القبس/211 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} الجمعة:9

| |عدد القراءات : 34
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

القبس/211 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} الجمعة:9

 

قال الله تبارك وتعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(الجمعة:9).

  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}:خطاب مؤكّد ب (يا) و(أي) و(ها) موجّه للمؤمنين عموماً، وإنما خصّهم بالخطاب اهتماماً بشأنهم وإظهاراً لقربهم من الله تعالى، ولأنهم من يتوقع منهم الاستجابة، وإلا فالوجوب شامل لجميع الناس حتى الكفار، غاية الأمر:أن عليهم تصحيح عقيدتهم وأن يؤمنوا بالإسلام أولاً ثم يمتثلوا الأحكام الشرعية لتصحّ منهم.

  {إِذَا نُودِيَ}:المراد بالنداء للصلاة الأذان لها ويشهد لهذا أنهم أطبقوا على تفسير النداء في قوله تعالى:{وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ(المائدة:58) بالأذان فإنّ أعداء الإسلام في زمن نزول الآية وفي كل زمان يسخرون من أذان المسلمين وصلاتهم ويستهزئون بها.

وفي التعبير بالنداء لصلاة الجمعة كناية عن دخول وقتها وإن لم يُرفع الأذان خارجاً، ولعله لهذا جيء بالفعل (نودي) مبنياً للمجهول فأنه يكفي في تحقق النداء دخول وقت الأذان وما فيه من حث ودعوة للمبادرة إلى الصلاة والفلاح وخير العمل من دون مدخلية لرافعه خارجاً.

  وعلى هذا فإنّ (إذا) هنا ليست شرطية توجب المفهوم للجملة بحسب المصطلح بحيث ينتفي الجزاء وهو وجوب السعي إلى الجمعة إذا انتفى الشرط وهو وقوع الأذان خارجاً، وإنما هي ظرفية سيقت لبيان تحقق الموضوع وإنه إذا حلّ الوقت وجبت إقامة الصلاة؛ لوضوح أن بعض المقدمات كالسعي إلى محل إقامتها وإنهاء الشواغل عنها كالمتجر ومحل العمل مما يجب قبل الأذان.

  ويمكن أن تكون (إذا) شرطية بناءً على معنى آخر للنداء بأن يراد به أمر الفقيه الجامع للشرائط المتصدي للأمور العامة وإدارة شؤون الأمة بإقامتها، وسيأتي بيان مبررات هذا المعنى إن شاء الله تعالى، وكلا المعنيين صحيحان فالأول ظرف إقامتها، والثاني شرط وجوب إقامتها.

  {لِلصَّلاةِ}:أي صلاة الجمعة فقد ثبت بالإجماع أن الصلاة المنادى إليها هي الجمعة وليس الظهر لان النداء الى الظهر لا يختص بيوم الجمعة، ولا يوجد احتمال ثالث غيرهما فاللام عهدية.

ولأن ظرفية دخول الوقت لتحقق الوجوب لا يختص بصلاة الجمعة وإنما هو عام لكل الصلوات اليومية المفروضة فقد أتي بلفظ الصلاة مطلقاً وليس مقيداً بالإضافة إلى الجمعة.

  وفي ضوء هذا كله:لا يصحّ ما قيل([1]) إن المراد بالنداء لها إقامتها بشروطها فاذا أقيمت وجب السعي اليها، لأنه يستلزم اتحاد النداء والمنادى له، فتكون إقامة صلاة الجمعة نداءً لإقامتها، وهو تحصيل حاصل لا مسوِّغ له، مضافاً إلى مخالفته للواقع عند نزول الآية إذ لم تكن إقامتها سبباً لوجوب إقامتها بل حلول وقتها والأذان لها، وقد كانت الجمعة مقامة قبل نزول السورة بسنوات([2])، وإنما نزلت السورة لتوبيخ تاركيها في حادثة معينة يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى. لا لتأسيس وجوب إقامة صلاة الجمعة فهذا التفسير غير صحيح، وما ترتب عليه من عدم وجوب الحضور فيها إلا إذا أقيمت مثله، والشاهد على عدم صحته ما ذكرناه من عدم إضافة الصلاة إلى الجمعة مما يعني أن هذا النداء ليس أمراً مغايراً للنداء إلى الصلوات المفروضة الأخرى، وهو الأذان عند دخول الوقت.

  فإذا حل وقت صلاة الجمعة وجب على المؤمنين السعي لإقامتها كلٍّ بحسبه، فالإمام يسعى لإمامتها، وبقية المؤمنين لحضورها، أما الأذان الفعلي فليس أزيد من كونه إعلاماً بدخول الوقت، واجتماع العدد ليس شرطاً للوجوب حتى يسقط إذا لم يجتمعوا بل هو شرط للواجب إذ على المؤمنين أن يجتمعوا لتوفير العدد المطلوب إلا ذوي الأعذار.

  ولأهمية هذا النداء فقد مهّدت له الآيات السابقة من سورة الجمعة، حيث بدأت بالإخبار عن أن كل ما في الوجود يسبّح لله تبارك وتعالى فلا بد أن يكون الإنسان جزءاً من هذه الحركة لأنه خليفة الله في أرضه، ثم بيان سمو غرض الرسالة المحمدية وهو التزكية والتعليم فضلاً من الله تعالى ورحمة، ثم توبيخ وتحقير من حُمِّلوا رسالة الله تعالى ولكنهم لم يلتزموا بها مع أنهم يدّعون أنهم الأُمناء عليها والقائمون بها، فيختبر صدقهم بتمني الموت ولكنهم لا يفعلون لأنهم كاذبون غارقون في حب الدنيا، وفي هذه الأجواء المهيئة عقلياً وقلبياً ونفسياً يأتي النداء للحث على السعي والاجتماع لإقامة صلاة الجمعة واعقبها الأمر بترك البيع وسائر الشواغل، حتى لا يجد المتلقي سبباً للتقاعس وعدم الامتثال لما فيها من النهي عن كل ما يشغل عن الحضور فيها

  والخطاب في الآية عام فيشمل المؤمنين في كل مكان وزمان إلى قيام يوم الساعة، وهو مطلق لا يقيَّد إلا بدليل، وقد ورد في خطبة لرسول الله (9) (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه بالجمعة:يوم الجمعة)([3]) كما روى الفريقان أن النبي (9) خطب في أول جمعة أقامها في المدينة فقال (إن الله تعالى افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في مشهدي هذا، في عامي هذا، إلى يوم القيامة، فمن تركها استخفافاً بها أو جحوداً لها فلا جمع الله له شمله، ولا بارك له في أمره، ولا صلاة له، ألا ولا زكاة له، ألا ولا حج له، ألا ولا صيام له، ألا ولا برَّ له، ولا بركة له حتى يتوب، فمن تاب تاب الله عليه)([4]) وفي صحيحة منصور بن حازم عن الإمام الصادق (A) قال:(والجمعة واجبة على كل أحد)([5]).

  {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}:تعزيز للوجوب باستعمال صيغة الأمر بالسعي الذي هو السير الحثيث مع العناية والاهتمام، وذكر الله أعم من أن يكون الصلاة والخطبتان، روى جابر بن يزيد عن الإمام الباقر (A) قال:(قلت له:قول الله عز وجل:{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِقال:قال:اعملوا وعجلوا فإنه يوم مضيق على المسلمين فيه، وثواب أعمال المسلمين فيه على قدر ما ضيق عليهم، والحسنة والسيئة تضاعف فيه. قال:وقال أبو جعفر (A) والله لقد بلغني أن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله كانوا يتجهزون للجمعة يوم الخميس لأنه يوم مضيق على المسلمين)([6]).

{وَذَرُوا الْبَيْعَ}:تأكيد آخر على أهمية إقامة الفريضة بعد الأمر بالسعي إليها من خلال النهي عن ممارسة أي فعل يعيق أداء هذه الفريضة العظيمة، وإنما خُصّ البيع بالذكر لأنه الحالة الخارجية الواقعة التي أوجبت نزول الآية حيث قيل إن قافلة تجارية وردت من الشام فلما أشرفت على المدينة ضربوا بالدفوف لإعلام أهلها بوصولهم فهرع إليها أصحاب رسول الله (9) وتركوه قائماً يخطب ولم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلاً وروي أقل من ذلك([7]) وان النبي (9) قال (لقد نظر الله إلى مسجدي يوم الجمعة، فلولا هؤلاء الثمانية الذين جلسوا في مسجدي لأُضرمت المدينة على أهلها ناراً، وحصبوا بالحجارة كقوم لوط)([8]) والمورد لا يخصّص الوارد.

أو لأنه أهم ما يشغل الإنسان من أمور الدنيا ويعطّل أدائه للفريضة فمن باب أولى دخول غيره في النهيّ قال في مجمع البيان ((وفي هذه الآية دلالة على وجوب الجمعة، وفي تحريم جميع التصرفات عند سماع اذان الجمعة، لان البيع إنما خُصَّ بالنهي عنه لكونه من أهم التصرفات في أسباب المعاش))([9]) بل أن النهي يشمل حتى الشواغل الأخروية كالصلوات المستحبة إذ (لا قربة بالنوافل إذا أضرّت بالفرائض)([10])، نعم إذا حصل شاغل أهم في نظر الشارع المقدس كحفظ النفس من الهلاك أو العرض من الشين سقط الوجوب.

  {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}:فإن في صلاة الجمعة مصالح دنيوية وأخروية عظيمة سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى، فالخير كله في هذا السعي ولا خير في ما سواه، وليس التعبير هنا على نحو صيغة التفضيل أي أن في الآخر خيراً لكن هذا أفضل منه، كما في قوله تعالى {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ(البقرة:221) وقوله تعالى {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ(البقرة:263).

  إن هذا الخطاب القرآني الذي يوجب على المؤمنين إقامة صلاة الجمعة والسعي إليها عام لا يختص بجماعة دون جماعة، ومطلق لا يختص بزمان دون زمان ولا بحال كحضور المعصوم (A) دون حال كغيبته(A)، وهو ما أكدته الروايات الشريفة المتواترة([11])، منها صحيحة زرارة عن أبي جعفر الباقر (A) قال (إنما فرض الله عز وجل على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمساً وثلاثين صلاة، منها صلاة واحدة فرضها الله عزّ وجلّ في جماعة وهي الجمعة، ووضعها عن تسعة:عن الصغير، والكبير، والمجنون، والمسافر، والعبد، والمرأة، والمريض، والأعمى، ومن كان على رأس فرسخين)([12]).

  أقول: الرواية صريحة في الوجوب التعييني لصلاة الجمعة عند زوال يوم الجمعة في جميع الأزمنة وأن الفرض في هذا الوقت هي صلاة الجمعة لا الظهر، وقد ذكرت الرواية بمعونة غيرها شرط إقامتها وهو وجود إمام يخطب لأنها لا تعقد إلا جماعة وبخطبتين، ومراعاة شرط المسافة، وذكرت عناوين المعذورين، فالقول بالوجوب التخييري غير ظاهر ودليله غير تام، بل غير متصوَّر وأنَّ فريضة عظيمة مثل صلاة الجمعة بالغ القرآن الكريم والروايات الشريفة في التأكيد على إقامتها والحضور فيها، وذمّ من تخلّف عنها لا يعقل أن يكون أمرها بيد المكلفين إن شاؤوا أقاموها وإن شاؤوا تركوها.

  أما الإمام المذكور في بعض الروايات فهو إمام الجمعة وخطيبها، كما في صحيحة زرارة قال (قلت لأبي جعفر (A): على من تجب الجمعة؟ قال: تجب على سبعة نفر من المسلمين، ولا جمعة لأقل من خمسة من المسلمين، أحدهم الإمام، فإذا اجتمع سبعة ولم يخافوا أمّهم بعضهم وخطبهم)([13]) وصحيحته الأخرى عن أبي جعفر (A) قال (صلاة الجمعة فريضة، والاجتماع إليها مع الإمام فريضة)([14]) وموثقة سماعة قال (سألت أبا عبد الله A عن الصلاة يوم الجمعة؟ فقال: أما مع الإمام فركعتان، وأما من يصلي وحده فهي أربع ركعات بمنزلة الظهر، يعني إذا كان إمام يخطب، فإن لم يكن إمام يخطب فهي أربع ركعات وإن صلّوا جماعة)([15]).

وقد تواترت الروايات في فضل صلاة الجمعة وثواب من يشارك فيها، كالذي ورد في حديث المعراج أن النبي (9) رأى ملائكة يدعون:(اللهم اغفر للذين يحضرون صلاة الجمعة، اللهم اغفر للذين يغتسلون يوم الجمعة)([16]) وورد عن النبي (9) قوله:(ألا أخبركم بأهل الجنة؟ من لا يشغله عن الجمعة حر شديد، ولا برد شديد، ولا ردغ)([17]) وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (A) قال (إذا كان يوم الجمعة نزل الملائكة المقرّبون معهم قراطيس من فضّة، وأقلام من ذهب، فيجلسون على أبواب المسجد، على كراسي من نور، فيكتبون الناس على منازلهم الأول والثاني حتى يخرج الإمام، فإذا خرج طَووا صحفهم، ولا يهبطون في شيء من الأيّام إلاّ يوم الجمعة)([18]) وقورنت صلاة الجمعة بالحج فقد جاء إعرابي يشكو إلى رسول الله (9) عدم الاستطاعة إلى الحج فقال (9) له:(عليك بالجمعة فإنها حج المساكين)([19]).

  وهي من مظانّ إجابة الدعاء، فقد روي عن الإمام الباقر (A) قوله (أول وقت الجمعة ساعة تزول الشمس إلى أن تمضي ساعة فحافظ عليها فإن رسول الله (9) قال: لا يسأل اللهَ عبدُ فيها خيراً إلا أعطاه)([20]) وعن الإمام الصادق (A) قال (ما من قدمٍ سعت إلى الجمعة إلا حرم الله جسدها على النار)([21]) وروى الشيخ الصدوق (قده) في الأمالي عن رسول الله (9) قوله (أما يوم الجمعة فيوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين، فما من مؤمن مشى فيه إلى الجمعة إلا خفف الله عليه أهوال يوم القيامة، ثم يأمر به إلى الجنة)([22]) .

  ويستحب السفر إلى محلّ إقامتها للحضور فيها، في موثقة سماعة عن جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه (C)، أنه قال (أيما مسافر صلى الجمعة رغبة فيها وحباً لها أعطاه الله عزّ وجلّ أجر مائة جمعة للمقيم)([23]).

  وتصل أهمية الحضور إلى درجة وجوب إطلاق سراح المسجونين في الديون من أجل حضورها، قال الإمام الصادق (A) (إن على الإمام أن يخرج المحبسين في الدين يوم الجمعة إلى الجمعة ويوم العيد إلى العيد، ويرسل معهم، فإذا قضوا الصلاة والعيد ردهم إلى السجن)([24]).

  وورد في ذم التقاعس عن الحضور صحيحة زرارة عن أبي جعفر الباقر (A) قال (فإن ترك رجل من غير علة ثلاث جمع فقد ترك ثلاث فرائض، ولا يدع ثلاث فرائض من غير علة إلا منافق)([25]).

  مضافاً إلى ذلك فقد عبّرت الأحاديث الشريفة عن هذا الاهتمام، بصيغ متعددة كالنهي عن السفر يومها، روي عن رسول الله (9) قوله (من سافر من دار إقامته يوم الجمعة دعت عليه الملائكة، لا يُصحَب في سفره ولا يعان على حاجته)([26]) ومن كتاب لأمير المؤمنين (A) إلى الحارث الهمداني (لا تسافر يوم الجمعة حتى تشهد الصلاة، إلا ناصلاً-أي خارجا- في سبيل الله أو في أمر تعذر به)([27]) وروي عنه (A) أنه قال (لا يشرب أحدكم الدواء يوم الخميس، فقيل:يا أمير المؤمنين ولم ذاك؟ قال: لئلا يضعف عن إتيان الجمعة)([28]) وروي عن النبي (9) قوله (من استأجر أجيراً فلا يحبسه عن الجمعة فيأثم، وإن لم يحبسه اشتركا في الأجر)([29]).

  ويظهر من الفقهاء (قدس الله أرواحهم) اعترافهم بدلالة الكتاب والسُنة على الوجوب التعييني ولكنهم برروا القول بالتخيير بوجود الإجماعات المنقولة على حرمتها زمن الغيبة، والجمع بينهما يقضي بالتخيير بينها وبين الظهر.

  أقول: هذه الإجماعات لا يعتَّدٌ بها لأنها مُخالِفةُ لحكم قطعي ثابت في الكتاب والسنة، وهي باعترافهم منقولة ليست حجة، ولو تمت فإنه إجماع مدركي منشأه بعض الروايات التي يمكن توجيهها، أو عدم إقامة الأئمة (D) لها وهو إشكال سيأتي جوابه بإذن الله تعالى، وقد فصّلنا الكلام في البحث الفقهي الاستدلالي عن وجوب صلاة الجمعة تعييناً([30]).

  وقال صاحب الحدائق (+): ((فالمستفاد من الآية المذكورة الأمر بالسعي إلى صلاة الجمعة لكل واحد من المؤمنين متى تحقق الأذان لها أو دخول وقته وحيث أن الأصل عدم التقييد بشرط يلزم عموم الوجوب بالنسبة إلى زمان الغيبة والحضور))([31]).

  نعم قد يقال: إن صلاة الجمعة إذا كانت واجبة تعييناً فلماذا لم يقمها الأئمة المعصومون (D)؟ فإذن هي إما واجبة على نحو التخيير بينها وبين صلاة الظهر أو إن إقامتها مشروطة بوجود سلطة شرعية مبسوطة اليد، وهي لم تكن متحققة للأئمة المعصومين (D) بعد الإمام الحسن المجتبى (A).

  وجوابه واضح مما تقدم في صحيحة زرارة بأن وجوب إقامتها مشروط بعدم الخوف، وقد كان الأئمة (D) يعيشون في ظل حصار قاسٍ وملاحقة شرسة من الطواغيت الذين يعتبرون أنفسهم سلطة شرعية وإن إقامة الجمعة من وظائفهم، ومن نازعهم فيها فهو بنظرهم خارجي يستحق القتل، وقد انتهت حياتهم (D) فعلاً بالشهادة، أما غيرهم ممن لا يخافون الضرر فتجب عليهم، ففي صحيحة زرارة قال (حثنا أبو عبد الله (A) على صلاة الجمعة حتى ظننت أنه يريد ان نأتيه، فقلت: نغدو عليك؟ فقال: لا، إنما عنيت عندكم)([32])، فعدم إقامتها لا لقصور مقتضي دليل الوجوب التعييني كما فهم المشهور وإنما لوجود المانع، وقد صحّح الإمام بنفسه هذا الوهم لدى بعض أصحابه وحثّهم على إقامتها في الأمصار التي لا تعاني من رقابة السلطة، ففي موثقة عبد الملك قال (قال ابو جعفر (A): مثلك يهلك ولم يصلِّ فريضة فرضها الله، قلت: كيف أصنع؟ قال: صلّوا جماعة يعني صلاة الجمعة)([33]).

  ولذا لم يقمها رسول الله (9) في مكة قبل الهجرة لأنه كان في حال الاستضعاف والخوف، لكن المسلمين من أهل يثرب الذين بايعوا النبي (9) في العقبة أقاموها والنبي (J) لم يهاجر الى المدينة بعدُ بإمامة أسعد بن زرارة وصلّى بهم يومئذٍ ركعتين وذكّرهم([34]).

 ورُوي([35]) عن أبن عباس وابي مسعود الانصاري: أنه أُذن للنبي (J) بصلاة الجمعة في مكة قبل أن يهاجر ولم يستطع أن يجمع بمكة، فكتب الى مصعب بن عمير -الذي بعثه النبي (9الى المدينة قبله للتبليغ والدعوة-أن يقيمها في المدينة فكان أول من أقام الجمعة بالمدينة قبل أن يقدمها رسول الله (9).

  ولأهمية حفظ المؤمنين من الضرر فقد لوحظ هذا الشرط حتى في صلاة الجماعة يوم الجمعة خشية أن ينقل خبر عنهم إلى الظلمة بأن لهم جمعة غير جمعة السلطة، ففي موثقة ابن بكير (سألت أبا عبد الله (A) عن قوم في قرية ليس لهم من يجمع بهم الصلاة أيصلّون الظهر يوم الجمعة في جماعة؟ قال: نعم إذا لم يخافوا)([36]).

  أما تعليق الوجوب التعييني على حضور الإمام المعصوم (A) وعدمه في الغيبة فمما لم يتم عليه دليل كما فصّلنا في البحث الفقهي، وهو لا يناسب الاهتمام العظيم للشارع المقدس بإقامة صلاة الجمعة والعقوبة الشديدة لتاركها من غير عذر، والمصالح الدنيوية والأخروية المترتبة عليها، فهي رمز وحدة المسلمين وتآلفهم وقوّتهم وعزّتهم ومنعتهم، وباجتماعهم للجمعة تتوثق الأواصر بينهم وتكون باباً لمشاريع الخير والتعاون بينهم، لذا لم تشرع في المدينة الواحدة إلا صلاة جمعة واحدة، وفي خطبتيها زادٌ فكري ومعنوي يحصلون عليه أسبوعياً، ويتعرّفون من خلالها على حل مشاكلهم والمواقف المطلوبة إزاء مختلف القضايا والتحديات التي تواجههم، حيث جعل الأئمة (D) من حق المسلمين على إمام الجمعة (أن يعلمهم من أمره ونهيه ما فيه الصلاح والفساد)([37]) وروي عن الإمام الرضا (A) قوله:(إنما جعلت الخطبة يوم الجمعة لأن الجمعة مشهد عام فأراد أن يكون للأمير سبب إلى موعظتهم وترغيبهم في الطاعة وترهيبهم من المعصية، وتوقيفهم على ما أراد من مصلحة دينهم ودنياهم، ويخبرهم بما ورد عليهم من الآفاق من الأهوال التي لهم فيها المضرة والمنفعة، ولا يكون الصابر في الصلاة منفصلاً وليس بفاعل غيره ممن يؤم الناس في غير يوم الجمعة، وإنما جعلت خطبتين ليكون واحدة للثناء على الله والتمجيد والتقديس لله عز وجل، والأخرى للحوائج والأعذار والإنذار والدعاء، ولما يريد أن يعلمهم من أمره ونهيه ما فيه الصلاح والفساد)([38]).

  ولا يمكن تصوّر أن وجوبها مقتصر على عدة سنوات من حكم رسول الله (9) وخلافة أمير المؤمنين والحسن (صلوات الله عليهما) ، ولا يوجد ما يصلح لتقييد إطلاق صحيحة زرارة المتقدمة التي حدّدت المعذورين، وما استدل به من الروايات على هذا الشرط غير تام وغاية ما يفهم منه أن إقامة صلاة الجمعة من الواجبات الاجتماعية -بحسب مصطلحنا- التي يكـون أمرهـا بيـد الإمام المعصوم (A) عند حضوره ونائبه الخاص أو العام أي الفقيه الجامع للشرائط ، وعليه تحمل كلمات فقهائنا (رضوان الله تعالى عليهم اجمعين) قال المحقق الحلي (+):((السلطان العادل أو نائبه شرط وجوب الجمعة وهو قول علمائنا))([39])، وقال المحقق الكركي (+):((يشترط لوجوب الجمعة السلطان العادل وهو الإمام أو نائبه عموماً أو في الجمعة بإجماعنا))([40])،

 فلا يجوز لأحد غير الفقيه المتصدي للأمور العامة بعنوان المرجعية العامة أو ولي الأمر ونحوهما إقامتها إلا بإذنه، شأنها في ذلك شأن إقامة الحدود والقضاء بين الناس والجهاد، وقد دلت على هذا عدة روايات كقوله في دعائم الإسلام روينا عن علي (A) أنه قال: لا يصلح الحكم ولا الحدود ولا الجمعة إلا للإمام أو من يقيمه الإمام)([41]) والمروي عن كتاب الأشعثيات (إن الجمعة والحكومة لإمام المسلمين)([42])، وكذا روي عنهم (D):(لنا الخمس ولنا الأنفال ولنا الجمعة ولنا صفو المال)([43]) والنبوي المشهور (أربع إلى الولاة الفئ والحدود والصدقات والجمعة)([44])، وفي رسالة الفاضل ابن عصفور روى مرسلاً عنهم (D) (ان الجمعة لنا والجماعة لشيعتنا) ([45])

  وفي الصحيفة السجادية المعلوم أنها من السجاد (A) في دعاء يوم الجمعة وثاني العيدين (اللهم إن هذا المقام مقام لخلفائك وأصفيائك ومواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بهـا قـد ابتزوها وأنت المقدر لذلك- إلى أن قال- حتى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتزين يرون حكمك مبدلاً- إلى أن قال- اللهم العن أعداءهم من الأولين والآخرين ومن رضي لفعالهم وأشياعهم لعناً وبيلا).

  ولذا ورد في خبر عبد الله بن ذبيان([46]) عن أبي جعفر الباقر (A) قال:(يا عبد الله ما من يـوم عيـد للمسلمين أضحى ولا فطر إلا وهو يجدد الله لآل محمد D فيه حزناً، قال: قلت: ولم؟ قال: إنهـم يـرون حقهم في أيدي غيرهم)([47]).

 



([1]) راجع ما قاله السيد الخوئي (قدس سره) في ذلك ومناقشتنا له في فقه الخلاف: 2/ 241.

([2]) روى الطبرسي في (مجمع البيان :10/7) أن النبي (9) أقام الجمعة في اليوم الخامس من وصوله قبا قبل دخوله المدينة، والسورة نزلت بعد الهجرة بسنوات لقرائن ذكرناها في فقه الخلاف، وأورد في مجمع البيان بعض خطبة النبي (J) في اول صلاة جمعة.

([3]) بحار الأنوار: 89/211 نقلاً عن شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.

([4]) وسائل الشيعة: 7/ 302، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 1، ح 28، ط. مؤسسة أهل البيت (D)، ورواه الشهيد الثاني في رسالة الجمعة، الدر المنثور: 6/318، سنن ابن ماجة 1/433 باب فرض الجمعة.

([5]) وسائل الشيعة: 7/305 أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 2 ح7.

([6]) وسائل الشيعة: 7 / 353 أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 31 ح 1.

([7]) مجمع البيان :10/8، الدر المنثور: 8/165

([8]) البرهان: 9/300 ح 15، 10

([9]) مجمع البيان :10/9

([10]) نهج البلاغة: ج4، ص 37

([11]) حكى المحقق صاحب الحدائق (قدس سره) عن الشيخ محمد تقي المجلسي والد صاحب البحار (قدس الله روحيهما) قوله في رسالة الجمعة (فصار مجموع الأخبار الدالة على الوجوب مئتي حديث، والذي يدل على الوجوب بصريحه من الصحاح والحسان والموثقات وغيرهما، أربعون حديثاً، والذي يدل بظاهره على الوجوب خمسون حديثاً، والذي يدل على المشروعية في الجملة تسعون حديثاً، والذي يدل بعمومه على وجوب الجمعة وفضلها عشرون حديثاً، والذي يدل بصريحه على وجوب الجمعة إلى يوم القيامة حديثان، والذي يدل بظاهره على عدم اشتراط الإذن ستة عشر حديثاً). وضعّف صاحب الجواهر (قد) دلالة هذه الاحاديث على الوجوب العيني (جواهر الكلام :11/174).

([12]) وسائل الشيعة: 7 / 295، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 1 ح 1.

([13]) وسائل الشيعة: 7 / 304، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 2 ح 4.

([14]) وسائل الشيعة: 7 / 299، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 1 ح 8، 12.

([15]) وسائل الشيعة: 7، 310 أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 6 ح 8

([16]) مستدرك الوسائل: 6/ 91

([17]) كنز العمال: الحديث 21085، والردغ: الماء والطين والوحل الشديد.

([18]) وسائل الشيعة: 7 / 347 أبواب صلاة الجمعة وآدابها باب 27 ح 1.

([19]) التهذيب: 3/237، وسائل الشيعة: 7/ 300، نفس الأبواب، باب 2، ح 7.

([20]) وسائل الشيعة: 7 / 320 أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 8 ح 13، 19.

([21]) وسائل الشيعة: 7 / 297 أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 1 ح 7.

([22]) وسائل الشيعة: 7 / 298 أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 1 ح 9.

([23]) وسائل الشيعة: 7 / 339 أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 19 ح 2.

([24]) وسائل الشيعة: 7/ 340 أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 21 ح .1

([25]) وسائل الشيعة: 7 / 297 أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 1 ح 8.

([26])  كنز العمال: ٦، ٧١٥ ح ١٧٥٤٠

([27]) نهج البلاغة: 3/143، وسائل الشيعة: 7/407 باب 52 ح 6 وفيه عن الصحاح: نَصَل الحافر: خرج عن موضعه

([28]) وسائل الشيعة: 7، 353 أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 31 ح 2

([29])  مستدرك الوسائل: ج6، ص 7

([30]) فقه الخلاف: 2/233 - 326.

([31]) الحدائق الناضرة: 9/ 399.

([32]) وسائل الشيعة: 7 / 309 أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 5 ح 1.

([33]) وسائل الشيعة: 7 / 310 أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 5 ح 2.

([34]) الدر المنثور :8/159، مجمع البيان :10/7

([35]) الدر المنثور :8/159، مجمع البيان :10/7

([36]) وسائل الشيعة: 7 / 310، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 12 ح 1.

([37]) وسائل الشيعة: 5/40 . المصدر من ط مؤسسة أهل البيت.

([38]) وسائل الشيعة: 7/ 344، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب 25، ح 6.

([39]) المعتبر في شرح المختصر: 2/ 279، جواهر الكلام: 11/ 153.

([40]) جامع المقاصد: 2/ 371، جواهر الكلام: 11/ 154.

([41]) من لا يحضره الفقيه: ج1 / ٤١٣

([42]) من لا يحضره الفقيه: ج1 / ٤١٣

([43]) وسائل الشيعة: ج ٩  ٥٣٢

([44]) منتهى المطلب (ط.ق) : ج ١  ٣١٧

([45]) من لا يحضره الفقيه : ج1 / ٤١٣، جواهر الكلام: 11 / 158

([46]) بحسب التهذيب، وفي الكافي (دينار)، وفي الفقيه (سنان).

([47]) وسائل الشيعة: 7/ 475، كتاب الصلاة، أبواب صلاة العيد، باب 31، ح 1.