{فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً} - السيدة الزهراء (ع): المثل الأعلى للعفاف
{فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً} [مريم: 17]
السيدة الزهراء ($): المثل الأعلى للعفاف[1]
صورة سامية يرسمها القرآن الكريم لعفاف الصديقة مريم بنت عمران ($) فإنها لم تكتفِ بحجابها الشخصي وإنما اتخذت إجرائين آخرين لتحقيق المزيد من الصون والعفاف:
1- أنها اتخذت مكاناً منعزلاً بعيداً عن الاحتكاك مع الناس {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً[2]} [مريم: 16]، ولعل هذا المكان الشرقي -كما في الميزان- هو المحراب المخصوص للعبادة الذي ذكرته الآية الكريمة {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً} [آل عمران: 37].
2- أسدلت دونها حجاباً ساتراً حتى لا ترى معالمها أو حركاتها وإن كانت محجّبة، ولتتفرغ لعبادة ربها وتنقطع عن كل ما يشغلها عنها {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً}، ولكي تسلم عبادتها من الرياء إذا اطمأنت لعدم الناظر إليها، ولكي لا تعطي فرصة النظر المجاني إليها من قبل الرجال الأجانب.
هذا العفاف وهذا الاحتجاب عما سوى الله تبارك وتعالى الذي تميزت به مريم ($) جعلها محل ثناء الله تبارك وتعالى في أكثر من موضع وعبّر عنها بأنها {أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [الأنبياء: 91] واستحقت لقب صديّقة {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة: 75] وهي صيغة مبالغة من الصدق حيث يتطابق القول والفعل، وبذلك كانت أهلاً للفيض الإلهي، واستحقت أن يهبها الرسول العظيم عيسى (A) {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12].
هذه هي مريم الصديقة في عفافها فأين نساء النصارى منها؟ وبماذا يواجِهْنها يوم القيامة حينما يدّعين الانتساب إليها وقد أغراهن الشيطان بإظهار كل مفاتنهن أمام الملأ وارتكبن أفحش المحرمات، ففقدن قيمة الكرامة والسمو والرفعة والطهر والنقاء وأصبحن مبتذلات وسلعاً تجارية، روي عن أبي عبد الله (A) قوله: (يؤتى بالمرأة الحسناء يوم القيامة التي قد افتتنت في حسنها فتقول: يا ربِّ حَسَّنتَ خلقي -أي جعلتني جميلة حسناء- حتى لقيت ما لقيت -من الافتتان والانحراف بسبب ذلك فأنا معذورة-، فيجاء بمريم (عليها السلام) فيقال: أنت أحسن أو هذه؟ قد حسّناها فلم تُفتَتن، ويُجاء بالرجل الحسَن الذي قد افتتن في حسنه فيقول: يا رَبّ حَسّنتَ خَلقي حتى لقيت من النساء ما لقيت فيجاء بيوسف (عليه السلام) فيقال: أنت أحسن أو هذا؟ قد حسناه فلم يفتتن)[3].
وضربت لنا السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء ($) المثل الأعلى للعفاف، ومن صور سلوكها ($) عندما حتّم عليها الواجب أن تخرج إلى مسجد أبيها (J) لتردع المنقلبين عن غيّهم، وتعيد الحق إلى أهله، وتثير في أصحاب أبيها (J) حميّة الدين، تقول الرواية (لاثت خمارها على رأسها -أي لفّته بالمقنعة وغطّته- واشتملت بجلبابها -أي أحاطت نفسها به- وأقبلت في لُمّةٍ من حفدتها -أي جماعة من مريداتها والمواليات لها - ونساء قومها تطأ ذيولها، ونيطت دونها مُلاءة)[4].
فلم يشغلها هول المصاب عن مراعاة العفاف الكامل، ولم تكتفي سلام الله عليها بالملابس الساترة لبدنها والطويلة التي تغطّي قدميها وتخطّ بالأرض حتى إنها ($) تطأها عند السير، وإنما اتخذت أكثر من إجراء:
1- مضت في جمع من النساء حتى لا تتميز معالمها حين تكون بينهن.
2- ضربت حجاباً دون الرجال حتى لا يرى شخصها.
وكما أن الله تعالى كافأ مريم ($) على عفافها الكامل بأن وهبها روح الله وكلمته، فإنه تبارك وتعالى كافأ السيدة الزهراء ($) بأن وهبها ذرية معصومة جعلهم أئمة للخلق أجمعين، قال النبي (J) مستعملاً نفس التعبير القرآني: (إن فاطمة أحصنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار)[5]؛ لأنهم معصومون سلام الله عليهم.
ومن صور عفافها ما رواه الإمام السجاد (A) قال: (أن فاطمة بنت رسول الله (J)، استأذن عليها أعمى فحجبته، فقال لها النبي (J): لم حجبتِه وهو لا يراك؟ فقالت: يا رسول الله، إن لم يكن يراني فأنا أراه، وهو يشم الريح، فقال النبي (J): أشهد أنكِ بضعة مني)[6].
وكان أهم طلب عندها أن تُكفى مؤونة الخروج من البيت بما يتطلبه من ظهور شخصها أمام الرجال الأجانب، هذا النهج الذي عبّرت عنه بقولها ($): (خير للنساء أن لا يرين الرجال، ولا يراهن الرجال)[7]، وهو منهج القرآن الكريم الذي اختصره بقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33].
روي عن أبي عبد الله، عن أبيه (عليهما السلام) قال: (تقاضى علي وفاطمة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الخدمة، فقضى على فاطمة بخدمة ما دون الباب، وقضى على علي بما خلفه، قال: فقالت فاطمة: فلا يعلم ما داخلني من السرور إلا الله؛ بإكفائي رسول الله (صلى الله عليه وآله) تحمّل رقاب الرجال)[8].
ولكمال عفافها فقد كان بالها مشغولاً بما بعد الموت حيث تعارفوا يومئذٍ على تشييع الجنازة بوضعها ظاهرة حيث ترى معالم الميت الخارجية من وراء الكفن، (قالت لأسماء بنت عميس: اصنعي لي نعشاً يواري جسدي، فإني قد ذهب لحمي -وهكذا صنعت الأحزان والآلام بها-، فقالت لها: يا بنت رسول الله صلى الله عليه وآله ألا أريك شيئاً يُصنع في أرض الحبشة، قالت فاطمة: بلى، فصنعت لها مقدار ذراع من جرايد النخل، وطرحت فوق النعش ثوباً فغطّاه، فقالت فاطمة عليها السلام: سترتيني سترك الله من النار)[9].
فالمطلوب إذن ليس فقط ارتداء الحجاب الشخصي الكامل وإنما الالتزام بكل ما يتطلبه العفاف والحياء من إجراءات وتجنّب كل حركة أو حالة أو كلام أو مظهر ينافي السلوك العفيف أي توفير بيئة وظروف العفاف أيضاً، وعلى الرجال مساعدة النساء في تحقيق هذه الحالة السامية صوناً لهم ولهن {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53] ونحو ذلك من الإجراءات.
فعلى جميع النساء أن يتخذن من السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء ($) مثلاً أعلى في العفّة والحياء ويقاومن إغراء شياطين الجن والإنس الذين يبذلون الأموال الطائلة ويسخّرون التقنيات المثيرة والجاذبة والإعلام المؤثر من أجل تجريد المرأة من عفافها وحيائها وإبراز مفاتنها للرجال من خلال دور الأزياء وهوس الموضة ومسابقات الجمال، ونشروا مراكز الترفيه والمساج والتجميل وإقامة الحفلات الماجنة، لأنهم يعتبرون النساء أفتك سلاح في حربهم المسعورة على الدين والأخلاق وقيم الكرامة والعزة والسمو والرفعة {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء: 27].
لقد كانت السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء ($) بما جسّدت من تعاليم الدين ملهمة للنساء عبر التأريخ بأن يتّخذن مسلك العفاف والطهر والنقاء، وبنات الإسلام والسيدة الزهراء ($) هُنّ الوحيدات من نساء العالم اللواتي يجسّدن هذا السلوك، ولعلكم شاهدتم مقطع الفيديو للمرأة الفلسطينية العفيفة التي استطاعت فرق الإنقاذ بمشقّة من سحبها من تحت الأنقاض الهائلة بسبب العدوان الصهيوني الغادر وكان همّها أثناء سحبها من تحت الأنقاض تعديل حجابها وغطاء رأسها الذي انكشف جزء منه بسبب القصف الوحشي.
إن مراعاة العفاف والحياء لم يمنع السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء ($) من ممارسة وظائفها في التبليغ الديني وتعليم النساء ونصرة الحق، والحضور في المواقف المفصلية التي تتطلب حضورها، كإلقائها الخطاب في مسجد أبيها (J) واحتجاجها المفحم للمتصدّين، مضافاً إلى أداء واجباتها العائلية والبيتية بأكمل وجه، فما هو مبرر النساء اليوم وفي كل يوم للخضوع لغرائزهن واتباع شهواتهن والافتتان بما عندهن من وسائل الإغراء، حتى إن بعض المتدينات يخرجن عن حدود العفة في المناسبات الاجتماعية أو في أماكن العمل أو الدراسة أو ضمن العلاقات الأسرية وغير ذلك.
[1] - من ردس التفسير الأسبوعي الذي يلقيه سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على طلبة البحث الخارج في مكتبه في النجف الأشرف يوم الأربعاء 24/جمادي أولى/1446 الموافق 27/11/2024.
[2] - اتخاذها مكاناً شرقياً لعله لارتباط أوقات الصلاة بالشمس من حين الفجر والشروق إلى غروب الشمس الذي يستدل عليه بذهاب الحمرة المشرقية بناءً على ما في شريعة الإسلام.
[3] - مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، للعلامة المجلسي: 26/162، شرح أصول الكافي: ج ١٢ - ص ٣٠٦.
[4] - الاحتجاج: ج ١ - ص ١٣٢.
[5] - معاني الأخبار - الشيخ الصدوق - ص ١٠٧.
[6] - مستدرك الوسائل: ج ١٤ - ص ٢٨٩.
[7]- بحار الأنوار: 43/ 54.
[8] - بحار الأنوار: ج ٤٣ - ص ٨١.
[9] - بحار الأنوار: ج ٧٨ – ص٢٥٥.