{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} - {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}

| |عدد القراءات : 57
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} (المطففين: 1)

{وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}(*) (الأعراف: 85)

       قال الله تبارك وتعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} (المطففين: 1- 5).

روى الشيخ الصدوق (رضوان الله تعالى عليه) في ثواب الاعمال بسنده عن صفوان الجمال عن أبي عبد الله (×) قال: (من قرأ في الفريضة {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} أعطاه الله الأمن يوم القيامة من النار ولم تره ولا يراها ولم يمر على جسر جهنم ولا يحاسب يوم القيامة)([1]).

أقول: وهي نتيجة طبيعية تحصل بفضل الله تعالى لمن تدبّر في السورة واتعظ بما فيها من الصور المعبّرة بإيقاعات قوية عما يجري يوم القيامة من تنعم للأبرار يحفّز الإنسان على فعل الخير وسلوك طريق الصلاح، ومن شقاء للمجرمين يوجب الارتداع عن المعاصي.  

{وَيْلٌ} إخبار بعذاب شديد وهلكة، وتستعمل أحياناً للدعاء بذلك واختاره صاحب الميزان هنا والدعاء من الله تعالى قضاء محسوم، وما ورد من أن (ويل) وادي سحيق في جهنم شديد العذاب هو من التطبيق وليس من التفسير. ويكفي أن يقول الله تعالى لمخلوق ويل لك ليشقى.

       {لِلْمُطَفِّفِينَ} الطفيف الشيء اليسير، وطفُّ الشيء جانبه، ومن أسماء كربلاء: الطف أي طف الفرات وجانبه مما يلي الصحراء، أو الجانب المرتفع منه وهو كتف النهر، فالتطفيف هو أخذ جوانب آلة الكيل أو الوزن وعدم ملئه كما يجب كناية عن إنقاصه. وإناء طفّان أي قارب الامتلاء عن الكسائي، وقال الخليل: ((التطفيف: أن يؤخذ أعلاه فلا يتم كيلُهُ)) وقال ابن فارس في المقاييس: ((طفّ: يدل على قلة الشيء يقال: هذا شيء طفيف، والتطفيف: نقص المكيال والميزان، قال بعض أهل العلم: إنما سمّي بذلك لأن الذي ينقص منه يكون طفيفاً)).

       والتطفيف في الكيل والوزن إنقاصهما عن المقدار المستحق لآخر وفاءً أو استيفاءاً، ولعل إطلاق التطفيف عليه لأن ما يسرق بإنقاص الكيل والوزن هو مقدار يسير ولو بلحاظ عاقبتهم الوخيمة، أو لأنه لم يستوف الحق بامتلاء الكيل وإنما قاربه بمقدار يسير، فالمطفِّف هو المقلِل حق صاحبه بنقصانه عن الحق في كيل أو وزن.

 

       وقد شرحت الآيات الكريمة المراد بالمطففين، وهم {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ} أي أذا كالوا بضاعتهم على الناس ليأخذوها لهم، ولم يذكر الوزن للملازمة أو لأن التجار المطففين يشترون كميات كبيرة بالكيل، والمفروض تعدية الكيل بـ (من) إلا أنه استعمل {على} ولعله لأن لهم جهة استعلاء وسلطة على الناس، وفي الميزان ((وتعديته بعلى لإفادة معنى الضرر)) {يَسْتَوْفُونَ} ويأخذون حقهم كاملاً أو بزيادة بقرينة ما ذكرناه في استعمال {على}.

       {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ} أي كالوا أو وزنوا ليعطوا للآخرين حقهم فإنهم {يُخْسِرُونَ} أي ينقصون، مستخدمين لتحقيق ذلك مكرهم وخداعهم أو سلطتهم أو قوتهم أو وفرة مالهم وشركاتهم المهيمنة على الاقتصاد واحتياج الآخرين لما عندهم لاحتكارهم ما يحتاجه الناس ونحو ذلك.

       وقد أطلقت الآية لفظ الناس ليشملهم جميعاً ولا تختص حرمة التطفيف بفئة دون أخرى.

 

ثم يقول الله تعالى متعجباً من غفلة هؤلاء المطففين ولا مبالاتهم بعاقبة أفعالهم، أو إصرارهم على هذا الفعل القبيح المنافي للفطرة: {أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ} أي ألا يعلم أولئك المطففون ولو احتمالاً وعلى مستوى الظن؛ لأن العقل هنا يلزم بالاحتمال ما دام خطيراً من باب دفع الضرر المحتمل، والظن يعبَّر به عن اليقين كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 46) أو أن التعبير به بلحاظ أن الناس حولوا بأفعالهم هذا اليقين إلى ظن وشك، روي عن الإمام الصادق (×) قوله: (ما خلق الله يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت)([2])، واستعمال {أُوْلَئِكَ} للإشارة إلى بعدهم عن الله تبارك وتعالى.

{أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} وهو يوم القيامة بأهواله التي يشيب لها الرضيع وسيعاقبون على هذا النزر اليسير الذي أخذوه ظلماً ثم خلفوه وراءهم بأقسى العقوبات {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (المطففين: 6) وذلك حين قيامهم من قبورهم وبعثهم للحساب يوم القيامة. وفي هذا التعقيب دلالة على أن منشأ الوقوع في هذه الكبائر حب الدنيا والغفلة عن يوم القيامة وعدم الإذعان العملي بالحساب، وفي قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} إشارة إلى مسؤولية الناس جميعاً عن القيام والنهضة لأجل مكافحة هذه الجرائم وإقامة الحق والعدل، وإلا فإن ضررها سيلحق بهم جميعاً، أو لأن الناس متورطون أو متأثرون بهذه الظاهرة بشكل وآخر بين التطفيف في الماديات والتطفيف بالمعنويات، حتى أدّى التطفيف المعنوي إلى تضييع ثروات الأمة ورموزها وعلمائها وكنوزها الفكرية بحيث يحتاج الأمر إلى جمعهم جميعاً ليشهدوا ما تورط به مجتمعهم.

ثم يؤكد الله تعالى الردع عن هذا الفعل بالزجر القوي {كَلاَّ} وثم تستمر السورة ببيان بعض أهوال يوم القيامة وأحواله بإيقاعات قصيرة لكنها قوية لإيقاظ الناس من غفلتهم وتحريك وجدانهم كما هو شأن المواعظ المؤثرة، وأكثر ما يربي القرآن الكريم الناس هو بهذه المشاهد يوم القيامة كما هو واضح في القرآن المكي؛ لأنه من دون ترسيخ العقيدة الحقة في قلوب الناس فإن أفعالهم لا تستقيم، قال الإمام الصادق (×): (القلوب أئمة العقول، والعقول أئمة الأفكار، والأفكار أئمة الحواس، والحواس أئمة الأعضاء)([3]).

 

        وقد جعل الله تبارك وتعالى بهذه الآيات الكريمة حداً حاسماً وشنَّ حرباً قوية في وقت مبكر من عمر الإسلام([4]) قبل أن تكون له دولة وسلطة وقبل نفوذ قوانينه في المجتمع للقضاء على هذا الظلم الذي كان يُرتكب جهاراً في المجتمعات الجاهلية قبل الإسلام، وأطلقها صرخة مدوّية في وجوه الطواغيت والمستكبرين حيث يأكل الأغنياء قوت الفقراء بهذه الطريقة الظالمة بل يصادرون عقائدهم ويمتلكون حتى أرواحهم، لذا وقف المستكبرون والطواغيت في كل جيل بكل قوة للقضاء على النبي (|) ورسالة الإسلام لأنها ليست فقط عقيدة تنطوي عليها القلوب وإنما ينبثق منها نظام متكامل للحياة يقوّض كل مصالحهم اللامشروعة.

       إنّ هذه الظاهرة المنحرفة تتسبب في مفاسد خطيرة:

1 – دينية: لأنها تمحق دين الإنسان وتجرّه إلى الوقوع في معاصٍ كبيرة لا يغفرها الله تعالى لأنّ الفعل من ظلم الناس فيجب أن يسترضيهم جميعاً وأنى له ذلك.

2 – أخلاقية: لأنها تمسخ الفطرة والأخلاق الإنسانية وتكون سبباً للاتصاف برذائل الاخلاق كالظلم والشُح والانانية وإهانة الغير وغير ذلك.

 3 – اجتماعية: لأنها ستورث البغضاء والحقد إذ أن الإنسان يرفض وقوع الظلم عليه ويحقد على ظالمه، فتحصل قطيعة بين أبناء المجتمع وتنتشر الكراهية قال المتنبي:

وَلَمْ تَزَل قِلَّةُ الإنصَافِ قَاطِعَةً
      

 

بَينَ الرِّجالِ وإنْ كَانوا ذَوِي رَحِمِ

4 – أمنية: لأن الحقد المذكور سيجعل المظلومين والمغلوبين على حقوقهم قنابل موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة مما يسبب فقدان الأمن وانهيار السلم المجتمعي.

5 – اقتصادية: لأن استقرار السوق مبني على الثقة والأمانة فإذا حلَّ التطفيف والغش والخداع والغبن فأن التعاملات ستضعف ويصاب السوق بالركود.

 

       وكان الأنبياء السابقون (صلوات الله عليهم أجمعين) حازمين في محاربة هذا الفساد قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} (هود: 84) وكانوا (^) يوصلون الرسالة تلو الرسالة من الله تبارك وتعالى في وجوب الوفاء بالكيل والوزن وعدم بخس حقوق الناس، قال تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} (الأنعام: 152) وقال تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (الإسراء: 35) وقال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (الأعراف: 85) وقال تعالى: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُواْ بِٱلقِسطَاسِ ٱلمُستَقِيمِ * وَلَا تَبخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشيَاءَهُم وَلَا تَعثَواْ فِي ٱلأَرضِ مُفسِدِينَ} (الشعراء: 181 -183).

       أقول: الآيات الكريمة وردت في رسالة النبي شعيب (×) إلى قومه أهل مدين وكانت هذه القضية محور رسالته بعد الدعوة إلى التوحيد ولما أصرّوا على فسادهم نزل بهم العذاب الأليم، وفي ذلك رسالة فحواها أن التوحيد يستلزم العبودية الكاملة لله تعالى في جميع شؤون الحياة ولا يجوز التقليل من شأن هذه المخالفات الشرعية ومنافاتها للتوحيد الخالص.

       وهكذا كانت هذه العادة القبيحة متفشية في مجتمع مكة والمدينة قبل ظهور الإسلام، روى علي بن إبراهيم في تفسيره عن الإمام الباقر (×) قَالَ: (نَزَلَتْ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَ هُمْ يَوْمَئِذٍ أَسْوَأُ النَّاسِ كَيْلاً، فَأَحْسِنُوا الْكَيْلَ)([5]) وروت مصادر العامة مثله عن ابن عباس وأن السورة أول ما نزلت في المدينة([6]).

       وروى الطبرسي (أنه (|) قدم المدينة وبها رجل يقال له: أبو جهينة، ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فنزلت الآيات)([7]).

       أقول: لعله أراد بالنزول الآيات الأولى فقط كما احتملنا ذلك، وإلا فإن السورة مكية على المشهور كما يشهد به سياقها، وربما أراد بالنزول هنا تلاوتها على أهل المدينة حين هاجر اليهم لما رأى ابتلاءهم بالتطفيف فكأنها تنزل عليهم الآن، ولا مانع من القول بتعدد النزول.

 

       ومن الأحاديث الشريفة الواردة في مغبّة التطفيف ما رواه ابن عباس عن النبي (|)‏:‏ (‏ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوّهم، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين)([8])  وروى القطب الراوندي عن النبي (|) أنه: (ما من قوم نقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان)([9])، وكان أمير المؤمنين (×) ((يمشي في الأسواق وبيده دِرّه يضرب بها من وجد من مطفّف أو غاشٍّ في تجارة المسلمين، قال الأصبغ: قلت له يوماً أنا أكفيك هذا، يا أمير المؤمنين، واجلس في بيتك، قال: ما نصحتني))([10]).

       وعلى عكس ذلك فقد أدّب الشرع المقدس أتباعه على أن يعطوا الآخر أكثر من حقه بأن يرجّح كفة الطرف الآخر إحساناً واحتياطاً ففي صحيحة محمد بن أبي عمير عن الإمام الصادق (×): (لا يكون الوفاء حتى يُرجَّح)([11])، روى الإمام الصادق (عليه السلام) أنه (مرّ أمير المؤمنين (عليه السلام) على جارية قد اشترت لحماً من قصّاب وهي تقول: زدني، فقالله أمير المؤمنين (عليه السلام): زدها فإنه أعظم للبركة)([12]) وورد في فضل المؤمن الذي يتعامل بهذا الفضل عن النبي (|) قال: (أفضل المؤمنين رجلٌ سمحُ البيع، سمحُ الشراء، سمحُ القضاء، سمحُ الاقتضاء)([13]).

 

وقد جعل الله تبارك وتعالى إقامة العدالة الاجتماعية ورفع الظلم عن الناس وإقامة الموازين بالعدل غرضاً مهماً وأساسياً لبعثة الأنبياء قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد: 25) وقال تعالى: {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} (الرحمن: 7 -9) وقد أدبنا الشرع المقدس على الإنصاف حتى مع الخصوم قال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (النساء: 135)

 

وقد نهى القرآن الكريم عن التطفيف في مواضع أخرى بتعبير آخر يؤكد بأن للحالة معنى أوسع ولا تختص بالبيع والشراء، ويجعلها قاعدة عامة من قواعد التعامل مع الآخرين وهو قوله تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} (الأعراف: 85) (هود/ 85) (الشعراء/183) في عدة مواضع تقدمت عقيب النهي عن التطفيف.

أقول: فمجيء النهي عن البخس بعد النهي عن التطفيف من باب ذكر القاعدة العامة بعد ذكر أحد مصاديقها، أو من ذكر العام بعد الخاص، إذن حالة التطفيف وبخس الناس اشياءهم لا تختصّ بالبيع والشراء وإنما تشمل كل التصرفات المادية والمعنوية، فإن من يستوفي حقه كاملاً لكنه لا يعطي الحق الذي عليه كاملاً فهو مصداق للمطفّف في أي موقع كان سواء في ذلك العالم الديني أو ذو السلطة أو الموظف أو التاجر أو المهني، فالحرب على التطفيف شامل لكل مطفّف وهو الذي يقال عنه في المصطلح (الكيل بمكيالين).

وأسوأ أشكال التطفيف حينما يتحالف طلاب الدنيا من علماء الدين والسلطة الحاكمة وأهل المال والنفوذ لبخس الشعب حقوقه وخذلان الدين والأخلاق، قال أمير المؤمنين (×): (إن أعظم الخيانة خيانة الأمة، وأفظع الغش غش الأئمة)([14]) وحينئذٍ لا يكون معنى التطفيف أخذ النزر اليسير فإن المأخوذ هنا عظيم.

ومن المؤسف أنّا نجد أن التطفيف حالة عامة البلوى وفي جميع مجالات الحياة فالعالم يريد الثناء على إنجازه وعطائه والمكافأة عليه لكنه يَغمط حق غيره ويقلل من شأنه، والأجير لغيره يحاول تضييع وقت العمل وهدره بينما إذا استأجر شخصاً فإنه يراقبه حتى لا يضيّع شيئاً من الوقت، والدائن يستمر في الطرق على المدين حتى يستوفي حقه لكنه يماطل ويتهرب إذا كان هو المدين.

وقد طبّقته إحدى الروايات عن الإمام الصادق (×) على الخمس في الأرباح والغنائم، لأن الناس يستوفون أرباحهم وغنائمهم وهي رزق من الله تعالى كاملة لكنهم لا يؤدون خمس أموالهم([15])، وروي في مجمع البيان عن ابن مسعود وفي مصادر العامة عن سلمان (رضوان الله تعالى عليهما) قوله: (إنما الصلاة مكيال فمن أوفى أوفي له، ومن طفف فقد سمعتم ما قال الله في المطففين‏)([16]).  فمن يقدّم عملاً منقوصاً مشوباً ويريد أن يجعله شكرا لله تعالى على نعمه ووفاءً لحقوق العبودية إلى الله تبارك وتعالى ويطلب عليه جنة عرضها السماوات والأرض فهو مصداق للمطفّف.

       إن مقتضى الوسطية التي وصف الله تبارك وتعالى بها الأمة {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} (البقرة: 143) الإنصاف والاعتدال في الحقوق والواجبات، ولتحقيق ذلك فقد أمر المعصومون (^) بأن تجعل ضميرك ووجدانك هو الحكم، ومنها ما في وصية أمير المؤمنين (×) لولده الحسن (×) (اجعل نفسك ميزاناً في ما بينك وبين غيرك، وأحب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها ولا تظلم كما لا تحب أن تُظلم، وأحسن كما تحب أن يُحسن إليك واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك)([17]).

       ومن التطفيف مطالبة الناس بالإنصاف وعدم إعطائه من النفس، قال الإمام الصادق (×): (ليس من الإنصاف مطالبة الإخوان بالإنصاف)([18]). وتؤكد الأحاديث الشريفة على أن إنصاف الناس من النفس صفة صعبة على النفس، قال الإمام الصادق (×) في حديث له: (ألا أخبركم بأشد ما فرض الله على خلقه، فذكر ثلاثة أشياء أولها: إنصاف الناس من نفسك)([19]).

       لكن الوصول إليها ليس مستحيلاً بفضل الله تبارك وتعالى، وقد قام الأئمة المعصومون (^) بتربية الأمة على هذا النهج، روي أن الإمام الحسين (×) كان يذهب إلى بيت الله الحرام ماشياً على قدميه تعظيماً له وكان يتجنب الطريق العام شفقة على الناس لأنهم كانوا ينزلون عن دوابهم إذا رأوه تعظيماً وهيبةً له (عليه السلام) فيشق ذلك على بعضهم، فقيل له في ذلك، فقال (×): أخشى أن أأخذ من رسول الله (|) ما لا أعطي مثله([20]) وقيل للإمام السجاد (×): (إذا سافرت كتمت نفسك أهل الرفقة؟ فقال: أكره أن آخذ برسول الله ما لا أعطي مثله) ([21]).

ومن المؤسف أن حالة البخس وعدم الإنصاف سائدة فحينما يختلف مع آخر وقد يكون عالماً عاملاً مباركاً فإنه يتعامى عن كل فضائله وإنجازاته ويركّز على ما يعتقد أنه خطأ صدر منه وقد لا يكون خطأ وإنما رآه هو كذلك بعين الكراهية والعداوة.

وهذا الحالة متفشية في الأوساط السياسية فأن المعترضين يركزّون على السلبيات وينشرونها على وسائل الاعلام ويتغافلون عن الإيجابيات.

فعلينا أن نكون دقيقين في سلوكنا وتصرفاتنا، مثلاً نحن الحوزة العلمية إذا لم نكن نبذل الجهد في نصرة الدين وخدمة المؤمنين بقدر ما نتوقع من عطاء الله تعالى والاحترام والتكريم الذي نحصل عليه من الناس فنحن مطفّفون، ولا تغرّنا العناوين و (الشأنية) ونحو ذلك، قال الإمام الباقر (×) في وصيته لجابر بن يزيد الجعفي: (واعلم بأنك لاتكون لنا ولياً حتى لو اجتمع عليك أهل مصرك وقالوا: إنك رجل سوء لم يحزنك ذلك، ولو قالوا: إنك رجل صالح لم يسرك ذلك، ولكن أعرض نفسك على [ما في] كتاب الله، فإن كنت سالكاً سبيله، زاهداً في تزهيده، راغباً في ترغيبه، خائفاً من تخويفه فاثبت وأبشر، فإنه لا يضرك ما قيل فيك. وإن كنت مبائناً للقرآن فماذا الذي يغرك من نفسك)([22]).

والشاب الذي يوفر له أهله ما يحتاجه من مسكن و مأكل وملبس وأسباب الراحة وهو لا يؤدي ما عليه من برِّ الوالدين وأداء واجباته والاهتمام بدراسته فهو مطفّف وهكذا.

 



* - درس التفسير الأسبوعي ليوم الأربعاء الأول من ربيع الثاني 1447 المصادف 24/9/2025.

1 - ثواب الأعمال: ص ١٢٢.

2 - من لا يحضره الفقيه، للشيخ الصدوق (رضوان الله عليه): 1/ 194.

3 - بحار الأنوار، للعلامة المجلسي: 1/ 96، باب العقل والجهل، عن كنز الفوائد للكراجكي: 88.

4 - بناءً على كون السورة مكية حيث قيل أنها من أخر السور نزولاً في مكة، وقيل أنها من أوائل السور نزولاً في المدينة، والآيات الأول يناسب نزولها في المدينة لكن إيقاع الآيات في وسطها ونهايتها تناسب السور المكية الأولى.

5 – تفسير البرهان: 10/ 121 عن تفسير القمي: 2/ 410.

6 – الدر المنثور: 8/ 441 / ط. دار الفكر.

7 - مجمع البيان: 10/ 161.

8 – الدر المنثور: 8 / 442 ط. دار الفكر.

9 - بحار الأنوار: 37/ 377 ح14 عن دعوات الراوندي: 28.

10 - دعائم الإسلام: ٢/ ٥٣٨ / ح 1913.

11 – الكافي: ٥ / 159 / ح5.

12 - الكافي: 5/ 152، ح 8.

13 - كنز العمال: 705.

14 - نهج البلاغة: الكتاب (26).

15 – تفسير البرهان: 10 / 122 ح 4.

16 – الدر المنثور: 8 / 442.

17 - نهج البلاغة: 3 / 45، الكتاب (31).

18 - بحار الأنوار: 75 / 27.

19 - الكافي: 2 / 145، ح 6 من باب: الإنصاف والعدل.

[20]- مناقب ابن شهرآشوب: 3 /300.

[21] - مناقب ابن شهرآشوب: 3 / 300.

22 - بحار الأنوار: 75 / 162- 163.