{عَبَسَ وَتَوَلَّى} - تنزيه رسول الله (ص)

| |عدد القراءات : 84
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

{عَبَسَ وَتَوَلَّى} (عبس: 1)

تنزيه رسول الله (|)([1])

 

قال تبارك وتعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} (عبس: 1-11)

 

          روى الشيخ الصدوق بسنده عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (×) قال: (من قرأ سورة عبس وتولّى، وإذا الشمس كورت، كان تحت جناح الله من الجنان وفي ظل الله وكرامته، في جنانه، ولا يعظم ذلك على الله إن شاء الله)([2])، وروى الطبرسي في مجمع البيان عن أُبيّ بن كعب عن النبي (|) قال: (من قرأ سورة عبس جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر)([3])، وروى في تفسير البرهان ذلك في من أكثر قراءتها.

أقول: كما ذكر الحديث الأول فإن هذا الجزاء ليس كثيراً على من أكثر قراءة هذه السورة وتدبّر معانيها وطبقها في حياته كما هو المفروض، فأكرم الفقراء وذوي الابتلاءات الخاصة كالأعمى المذكور وأقبل عليهم، وهو معنى ورد في الأحاديث الشريفة كما في الكافي بسنده عن أبي عبد الله (×) قال: (قال رسول الله (|): من أكرم أخاه المسلم بكلمة يلطفه بها وفرّج عنه كربته لم يزل في ظل الله الممدود عليه الرحمة ما كان في ذلك)([4]).

أقول: خصوصاً إذا كان من الدعاة إلى الله تبارك وتعالى وحملة القرآن فقد تضمنت السورة (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَه ُ* فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} (عبس: 13 – 16)، روى الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله (×) قال: (الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة)([5]).

         (عبَس) أي انقبض وبان الامتعاض على وجهه غضباً لحصول أمر يكرهه، والحديث عن الفاعل بألفاظ الغائب حفظاً لكرامته أو تصغيراً لشأنه لعدم استحقاقه الخطاب المباشر، ولان المهم هو بيان الحالة وعلاجها من أي شخص صدر الفعلِ (وتولّى) أي أعرض بوجهه (أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى) وسبب ذلك أنه حضر لديه أعمى (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) ثم وجّه خطابه إلى ذلك البعيد المقصود بضمير الغائب بالعتاب والتوبيخ والزجر عن هذا التصرف السيئ مع الاعمى من دون أن تعرف سبب إقباله عليك لاحتمال أن هذا الأعمى حضر طالباً منك أن يتعلم كيفية تزكية نفسه وتطهير قلبه والتقرب إلى الله تبارك وتعالى.

 

(أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى) أو ليستفيد من مواعظك وكلمات ربك التي تقرأها فيتذكر ما يجب عليه فعله لكي يفوز في الآخرة، فكيف يجوز حينئذٍ الصدّ عنه والإعراض، (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى) زيادة في التوبيخ، بأنه إذا جاءك الغني كثير المال الذي له جاه في المجتمع (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) فإنك تُقبل عليه بانشراح وتُحسن استقباله (وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) ولا يهمّك أن يكون مجيئه لأجل أن يزكي نفسه ويتعلم ما يرضي الله تبارك وتعالى أو لا، إذ المهم عندك أنه غني، أو يكون المراد ان وظيفتك إرشاد الناس وتذكيرهم ولا يجب عليك الإصرار على أن يكونوا صالحين بحيث تتولى عن الاعمى لتحقيق هذا الغرض، (وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى) أما من قصدك ساعياً للخير ورضوان الله تبارك وتعالى (وَهُوَ يَخْشَى) الله عزوجل (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) فإنك تهمله وتتشاغل عنه بأمور أخرى، وهذا تصرف مخالف لتربية الله تبارك وتعالى، ثم يأتي الموقف العنيف: (كَلَّا) زجر وردع عن هذا الفعل مقرون ببيان (إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ) فإن وظيفة القرآن التذكير بالله تعالى واليوم الآخر ومحاسن الأخلاق التي تقتضيها الفطرة (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ) وما عليك إلا البلاغ والتذكير والتعليم والإنسان مخيّر في اختيار أحد الطريقين.

فالآية الكريمة تنهى عن حالة موجودة في المجتمعات التي تسود فيها قيم الجاهلية سواء في الأمم السابقة أو المعاصرة حيث تختلف معايير تقييم الأشخاص وإعطائهم المكانة التي يستحقونها، فيكرمون الذي يكون عنده مال كثير وموقع اجتماعي ويأتي في رتل من السيارات الحديثة وعليه ثياب مزركشة زاهية، أو له اتباع يتسابقون في خدمته، أما الفقير الذي يرتدي ثياباً متواضعة أو يكون في جسده عاهة فإنه يُطرد ولا مكان له بينهم، وهذا التصرف مرفوض وقبيح في نفسه وإن لم يوُد إلى إيذاء الفقير وشعوره بالإهانة والتحقير، لان المعني بالآية كان اعمى فلم يشاهد اعراض العابس واشمئزازه، ويزداد هذا الفعل قبحاً عندما يصدر من قادة الإسلام لأنه سيؤدي إلى مداهنة أهل الباطل لا لشيء إلا أنهم أصحاب ثروة وجاه. 

وقد أدى هذا السلوك الجاهلي إلى الطبقية وعدم المساوة وإلى شعور الأغنياء المترفين بالاستعلاء على الطبقتين المتوسطة والفقيرة والتميّز عنهم وإستغناء المترف عنهم بما عنده من ثروة وجاه، وهذا يولّد عنده شعوراً بأنّه هو الحق فيستغني حتى عن سماع النصيحة والموعظة، ولايصدّق إمكان أن يكون هؤلاء الضعفاء المحرومون على الحق {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} (الأحقاف: 11) {وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ} (ص: 62).

 وقد زجرت الآيات التالية بقوة هذا السلوك الجاهلي وذمّت صاحبه ودعت عليه بالموت ووعظته بالالتفات إلى أصله المهين، قال تعالى {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ * كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} (عبس:17 – 23)

إن هذا السلوك الجاهلي مخالف لمقياس التقديم والتكريم في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة الذي هو العلم النافع والعمل الصالح المقرونين بالتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13)، اما الغنى والفقر ونقص الأعضاء ونحو ذلك فأنها لاتغيّر من حقيقة الإنسان

من هذا يتضح الإساءة الكبيرة التي ارتكبها رواة العامة ومفسروهم بإجماعهم بحسب الفخر الرازي وتفسير القرطبي حينما قالوا أن المعني بهذه الآية والمخاطب بها هو رسول الله (|)، وأنها نزلت في رسول الله (|) والأعمى هو عبد الله بن أم مكتوم _ وهو قرشي من بني عامر بن لؤي وكان مؤذناً للرسول (|) ومن السابقين إلى الإسلام في مكة _  (أخرج الترمذي وحسّنه وابن المنذر وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن عائشة قالت: أنزل سورة عبس وتولى في ابن أم مكتوم والأعمى أتى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فجعل يقول: يا رسول الله أرشدني وعند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رجل من عظماء المشركين ، فجعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يعرض عنه ، ويقبل على الآخر ، ويقول أترى بما أقول بأساً فيقول لا ، ففي هذا أنزلت)([6]).

 

أقول: ورووا مثلها عن ابن عباس وآخرين، وورد في بعضها أن الجالسين عند النبي (|) كانوا الوليدين المغيرة وعتبة بن ربيعة وأبا جهل وأمية بن خلف وأن النبي (|) خشيَ إن أقبل على أبن أم مكتوم أن يقولوا أن أصحابه العميان والفقراء والعبيد وكان (|) طامعاً في هدايتهم إلى الإسلام.

 وفي نسبة هذا الفعل إلى رسول الله (|) تجاوز على مقامه الرفيع، وكفران لنعمة النبي (|) تصديقاً لقول أمير المؤمنين (×) (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) مكفرا لا يشكر معروفه ولقد كان معروفه على القرشي والعربي والعجمي، ومن كان أعظم معروفا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) على هذا الخلق، وكذلك نحن أهل البيت مكفرون لا يشكروننا وخيار المؤمنين مكفرون لا يشكر معروفهم)([7])

 ولا أدري كيف ساغ لهم نقل هذه الروايات التي لا تنسجم مع أخلاق النبي (|) وقد أثنى الله تعالى عليه ووصفها بالعظمة {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4) وقد أرسله رحمة للعالمين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) والرحمة تقتضي التواضع لضَعَفَةِ الناس والإشفاق عليهم {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) ووصفه الله تعالى بأنه {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة: 128) وأدَّبه ربه على التواضع للمؤمنين، لقوله تعالى {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 215) وقوله تعالى {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} (الحجر: 88 - 89) وأمره الله تبارك وتعالى بمجالسة المؤمنين والإقبال عليهم وعدم مجاملة المشركين على حسابهم {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (الكهف: 28) ونهاه ربه عن طرد المؤمنين والإعراض عنهم {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنعام: 52) وأمره بالإعراض عن المشركين {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الحجر: 94).

وكيف ينسب هذا الفعل المستهجن إلى النبي (|) الذي كان يمقت من يصدر منه مثله، روى الشيخ الكليني في الكافي بسنده عن الإمام الصادق (×) قال: (جاء رجل موسر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله نقي الثوب فجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فجاء رجل معسر درن الثوب فجلس إلى جنب الموسر فقبض الموسر ثيابه من تحت فخذيه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: أخفت أن يمسك من فقره شيء؟ قال: لا، قال: فخفت أن يصيبه من غناك شيء؟ قال: لا، قال: فخفت أن يوسخ ثيابك؟ قال: لا؟ قال: فما حملك على ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله إن لي قريناً يزيّن لي كل قبيح ويقبّح لي كل حسن، وقد جعلت له نصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله للمعسر: أتقبل؟ قال: لا، فقال له الرجل: لم؟ قال: أخاف أن يدخلني ما دخلك)([8]) .

قال السيد المرتضى (رضوان الله عليه): (ليس في ظاهر الآية دلالة على توجّهها إلى النبي (|)، بل هو خبر محض، لم يصرح بالمخبر عنه، وفيها ما يدل على أن المعني بها غيره، لأن العبوس ليس من صفات النبي (|)، مع الأعداء المباينين، فضلاً عن المؤمنين المسترشدين. ثم الوصف بأنه يتصدى للأغنياء، ويتلهى عن الفقراء، لا يشبه أخلاقه الكريمة)([9]).

فهذه الروايات موضوعة من قبل خصوم النبي (|) من الذين يحنّون إلى أيام الجاهلية كبني أمية وأمثالهم، ومن مكائد اليهود للتخلص من دين الإسلام بتشويه صورة الرسول العظيمة، وقد وضع الأمويون خطة ممنهجة للوصول إلى هذا الغرض، روى أبن المغيرة بن شعبة قال: ((دخلت مع أبي على معاوية - وكان أبي يأتيه فيتحدث معه ثم ينصرف إلي، فيذكر معاوية وعقله، ويُعجب بما يرى منه- إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء، ورأيته مغتماً فانتظرته ساعة، وظننت أنه لأمر حدث فينا. فقلت: ما لي أراك مغتماً منذ الليلة؟ فقال: يا بني جئتُ من عند أكفر الناس وأخبثهم! قلت: وما ذاك؟! قال: قلت له وقد خلوت به: إنك قد بلغت سناً يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلاً وبسطت خيراً، فإنك قد كبرت، و نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم، فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه، وإن ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه.

         فقال: هيهات هيهات، أي ذكر أرجو بقاءه! مَلكَ أخو تيم فعدل، وفعل ما فعل، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلاّ أن يقول قائل: أبو بكر ، ثم ملك أخو عدي، فاجتهد وشمّر عشر سنين، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلاّ أن يقول قائل: عمر، وإن ابن أبي كبشة_ يعني النبي محمداً (|)_ ليُصاح به كل يوم خمس مرات (أشهد أن محمداً رسول الله)، فأيُّ عمل يبقى وأيُّ ذكر يدوم بعد هذا لا أباً لك؟!، لا والله إلاّ دفناً دفناً))([10])،

    وهذا هو هدفهم الاستراتيجي وقد عملوا عليه بقوة وأحدثوا في الإسلام فتقاً لم يرتق.

      مضافاً إلى أنهم أرادوا تبرئة صاحبهم([11])  الذي نزلت فيه الآية الكريمة، ففي مصادر الإمامية كتفسير علي بن إبراهيم، قال: (نزلت في عثمان وابن أم مكتوم، وكان ابن أم مكتوم مؤذناً لرسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله)، وكان أعمى، فجاء إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) وعنده أصحابه، وعثمان عنده، فقدمه رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) على عثمان، فعبّس عثمان وجهه وتولى عنه، فأنزل اللّه: (عَبَسَ وَ تَوَلّٰى [يعني عثمان] أَنْ جٰاءَهُ الْأَعْمىٰ* وَ مٰا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكّٰى) أي يكون طاهراً زكياً (أَوْ يَذَّكَّرُ) قال: يذكره رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرىٰ)([12]).

أقول: ورواه غيره، واكتفى بعضهم بكونه من بني أمية كالطوسي في التبيان والطبرسي في مجمع البيان وأبي الفتوح الرازي (ت: 588) وهو من مشايخ ابن شهرآشوب في روح (روض) الجنان، وعمَّمَ السيد المرتضى في تنزيه الأنبياء بأنه من أصحاب الرسول الله (|).

         وحاول بعض أعلام العامة تبرير رواياتهم كالذي نقله الطبرسي عن الجبائي قال: ((في هذا دلالة على أن الفعل يكون معصية فيما بعد لمكان النهي، فأما في الماضي فلا يدل على أنه كان معصية قبل أن ينهى عنه، والله سبحانه لم ينهه إلا في هذا الوقت. وقيل: إن ما فعله الأعمى نوع من سوء الأدب، فحسن تأديبه بالإعراض عنه، إلا أنه كان يجوز أن يتوهم أنه أعرض عنه لفقره، وأقبل عليهم لرياستهم تعظيماً لهم، فعاتبه اللّٰه سبحانه على ذلك))([13])

أقول: وصفُ الله تعالى رسول الله (|) بالخلق العظيم سابق على نزول هذه الآيات لأنّ الآية في سورة القلم ((التي اتفقت الروايات المبينة لترتيب نزول السور على أنها نزلت بعد سورة أقرأ باسم ربك، فكيف يعقل أن يعظم الله خلقه في أول بعثته ويطلق القول في ذلك ثم يعود فيعاتبه على بعض ما ظهر من أعماله الخُلقية ويذمه بمثل التصدي للأغنياء وإن كفروا والتلهي عن الفقراء وإن امنوا واسترشدوا))([14])،  وإن هذا الفعل الشنيع يحكم العقل بقبحه وهو منافٍ للفطرة النقية وتنفر منها الطباع السليمة، ولا تحتاج إلى نهي لبيانها، وإن بعض الآيات التي أوردناها في أدب النبي (|) وتأديبه نزلت قبل هذه الحادثة كآية {فَاصْدَعْ} (الحجر: 94) النازلة في أول الدعوة العلنية فهل ترى أن النبي (|) خالف أمر ربّه؟

وقيل أن إقبال النبي (|) على سادة قريش وعدم مبالاته بالاعمى الذي قاطعه بالاسئلة كان طمعاً في اسلامهم فيكون سبباً لكسب كثير من الناس التابعين لهم إلى الإسلام وبذلك يدفع الضرر والعذاب عن المسلمين.

 وقال في مجمع البيان ((إن العبوس والإنبساط مع الاعمى سواء، إذ لا يشق عليه ذلك، فلا يكون ذنباً، فيجوز أن يكون عاتب الله سبحانه بذلك نبيه (|) ليأخذه بأوفر محاسن الاخلاق، وينبهه بذلك على عظم حال المؤمن المسترشد، ويعرّفه أن تأليف المؤمن ليقيم على إيمانه أولى من تأليف المشرك طمعاً في إيمانه.

وقيل: إن في ما فعله الاعمى نوعا من سوء الأدب فحسن تأديبه بالاعراض عنه لا أنه كان يجوز أن يتوهم أنه اعرض عنه لفقره، واقبل عليهم لرياستهم تعظيماً، فعاتبه الله سبحانه))

أقول: لوكان الفعل راجحاً ومبرراً لما استحق هذا الزجر الشديد

ومما يضعّف هذه الروايات أن رواتها لم يكونوا شهوداً على الواقعة لأنهم غير موجودين يومئذ كهشام بن عروة وابيه، أو كانوا أطفالاً صغاراً لا يحسنون النقل كابن عباس الذي ولد قبل الهجرة بثلاث سنين والحادثة وقعت في مكة، أو عائشة التي لم تكن في بيت رسول الله (|) يومئذ.

         ثم إن وظيفة النبي (|) تعليم الناس وهدايتهم وإيصال الرسالة اليهم فكيف يعرض عنهم ويهملهم، وأن هذا التصرف يوجب نفور الراغبين في اعتناق الدين الجديد وعدم ثقتهم بالقائد الذي يتوقعون منه الالتزام التام بالمبادئ الإنسانية، والآيات الكريمة تشدّد التحذير من إنحراف القائد عن الحق ولو يسيراً قال تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا* إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} (الإسراء: 74 -75) وقال تعالى {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (الحاقة: 47)

 

 

 

 

 



1 – درس التفسير الأسبوعي يوم الأربعاء 17/ ربيع الأول / 1447هـ الموافق: 10/ 9/ 2025م ، وكان بمناسبة ميلاد رسول الله (|).

2- ثواب الأعمال: ص١٢١.

3 - مجمع البيان: ج ١٠ / ص ٢٦٣.

4 – الكافي: ج ٢ / ص٢٠٦.

5 – الكافي: ج ٢ / ص ٦٠٣.

6 – الدر المنثور: 8 / 461.

7 - علل الشرائع: ج ٢ / ص ٥٦٠ / باب 353 / ح2، راجع في شرحه تفسير (من نور القرآن) عند قوله تعالى {فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} (الأنبياء: 94) وفي كتاب (النبي (|) والعترة في القرآن الكريم: 201).

8 - الكافي: ج ٢ / ص ٢٦٢، باب فضل فقراء المسلمين.

9 – حكاه في مجمع البيان: ج ١٠/ ص146 عن تنزيه الأنبياء: ص ١٦٦.

10 - الصحوة: لصباح علي البياتي: 403، نقلاً عن الموفقيات: 577.

11 - وكم لهم في ذلك من روايات في تنزيه رموزهم ولو بنسبة القبيح إلى النبي (|) كالذي رووه عن الأسود بن سريع، قال: (أتيت النبي (|) فقلت يا رسول الله إني قد حمدت ربي تبارك وتعالى بمحامد ومدح وإياك، قال هات ما حمدت به ربك عز وجل قال فجعلت أنشده فجاء رجل أدلم فاستأذن قال فقال النبي (|): بين بين قال فتكلم ساعة ثم خرج قال فجعلت أنشده قال ثم جاء فاستأذن قال فقال النبي (|): بين بين ففعل ذاك مرتين أو ثلاثا قال قلت: يا رسول الله من هذا الذي استنصتني له قال عمر بن الخطاب هذا رجل لا يحب الباطل (مسند أحمد بن حنبل: المجلد 3 /  ح15033).

12 - البرهان في تفسير القرآن: ج 10/ 105 عن تفسير القمي: 2/404.

13 – مجمع البيان: ج10 /ص 146.

14 – الميزان في تفسير القرآن: 20/ 223.