدمة لزوجها أو الأبن لأبويه او المعلم لتلامذته، وقد دلت الاحاديث الشريفة على أن الثواب الذي يعطيه الله تبارك وتعالى جزاءاً للمطيع أكبر مما يعطيه لفاعل المستحب عن أبي عبد الله (8) قال: قال رسول الله(9) قال الله تعالى: ما تحبب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه))([49]) نعم اذا قال المحسن نفسه هذه الكلمة تواضعاً ولكي يتجنب المن والشعور بالتفضل فهو خلق رفيع يشكر عليه.
فالمطلوب منا أن نكون عباداً شاكرين، وأن نعوّد أنفسنا على تقديم الشكر لكل من أحسن إلينا ولو بشربة ماء أو تحية أو دعاء وأن لا نستكثره على أحد كالمرأة التي تعتني بعمل البيت أو الطفل الذي يقدم مساعدة وغير ذلك، وأن نربي أولادنا ومن نؤثر عليه على هذا الخلق الكريم لعل الله تعالى يجعلنا من الشاكرين، وأن ننشر ثقافة الشكر في المجتمع فإنها تكون سبباً للسعادة والرفاء والاطمئنان، كما أوضحنا.
[1] - درس التفسير الأسبوعي ليوم الأربعاء 15 / ربيع الثاني / 1447هـ الموافق: 8/ 10/ 2025م
[2] - وقوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر: 34] وقال تعالى: {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} (الشورى: 23) وقال تعالى: {إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} (التغابن: 17).
[3] - ورد لفظ (لعلكم تشكرون) في 14 موضعا في القران الكريم: (البقرة: 52، البقرة: 56، البقرة: 185، ال عمران: 123، المائدة: 6، المائدة: 89، الانفال: 26، النحل: 78، الحج: 36، القصص: 73، الروم: 46، فاطر: 12، الجاثية: 12)
[4] - العقل يحكم بأنّ مَن أحسن إليك يجب أن تُحسن إليه بالشكر، وهذا يسمّى عند المتكلّمين بـ «لزوم شكر المنعِم»، وهو من القضايا البديهية في العقول؛ ولهذا، يقولون: إنّ لزوم شكر المنعِم أصلٌ من أصول الاعتقاد؛ لأنّ الإنسان إذا تأمّل النِّعم التي هو فيها، عَلِم أنّ لها منعِماً عظيماً وهو الله تعالى، فيلزمه شكره، وهذا يقود حتماً إلى الإيمان بالله وتوحيده.
[5] - نهج البلاغة: الحكمة 290.
[6] - ميزان الحكمة: 4/ 469، وبحار الأنوار، للمجلسي: 75/ 69.
[7] - غرر الحكم: ج 1 ص 36 ح 1130.
[8] - الكافي: 2 / 94.
[9] - نهج البلاغة: 2 / 247.
[10] - الكافي: 2 / 94.
[11] - بحار الأنوار: 75/ 200-201.
[12] - مجمع البيان: 6 / 35.
[13] - التوحيد، للصدوق: 330، محاسن البرقي: 1/ 241.
[14] - تحف العقول: 233.
[15] - مثل كتاب (الطب محراب الإيمان) بجزئيه.
[16] - نهج البلاغة: 1، الرسالة 69.
[17] - الكافي: 2/ 96، ح 15.
[18] - أعلام الدين: 313.
[19] - تفسير العياشي: ٢ / ١٩٩ / ٩٠، ص ٢٠٠ / ٩٦.
[20] - الرواية وما بعدها في الكافي: 2/ 79، ح 14، ح 18.
[21] - غرر الحكم: (٥٦٦١ - ٥٦٦٢)، ٥٦٦٧.
[22] - غرر الحكم
[23] - أمالي الشيخ الطوسي: 1/ 309.
[24] - راجع قبس {ألم ترَ إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلّوا قومهم دار البوار} (إبراهيم: 28) في تفسير نور القرآن.
[25] - غرر الحكم: ح 3268.
[26] - مشكاة الأنوار: 75/ 146، بواسطة ميزان الحكمة: 4/ 474.
[27] - الخصال: 568 / ح1.
[28] - الاختصاص: 241.
[29]- بحار الأنوار: 71 52، ح 77.
[30]- الكافي: 2/ 98.
[31] - الصحيفة السجادية: 295، المناجاة السادسة.
[32] - الخصال: ٥٦٨ عن ميزان الحكمة: 4 / 479 ح9800.
[33] - بحار الأنوار 71 / 38.
[34] - عيون أخبار الرضا، للشيخ الصدوق: 2/ 24، ح 2.
[35] - إعلام الورى بأعلام الورى: 126- 127/ سفينة البحار: مادة (حلم).
[36] - تحف العقول: 483.
[37] - بحار الأنوار: ج ٤٦ – ص٩٨ عن مناقب ابن شهرآشوب: ج/ ٣ ص ٣٠٣
[38] - أعلام الدين: 309، ميزان الحكمة: 4/ 472.
[39] - الاختصاص: 241.
[40] - نهج البلاغة: الحكمة: 204.
[41] - نهج البلاغة الرقم 24 من الحكم.
[42] - البحار: ٧٨ / ١١٧ / ٧.
[43] - الكافي: 2 / 97.
[44] - الكافي: 2/ 98، بحار الأنوار: 68/ 35، ح 19.
[45] - الدر المنثور، للسيوطي: 5/ 8.
[46] - نفس المصدر.
[47] - بحار الأنوار: 67/ 260، ح 2، راجع قبس (رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكفور النعمة) في تفسير (من نور القرآن: القبس 132 من سورة الأنبياء/ 94، ج 4، ط3، ص234).
[48] - هذه العبارة لم ترد في آية قرآنية ولا في حديث نبوي ، ولم ترد في روايات أهل البيت ^ ، يُرجَّح أنّها تسربت من الثقافة الغربية عن طريق الترجمة، حيث تُقابلها بالإنكليزية عبارة: “No thanks needed” أو “No thanks, it’s my duty” ، وفي الأدب الغربي تُقال على لسان مَن قدّم خدمةً تواضعاً منه، بمعنى: ما قمتُ به واجب لا يحتاج شكراً ، انتشرت العبارة في المجتمعات العربية الحديثة عن طريق المدارس الأجنبية في القرنين 19–20 ، وثقافة «لا شكر على واجب» قد تُقبل إذا كانت صادرة من المنعِم نفسه تواضعاً (كأن يقول: لا تشكرني، هذا واجبي) ، لكن إذا صارت ذريعةً عند المتلقّي لترك الشكر، فهي ثقافة دخيلة تخالف القرآن والسنة ، فالثقافة الأصيلة عندنا هي: إشاعة الشكر على كل إحسان، ولو كان قليلاً ، نعم يُفهم استعمالها فقط كتعبير عن التواضع من قِبَل مَن قدّم الخدمة، لا من جهة مَن تلقّاها (الناشر).
[49] - بحار الأنوار: ج ٨٤ - ص ٣١