خطاب المرحلة (693)الثبات على الحق في زمان الفتن

| |عدد القراءات : 89
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

الثبات على الحق في زمان الفتن([1])

روى الشيخ الصدوق (رضوان الله تعالى عليه) في إكمال الدين بسنده عن عبدالله بن سنان قال: (قال أبو عبدالله (A): ستصيبكم شبهة فتبقون بلا علم يرى ولا إمام هدى، لا ينجو منها إلا من دعا بدعاء الغريق، قلت: وكيف دعاء الغريق؟ قال: تقول: يا الله يا رحمان يا رحيم، يا مقلّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك، فقلت: يا مقلب القلوب والأبصار ثبِّت قلبي على دينك، فقال: إن الله عزّوجل مقلِّب القلوب والأبصار ولكن قل كما أقول: يا مقلِّبُ القلوب ثبِّت قلبي على دينك)([2]).

يرسل الإمام الصادق (A) إلى شيعته في زمان الغيبة الكبرى هذه الرسالة ليُعِدَّهم ويدلّهم على طريق النجاة من الفتن التي ستعصف بهم، ولا يوجد بينهم إمام معصوم يرجعون إليه، وان وجدت علومهم (D) عبر الروايات التي نقلها أصحابهم البررة الا أنها اختلطت بالمكذوبة والمدسوسة والمحرّفة، واختلفت فيها الأنظار والاجتهادات والتأويلات، فأصبح تمييز الحق فيها ومعرفته صعباً، لا يهتدي إليه الا من بلغ أسنى المراتب العلمية، وحباه الله تعالى بنور البصيرة والفطنة، وجعل له فرقاناً يفرز الحق من الباطل والشبهات والضلالات.

وتفيد الرواية وغيرها ان الشبهات والفتن واقعة حتماً، وتزداد تعقيداً وصعوبةً كلما تقدم الزمان، واستحدثت وسائل شيطانية لم تكن معروفة من قبل حتى بلغت ذروتها في زماننا الحاضر وهي تنذر بالمزيد من التسافل والانحطاط، فهذا واقع مفروض وإنما الكلام في الخطوة التالية وهي كيفية مواجهة تلك الفتن والخروج منها بسلام.

وقد علّمنا الإمام (A) من خلال الدعاء هذه الكيفية، اذ الدعاء في مدرسة أهل البيت (D) ليس مجرد كلمات يحرّك الإنسان بها لسانه، وإن كان في ذلك ثواب لمن قرأها، وإنما يمثِّل مدرسة تنهل منها الإنسانية العقائد الحقة والعلوم والمعارف النافعة والأخلاق الفاضلة، حيث كان الدعاء وسيلتهم لتزويد الأمة بها بعد أن ضيّق الطغاة عليهم الخناق.

والدعاء ليس مجرد طلب من الله تعالى بدون عمل، فمن طلب الرزق وجلس في بيته يلعب ويعبث يعدُّ ساخراً من نفسه، والمفروض أن يسعى ويتعرض للرزق، وكما قيل: خطوة من الرب وخطوة من العبد، فالإمام (A) لما يعلّم هذا الدعاء يريد معه عملاً، ولما تقول في الدعاء (ثبت قلبي) لابد ان تسعى انت لتحصيل أسباب الثبات وموجباته.

 فدعاء الغريق يبيّن أن النجاة من الفتن والشبهات تتحقق في الثبات على المبادئ الدينية التي تؤخذ من العين الصافية، وعدم الانجرار وراء الشعارات والادعاءات، فانها تُرفع للوصول إلى المآرب الدنيوية، فإذا حصل أصحابها على ما يبتغون داسوا تلك الشعارات بأقدامهم، لذا ورد في رواية أخرى وكأنها تشرح هذه حين سأله الراوي (فكيف نصنع جُعِلتَ فداك حينئذٍ؟ قال (A): اذا كان ذلك فتمسّكوا بما في أيديكم حتى يصَّح لكم الأمر)([3])، أي لا تخوضوا مع الخائضين ولا تندفعوا تحت ضغط السلوك الجمعي ولا تتحركوا وفق الاهواء والامزجة والتعصبات، وانما عليكم التثبّت من أي أمر.

وذلك بالتمسك بسفن النجاة التي تخلّصكم من أمواج الفتن العاتية وبدونها، فأنكم تغرقون في تلك الأمواج وتخسرون الدنيا والآخرة، قال أمير المؤمنين (A): (أيها الناس شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة)([4]).

وسفن النجاة التي تتمسكون بها، والعين الصافية التي تأخذون منها مواقفكم إزاء مختلف القضايا، هم المعصومون (D) في زمان الحضور، ونوابهم بالحق في زمان الغيبة، وهم مراجع الدين العاملون المخلصون العارفون بحقائق الأمور ولوابس الزمان، فاثبتوا على ما يرشدوكم إليه، ولا تزيغوا عنه طرف أنملة فأنه يؤدي إلى الهلاك، وأضرب لكم مثالاً مما يفعله بعض المغامرين حيث يربطون حبلاً بين قمتي جبلين أو بين برجين شاهقين من ناطحات السحاب ويعبرون عليه مشياً، فلابد أن يحافظوا على اتزانهم بأقصى دقة, لأن أي ميلان يعني وقوعهم في وادٍ سحيق وتحطمهم، ولتحقيق ذلك يستعينون بعصا طويلة يمسكونها من وسطها يحفظون بها توازنهم، ونحن بحاجة إلى دقة أكبر من هذه للثبات على الحق، لأن الصراط المستقيم الذي يعبر على وادي جهنم للوصول إلى الجنة وصفته الأحاديث بأنه (أدق من الشعرة وأحدّ من السيف)([5]) فمن لا يحفظ استقامته عليه يسقط في جهنم والعياذ بالله تعالى.

فيا أيها الأحبة: لا تخدعكم الشعارات الرنانة والمصطلحات الخادعة، ولا يدفعكم الحماس والتهريج والسلوك الجمعي إلى فعلٍ لم تتبين لكم الحجة الشرعية، كما قال الإمام (A) في الحديث السابق (حتى يصَّح لكم الأمر) فأن الله تعالى قال: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} (يونس: 32).

وفي الرواية فائدة أخرى غير ما ذكرنا وهي النهي عن إضافة شيء إلى الدين سواءً على مستوى الدعاء أو الزيارة أو الشعائر، فأن الراوي أضاف كلمة (الأبصار) وهي حق لأن الله تعالى مقلب القلوب والأبصار كما في قوله تعالى: {يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (النور: 37) الا ان الإمام (A) نهاه عن إضافتها حيث لم يقلها (A) في الدعاء، واذا كانت مثل هذه الإضافة منهياً عنها وهي في نفسها حق، فكيف بمن يصطنع قصصاً وروايات عن أهل البيت (D) ومصائبهم لأجل تعظيم مناقب أهل البيت (^) بزعمهم أو ابكاء الناس أو يبتدع طقوساً ويسميها شعائر، أو يصوغ زيارة من عنده أو يشيّد قبوراً لم تثبت نسبتها إلى أصحابها بحجة شرعية وهكذا، فلنحذر من هذه الأفعال المنهي عنها.

 



([1]) من حديث سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من أساتذة وطلبة السادس الثانوي في دورات التقوية التي يقيمها مركز المُدرِّس في كربلاء المقدسة يوم الاثنين 23/ محرّم الحرام 1444هـ- الموافق 22/8/2022م.

([2]) بحار الأنوار: 52/149/ح73.

([3]) بحار الأنوار: 52/133/ح37.

([4]) الغيبة - النعماني: 1/١٥٩/ح4.

([5]) بحار الأنوار: 8/ 65/ح2.