القبس/186 {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا}البقرة: 109 - سبب عداء الكفار للمسلمين
قال الله تبارك وتعالى {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة:109).
الوُدّ: الميل إلى الشيء ومحبته وتمني وقوعه والحصول عليه، فالتمني يتضمن معنى الود لأن التمني هو تشهّي حصول ما تودّه ـ قاله الراغب ـ وقيل في الفرق بين الحب والود أن الأول أشدّ وأصدق من الثاني فالآية الكريمة تخبر المؤمنين بحقيقة لا يمكنهم التعرف عليها الا بإخبار الله سبحانه، لأنها مرتبطة بمكنونات الضمير وما انعقد عليه القلب، وهي أن الأعداء يتمنون ويرغبون بشكل أكيد أن تتخلّوا عن إسلامكم وتعودوا إلى جاهليتكم بما تتضمن من كفر وشرك وفسق وفجور وانحراف وظلم وجور وانحطاط وتجرد عن الفطرة والمبادئ الإنسانية.
وقد أكّدت آيات أخر هذه الحقيقة لأهمية الالتفات إليها والحذر منها قال تعالى {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (آل عمران:69) ، وقال تعالى {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} (النساء:89) وقال تعالى {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (القلم:9) وقال تعالى {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (البقرة:120).
كما حذرت الآيات الكريمة من الانخداع بالعناوين البراقة التي يغلّفون بها مشروعهم هذا كالمدنية والانفتاح والتحرر والتقدم والتحضّر ونحو ذلك، وليس لهم هدف الا إبعادكم عن هذا الدين العظيم {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (المائدة:49) {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} (الأعراف:27)، وهكذا يفعل شياطين الإنس فأنهم يسعون لإخراج الناس من جنة الإيمان وينزعون عنهم لباس الورع والتقوى والعفاف والفضيلة، ويظهروا عورات الفسق والفجور والرذيلة والانحطاط والفساد، حتى وصل بهم الحال إلى سن قوانين للشذوذ الجنسي وزواج المثلييّن وتغيير الجنس وقتل الأجنة.
ورغبتهم هذه ليست الا تمنّياً بعيد المنال عبّر عنه ب {لَوْ} فهو وهم باطل يتخيّلونه، فأن الله تعالى قد تكفّل بحفظ هذا الدين وجماعة المؤمنين، وليس هذا التمني ناشئاً من جهلهم بالحق الذي أنتم عليه {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (النمل:14)، ولا عن تصديق واعتقاد بحقانية ما هم عليه، بل هم يعرفون أن الحق معكم ويتمنون أن يكونوا من أهله {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} (الحجر:2)، ولو كانوا مؤمنين وأهل كتاب حقاً لما ودّوا رجوعكم إلى الجاهلية والشرك والكفر ولكانوا قريبين منكم لأنكم من أهل التوحيد، ولكنهم يفعلون ذلك حسداً من عند أنفسهم، وخوفاً على دنياهم التي حصلوا عليها ظلماً قال تعالى {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (النساء:54).
روي في أسباب النزول: أن حيي بن أخطب وأخاه أبا ياسر دخلا على النبي (J) حين قدم المدينة، فلما خرجا قيل لحيي: أهو نبي؟ فقال: هو هو، فقيل: ما له عندك، قال: العداوة والبغضاء إلى الموت، وهو الذي نقض العهد وأثار الحرب يوم الأحزاب([1]).
والحاسد يعرف قيمة النعمة التي عند المحسود ولذلك فأنه يحسده ويتمنى أن تكون هذه النعمة له، قال تعالى {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} (الحجر:2) ولكنه لضعف ارادته وانصياعه لشهوته يعجز عن نيل تلك النعمة فيتمنى حرمان المحسود منها، قال تعالى {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (البقرة:105).
فسبب عدائهم لكم وسعيهم لتجريدكم من الإسلام لأنهم يعرفون الحق الذي أنتم عليه {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} ويعلمون أي جوهرة ثمينة بأيديكم فيريدون سلبها منكم {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} (النساء:54)، روي في الحديث الشريف عن النبي (J) أنه قال (إن لنعم الله أعداء، قيل: وما أولئك؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله)([2])، وأعظم هذه النعم هي الإسلام وولاية أهل البيت (D).
وهم بذلك يتبعون إبليس الذي حسد آدم (A)، لثباته على طاعة ربّه بينما طُرد هو منها فلذلك أقسم على إغواء بنيه وإضلالهم ليتساووا معه في اللعن والطرد.
وهذا يفسّر لنا المساعي المحمومة التي يقوم بها شياطين الإنس من الفسقة والمنحرفين والملحدين وعبدة الشهوات للتأثير على الناس وإبعادهم عن الحق تحت مسميات عديدة، والا لو كانوا مجرد أنهم يتبنون عقيدة أو أيديولوجية ما فليعتقدوا ما يشاؤون ويتركوا الناس تعمل بقناعاتها، لكن حسدهم للحق وأهله لا يدعهم حتى يرجعوا الناس إلى الكفر.
وإنصافاً من القرآن الكريم فأنه لم يعمم إلى الجميع وإنما قال {كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} وفي الآية الأخرى {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} (آل عمران:69) لأن من هؤلاء من لا يسعى إلى التأثير على غيره، وربما يكون مسالماً للمؤمنين {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} (المائدة:82).
ثم تذكر الآية العلاج المرحلي لهذه الحالة {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} باحتوائهم واستيعابهم، والتعرف على ما عندهم من شبهات وما يفكرون به، واعطائهم الفرصة الكافية ليثوبوا إلى رشدهم ويذعنوا للحق، فربما يكون هذا العفو والصفح وحسن الخلق في التعامل معهم سبباً لهداية بعضهم وهذا انتصار كبير.
لكن هذا العلاج مؤقت {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} وقد أمر الله تعالى بمدافعتهم {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة:251)، ومواجهتهم بمثل أساليبهم فتُفَّند حججُهم، وتُدحَض شبهاتهم وضلالاتهم، وتُكشَف معايبُهم وتُفضَح سرائرُهم، وتبيَّن خططهم، وتُحذَّر الأمةُ من مكائدهم، وتسدَّ الثغرات التي يحدثونها في المجتمع المسلم، وتصان عناصر القوة في الأمة وهي الإسلام وولاية أهل البيت (D)، والقضية المهدوية والمرجعية النائبة عن الإمام (A)، ووحدة الأمة وعزتها وهويتها، والشعائر الدينية، والأسرة الصالحة، والعفاف وسائر الأخلاق الاجتماعية الفاضلة، والثروة البشرية خصوصاً الشباب وغير ذلك، فلابد من عدم السماح بإضعاف هذه القوى أو تشويهها أو حرمان الناس منها وغير ذلك.
فالأعداء إذن لا يتوقفون عن الكيد لكم حتى يخضعوكم لسلطتهم ويذوّبوا هويتكم وثقافتكم وفق رؤيتهم مما يُعرف بالعولمة، ويستعبدوكم بعد تجريدكم عن أسلحتكم المادية والمعنوية التي ذكرنا بعضها آنفاً {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} (النساء:102)، فلهذه الآية معنى واسع يجب الالتفات إليه إذ عنوان الأسلحة شامل لكل العناوين التي ذكرناها وغيرها،
{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} حقيقة كبرى يجب على المؤمنين أن يذعنوا لها ويسلّموا بها ويستحضروها، ليثبِّتوا إيمانهم ويعزّزوا قدراتهم، ويحيوا آمالهم بالنصر والتمكين بإذن الله تعالى، وليعلموا ان الله تعالى قادر على أن ينصر المؤمنين وأن يبيد أعدائهم بأقرب من لمح البصر {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس:82) ولكن ارادته سبحانه شاءت أن تسير الأمور بأسبابها الطبيعية وبحسب استحقاقات الناس.
ورد في تفسير العسكري للآية {لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} بما يوردونه عليكم من الشبهة {حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} لكم بأن أكرمكم بمحمد وعلي وآلهما الطيبين {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} المعجزات الدالات على صدق محمد (J) وفضل علي (A) وآلهما {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} عن جهلهم وقابلوهم بحجج الله وادفعوا بها باطلهم {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} فيهم {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ولقدرته على الأشياء قدَّر ما هو أصلح لكم في تعبّده إياكم من مداراتهم ومقابلتهم بالجدال بالتي هي أحسن)([3]).
والخلاصة أن الآية الكريمة تدعو إلى الانتباه والحذر من الخطط الشيطانية للأعداء التي تستهدف إبعادكم عن الدين وان تتسلحوا بما يثبّت هذا الدين في قلوبكم وبما يمكنكم من مواجهة هذه الخطط ويحبطها بحول الله تعالى وقوته.