القبس/195 {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} التوبة: 128
القبس/195 {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} التوبة: 128
ذكرت الآية 128 من سورة التوبة عدة أوصاف وملكات للنبي (J)، قال تعالى {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة:128) وهي صفات يجب ان يتحلى بها كل أولياء الأمور ابتداءاً من رب الأسرة إلى رئيس الدولة تأسياً بالنبي (J) بحسب ما حثت عليه الآية الكريمة {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} (الأحزاب:21).
ومحل الكلام وصفه (J) بأنه {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} ويُعَّرف الحرص لغةً بأنه أعلى درجات الرغبة المفرطة الشديدة مقرونة بالعمل من أجل جلب نفع أو دفع ضر.
وهو بذاته لا يوصف بمدح أو ذم الا بحسب متعلقه، فقد يكون مذموماً كالحرص على الدنيا، قال تعالى {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} (البقرة:96)، وروى الشيخ الكليني (u) في الكافي عن رسول الله (J) قوله (من علامات الشقاء جمود العين وقسوة القلب وشدة الحرص في طلب الدنيا، والإصرار على الذنب)([1])، وقد يكون محموداً، وصفة كمال كما في الآية محل البحث، فتعريف الراغب في المفردات بأنه ((فرط الشره وفرط الإرادة)) إن أراد به المذموم خاصة كما يظهر منه فهو قاصر، لأن حكمه يتبع متعلقه مدحاً وذمّاً.
وقد يطلق الحرص في الأحاديث الشريفة الذامّة له بلا ذكر المتعلق ويراد به ما كان متعلقه مذموماً لأنه الغالب في الناس كقول رسول الله (J) (الحريص محروم، وهو مع حرمانه مذموم في أي شيء كان، وكيف لا يكون محروماً وقد فرَّ من وثاق الله)([2]) وقول أمير المؤمنين (A) (الحرص ذميم المغبّة)([3]) وقوله (A) (الحرص ذل وعناء)([4]) وقوله (A) (الحريص عبد المطامع)([5]).
وقد أخبر الله تبارك وتعالى عن رسوخ هذه الصفة السيئة لدى الإنسان الا من عصمه الله تعالى {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا* وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} (المعارج :19- 21) وقال تعالى {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} (النساء:128).
وبالرجوع إلى الآية الكريمة، فإنّ من صفات النبي (J) أنه حريص عليكم جميعاً أيها الناس ولا تختص بالمؤمنين برسالته أكثر من حرص الأم على أولادها، ولم يذكر المتعلق للدلالة على العموم، فهو يجتهد في هدايتكم وإصلاحكم وسعادتكم، ويتفانى في جلب نفع الدنيا والآخرة لكم ودفع الضرر عنكم، وكل ما يصدر منه (J) يؤدي إلى هذا الغرض وإن لم يستطيعوا فهمه أحياناً.
ولعل الغرض من وجود الآية في سورة التوبة التي تتحدث عن غزوة تبوك وما رافقها من عناء ومشقة وجهد وبلاء هو لتثبيت إيمانهم بالقيادة النبوية المباركة، وانَّ كل ما يأمر النبي (J) به وينهى عنه إنما هو نابع من هذه الصفات المباركة، فلا يتوهّموا أن تكليفهم بالأفعال الشاقة كالجهاد وإنفاق المال في تلك الغزوة الشاقة العسيرة يعبّر عن عدم اهتمام واكتراث بهم.
ولم يدّخر (J) جهداً في ذلك إلى درجة أنه (J) أشرف على الهلاك من شدة الجهد النفسي والبدني والتأسف لعدم استطاعته هداية كل الناس وهي لعمري أعلى درجات الحرص عليهم، فأشفق الله تبارك وتعالى عليه وخاطبه بقوله عزَّ من قائل {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} (الكهف:6) وقوله تعالى {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (الشعراء:3) والبخع قتل النفس غمّاً، فحثّه الله تبارك وتعالى على أن لا يهلك نفسه حزناً وأسفاً وليدعهم وما يختارون {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (البقرة:256) {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} (الأنفال:42).
روى البخاري بسنده عن أنس قال: أنَّ غلامًا يهوديًّا كان يخدُمُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم فمرِض فأتاه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم يعُودُه فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم: (أسلِمْ) فنظَر إلى أبيه وهو جالسٌ عندَ رأسِه فقال له أطِعْ أبا القاسمِ قال: فأسلَم قال: فخرَج النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم مِن عندِه وهو يقولُ: (الحمدُ للهِ الَّذي أنقَذه مِن النَّارِ)([6])، وبقدر هذا الشكر الصادر من أعماق قلبه الشريف، كان الأسف لو أفلتت منه نفس إلى النار.
ورغم كل هذا الجهد كانت النتيجة كما ذكرها الله تعالى بقوله {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف:103) فالتقصير ليس من جهة النبي (J) لأنه عمل بأعلى درجات الحرص، الا أنهم لم يكونوا موفقين في خياراتهم بسبب اتباعهم الشهوات والاهواء، وطاعتهم للشياطين الذين يخدعونهم بأمور زائفة زائلة، وينسونهم الحياة الآخرة الباقية، فيكلهم الله تبارك وتعالى إلى ما اختاروا {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} (النحل:37) فالحرص على هدايتهم لا يكفي ما لم يقترن بإرادة حقيقية منهم للتغيّر نحو الأحسن.
إن الحرص على الناس صفة عظيمة تستحق التركيز عليها وبيانها وتعبئة الأمة للاتصاف بها، وكلما ازدادت دائرة الحريصين على مصالح الأمة ونفع العباد وهدايتهم إلى ما يصلح أحوالهم في الدنيا والآخرة فان المجتمع يكون بخير، كما أن فقدان هذه الصفة هو الذي يفسّر الأحوال السيئة التي تعيشها الأمة مع وفرة الإمكانات المادية والبشرية التي منَّ الله تعالى بها عليها، وذلك لأنها ابتليت بتسلط شرذمة متجردة من هذه الصفة النبوية المباركة.
إن خير من يجسّد هذه الصفة اليوم هو إمامنا المهدي الموعود (صلوات الله عليه) فانه أولى الناس باتباع جده المصطفى (J)، وهذا ما يزيد الموالين اطمئناناً وسكينةً بأنهم في رعاية أحرص الناس عليهم، ولو لم تكن في انتظاره (A) وترقب ظهوره الا هذه الفائدة لكفى، وقد عبَّر عن ذلك في رسالته إلى الشيخ المفيد (رحمه الله تعالى) بقوله (أنا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء أو اصطلمكم الأعداء فاتقوا الله جل جلاله وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم يهلك فيها من حم أجله ويحمى عنها من أدرك أمله)([7]).
فعلينا أن نربّي أنفسنا على هذه الصفة الحميدة، وأخص بالذكر الحوزة العلمية والمؤمنين الرساليين فهم أولى الناس بالتأسي برسول الله (J) وآله الكرام، روى أحد السادة الفضلاء أنه اعتاد أن يروي لأسرته بعض قصص الذين تشرفوا بلقاء الإمام المهدي (A) والمعجزات التي جرت على يديه الشريفتين من التي ذكرها الميرزا النوري (رضوان الله تعالى عليه) في كتابه (النجم الثاقب) وغيره، وكان يلمس تأثيرها الروحي على المتلقين، فانقدحت في ذهنه فكرة أن يدوِّن مجموعة منها في كرّاس وجعل له عنوان (رسالة شفاء) ويوزّعه على المرضى المصابين بأمراض مستعصية عجز الأطباء عن معالجتها، وقام بهذه الجولات، وكانت المفاجأة: ان مئات من هؤلاء شفوا ببركة تعلّقهم بإمامهم الحريص عليهم، وما بعثه فيهم من الأمل والاطمئنان والسمو الروحي عند اطلاعهم على هذه الرسالة، وكانوا ينهمكون بقراءتها ساعات يذهلون فيها عن أنفسهم وعمّا حولهم، بحيث كان الأطباء يتعجبّون من حصول هذا التغيّر غير الطبيعي في حالتهم.
فما الذي دفع هذا السيد الفاضل إلى القيام بهذا العمل المضني والمكلِّف غير هذه الخصلة الكريمة التي تعلّمها من القرآن الكريم وسيرة النبي العظيم (J) ولا تجدها عند غير من تربى في هذه المدرسة الشريفة.
إنّ الناس حينما يجدون هذه الصفة في الواعظ والمبلِّغ والمربّي والمعلم والمسؤول فأنهم ينقادون اليه ويأخذون منه، لأنهم يجدونه صادقاً في جلب الخير لهم وتحقيق مصالحهم وهدايتهم إلى سعادة الدنيا والآخرة لوجه الله من دون ان ينتظر منهم {جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} (الإنسان:9).
لذا فإن لهذه الصفة أهميتها في نجاح الدعوة إلى الله تبارك وتعالى لرسوخ قناعة الناس بحاملها، وأما فقدانها فإنه يكون منفّراً من صاحبها، واذا كان ذا عنوان ديني فالنفور يكون من الدين نفسه.
([1]) الكافي: 2/290
([2]) بحار الأنوار: 73/165 ح 26
([3])و4و5 - غرر الحكم: رقم 430، 691، 625
([6]) صحيح البخاري: كتاب الجنائز/ باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه وهل يعرض على الصبي الإسلام/ ح 1290.
([7]) الاحتجاج: 2 / 323