المرجع اليعقوبي: احذر خدع الشيطان من أول خطوة
بسمه تعالى
المرجع اليعقوبي: احذر خدع الشيطان من أول خطوة
الأربعاء غرة شهر شوال المكرم ١٤٤٥
الموافق ١٠/٤/٢٠٢٤
أقام سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) صلاة عيد الفطر المبارك بمكتبه في النجف الاشرف وألقى سماحتُهُ خطبتي صلاة العيد في جمع من المؤمنين وكانت قبس من نور الآية ٢١ من سورة النور المباركة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور : 21]
وأكد سماحتُهُ خلال الخطبتين أن النداء الإلهي إلى المؤمنين خاصة وأن كان موجهاً إلى جميع الناس فإنه يستبطن نكتة مهمة، وهي أن المؤمنين ليسوا بمأمن من الوقوع في شراك الشيطان وعليهم أن يحذروا من الانخداع بخطواته والإنسياق وراء وساوسه التي تكون خفية جدا فيكون مصيره إلى الخسران المبين.
وبين سماحتُهُ أن المؤمن الصالح لا يسقطه في الفساد والانحراف مباشرة إنما عبر خطوات تبدأ مثلا من مصاحبة الفاسدين والاختلاط معهم والاستماع إلى أحاديثهم والتأثر بها، ثم تشوش الأفكار في ذهنه وحصول القناعة ببعض ما يقولون، ثم التفكير داخل النفس بمجاراتهم في أفعالهم خصوصاً المشتبهة فإنها ميدان الشيطان الرحب، وإيجاد المبررات لفعله وإسكات ضميره، ثم الوقوع في الذنوب والمعاصي الصغيرة ومنعه من التوبة واسترضاء الخصوم حفظاً لشأنيته ووضعه الاجتماعي، ثم السقوط في الكبائر والعياذ بالله تعالى، لذا فإن الشيطان الخبيث لا يطمع في إيقاعهم بالمعاصي مباشرة وإنما يغويهم عبر خطوات قد لا تظهر من الخطوة الأولى للعاقبة السيئة التي سيوصلهم إليها.
وأشار سماحتُهُ إلى التحذير الإلهي الوارد في الآية الكريمة جاء في جوانب متنوعة من حياة الإنسان كما في الآيات المتقدمة حيث اقترن التحذير مرة بالأمر بالدخول في السلم لأن اتباع الشيطان يؤدي إلى الاضطراب والفوضى والنزاع {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة: 91] وأخرى بأكل الطيبات دون الخبائث وأخرى بحليّة المكاسب، وهذا يعني ان خطوات الشيطان يمكن أن تكون في جميع الاتجاهات العقائدية بإلقاء الشبهات والشكوك والفتن.
أو السياسية بجعل أوضاع للحكم بديلة عن حكم الله تعالى وسنّ الدساتير وقوانين مخالفة لشريعة الله تعالى.
أو الاجتماعية بتزيين تقاليد وأعراف منافية للدين والحياء والعفة كالذي يحصل في الأعراس او حفلات التخرج أو الدكات العشائرية والثأر والانتقام.
أو الأخلاقية بابتداع المهرجانات الفنية والرياضية المنحرفة وأمثالها التي تحطّم مقدسات الإنسان ومبادئه الفطرية.
أو الاقتصادية بتشريع أنظمة تؤلّه المال وتربّي روح الأنانية والاستئثار والتمدد على حساب عامة الناس فيحرقون المنتجات الزراعية واللحوم أو يلقونها في البحر للمحافظة على الأسعار.
أو السلوكية كتشجيع المثلية والشذوذ الجنسي والإجهاض وتغيير الجنس والإباحية حتى للأطفال تحت عنوان الحرية وأمثالها وغير ذلك.
كما لفت سماحتُهُ إلى ان خطوات الشيطان ومكائده التي يمكن أن تكون فردية على صعيد الأشخاص أو اجتماعية قد تنطلق من من أمر مباح لا يدعو إلى الشك والريبة، أو من أمر ديني يبدوا راجحاً لكنها تنتهي بالعاقبة الوخيمة بحيث تكون مآلاتها إلى أن يصبح المجتمع أو الفرد منقاداً له (للشيطان)، فيوسوس له ويريه ويجعل الفحشاء والمنكر والظلم والفساد أمراً اعتيادية مألوفاً ويعتبر من يعترض عليها ويسعى لتطهير المجتمع منها شاذاً متخلفاً متجاوزاً على حقوق الإنسان وحرية الناس، ومن تلك الأساليب التي يتخذها الشيطان هي صد المؤمنين عن الصلاة لأنها تشكل عقدة كبير له ولانها { تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } وإذا فشل في ذلك فإنه يعمل على إفراغها من محتواها حتى تصبح عديمة التأثير في حياة الإنسان ولا تنهاه عن الفحشاء والمنكر، وغني عن الإشارة إن من أفضل تلك المنكرات هو الإعراض عن دين الله تبارك وتعالى وطاعة نبيه (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام) لأنهم السلم الذي أمرنا الله بالدخول فيه وهم الكهف الحصين الذي يأوي إليه من يريد النجاة من مكائد الشيطان.
وفي ذات سياق تفسير الآية الكريمة أكدّ سماحتُهُ على ضرورة أن لا يُعجب الإنسان بعمله ولا يثق بقدراته على الصمود والثبات وليتوكل على الله تبارك وتعالى ويستعين به ويطلب منه التثبيت وعدم سلب الإيمان {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
ولفت سماحتُهُ إلى أن الإنسان قد يتوهم في أن صلاحه وتمسّكه بدينه واتباعه سبيل الحق والهدى قد حصل عليه من تلقاء نفسه وبقدراته الخارقة {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 49] وإنما حازه بتأييد الله تعالى وألطافه الظاهرة والخفية ابتداءً من بعث الأنبياء والرسل وإنزال الكتب وجهود العلماء والمبلّغين إلى تحبيب الإيمان في قلبه {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7] وتيسير أسباب الهداية وتذليل الصعوبات وإزالة الموانع وتزويده بالأدوات التي تعينه على الطاعة كالعمل والصحة والمال والبيئة المناسبة وغير ذلك كثير (ما أفشى فينا نعمتك، وأسبغ علينا منّتك، وأخصّنا ببرك، هديتنا لدينك الذي اصطفيت، وملّتك التي ارتضيت، وسبيلك الذي سهّلت، وبصّرتنا الزلفة لديك، والوصول إلى كرامتك)[1].
لأن الله تبارك وتعالى يزكي من يشاء برحمته ولطفه وكرمه فحينما يبدي الاستعداد لذلك سيأخذ بمقدار قابليته واستعداداته إذ أن رحمته تعالى متاحة للجميع
وفي نهاية خطبته الثانية ذكر سماحته آية أخرى كمثال على خطوات الشيطان بعد ان نقل تهديد إبليس {لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 118] شرح كيفية ذلك {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} [النساء: 119].
فالخطوة الأولى هي {لَأُضِلَّنَّهُمْ} بأن يقعد لهم في طريق الحق والإيمان والعمل الصالح {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16] فيعمل على تشويش أفكارهم وإلقاء الشبهات والشكوك وتحريف المعاني فيصبح الإيمان بالله تعالى ورسله والآخرة خرافة، والالتزام بتعاليم الدين تخلفاً ورجعية، والإلحاد وتبرّج المرأة تحضراً، والزنا واللواط حرية وميلاً طبيعياً، والتفسّخ الأخلاقي فنّاً، والحجاب قيداً وحرماناً للمرأة، وقتل المؤمنين الأبرياء وتفجير الأماكن المقدسة والمدارس جهاداً، والتحاسد والتخاصم منافسة شريفة، والحماقة والشيطنة فطنة وشجاعة، وتضييع العمر في العبث واللهو متعة ولذة، والرياء والعجب نية صالحة للأعمال، والانتقام والتشفي غضباً لله ودينه، وهكذا حتى يتيهوا ويضلّوا عن الطريق الصحيح ويصبح الحرام حلالاً.
ثم تأتي الخطوة الثانية {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} فيلقي في قلوب العاصين والفاسدين والمنحرفين الأماني الكاذبة والوعود وتزيين الأعمال الباطلة، وإذا استيقظ ضميره وأنّبه أماته بوعود التوبة في نهاية العمر فيحق عليهم قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3].
روى الشيخ الصدوق في أماليه بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (لما نزلت هذه الآية {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135] صعد إبليس جبلاً بمكة يقال له ثور، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه. فقالوا: يا سيدنا، لِمَ دعوتنا؟ قال: نزلت هذه الآية، فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين، فقال: أنا لها بكذا وكذا. قال: لست لها. فقام آخر فقال مثل ذلك، فقال: لست لها. فقال الوسواس الخناس: أنا لها. قال: بماذا؟ قال: أعدهم وأمنّيهم حتى يواقعوا الخطيئة، فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار، فقال: أنت لها، فوكله بها إلى يوم القيامة)[2].
ثم تأتي المرحلة الثالثة {وَلَآمُرَنَّهُمْ} [النساء: 119] حيث يصبحون أداة طيِّعة بيد الشيطان يوجههم حيث يشاء وكيف يشاء، وحينئذٍ يصبح ولياً للشيطان لأنه قبل بطاعته واتباعه {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً} [النساء: 119]، ومن أمثلتها {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119] وهو ما يُروّجون له اليوم بحماس منقطع النظير من تغيير الجنس والمثلية والشذوذ وأمثاله من الخروج عن الإنسانية الكريمة التي جعلها الله تعالى في أحسن تقويم وأودع كل مبادئها وتعاليمها في هذا الدين الحنيف {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].
[1] - الصحيفة السجادية: ص 186، الدعاء (45) في وداع شهر رمضان.
[2] - أمالي الصدوق: ص 376، ح 5، تفسير البرهان: ج 2، ص 274.