خطاب المرحلة (685)في ذكرى هدم قبور الائمة المعصومين (ع) في بقيع المدينة

| |عدد القراءات : 109
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

في ذكرى هدم قبور الائمة المعصومين (D) في بقيع المدينة([1])

‏‏زيارة قبور الأحبة والصالحين والعظماء الذين كان لهم أثر واضح في بناء الحضارة الإنسانية ‏أمر فطري جرت عليه سيرة العقلاء من جميع الأمم، ‏وقد أقرّ الشارع المقدّس هذا السلوك الإنساني وحث على زيارة قبور الأقرباء وعموم المؤمنين والصالحين ‏لأن في ذلك براً بهم وإحياءً لذكرهم ووفاء لحقهم وإدخالاً للسرور عليهم حيث أفادت الأحاديث الشريفة أن الميت يأنس بزيارة الحي له, فعن محمّد بن مسلم قال: (قلت لأبي عبد الله الصادق (A): نزور الموتى؟ فقال (A): نعم، قلت: فيسمعون بنا إذا أتيناهم؟ قال (A): إي والله ليعلمون بكم ويفرحون بكم ويستأنسون إليكم)([2]).

‏وقد كان النبي (9) يزور موتى البقيع ويدعو لهم بالمغفرة, فعن صفوان الجمال قال: (سمعت أبا عبد الله (A) يقول: كان رسول الله (9) يخرج في ملأ من الناس في أصحابه كل عشية خميس الى بقيع المدنيين فيقول: السلام عليكم يا أهل الديار ثلاثا رحمكم الله ثلاثا)([3]), والمنقول أن السيدة فاطمة الزهراء (B) أوصت أمير المؤمنين (A) عندما دنت منها الوفاة أن (تعاهد قبري بالزيارة), وورد عن أبي عبد الله، عن آبائه (D) قال: (إن فاطمة (÷) لما احتضرت أوصت عليا (A) ومما قالت: وأنزلني قبري، وألحدني وسو التراب عليّ واجلس عند رأسي قبالة وجهي فأكثر من تلاوة القرآن والدعاء، فإنها ساعة يحتاج الميت فيها إلى انس الاحياء...)([4]).

‏وأوردت الأحاديث الشريفة ‏عمل عدة مستحبات عند الزيارة ‏أبرزها ‏تلاوة القرآن، ‏كما ذكرت عدة آثار مباركة لهذه الزيارة ومنها تحصيل الأجر والثواب واستجابة الدعاء([5]).

ويتأكد استحباب زيارة مراقد ‏أنبياء الله العظام والأئمة المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) واوليائه الصالحين لما في ذلك من إظهار لعظمة منزلتهم وإبراز لمودتهم وإدامه لذكرهم واستلهام مواقفهم النبيلة ‏واخلاقهم الفاضلة وسيرتهم الحسنة، ‏ولما فيه أيضاً من نصرة الدين وإعزاز المؤمنين لذا كانت زيارة مرقد النبي(9) وآله الأطهار (‏صلوات الله عليهم أجمعين) ‏من شعائر الله التي قال الله تعالى فيها: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج: 32), ‏وفيها استجابة لقوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (الشورى: 23).

‏لذا اهتم المسلمون بوضع أبنية وقباب ‏وشواخص على هذه البقاع الشريفة لتكون معلماً للقاصدين ومهوى لأفئدة المحبين، وقد انتشرت هذه المراقد في جميع بلاد المسلمين ولم يستنكر أحد ‏من علمائهم ذلك فتحقق اجماعهم على حسن هذا العمل، ‏وقد فسرّت ‏الأحاديث الشريفة قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (النور: 36), ‏أنها (بيوت ‏الأنبياء وبيت علي وفاطمة من افضلها)([6]), ‏وهي جارية في مراقدهم المقدسة أيضا لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون. فتكريمهم وهم تحت الثرى كتكريمهم وهم أحياء مضافاً الى ما دلّ على أن حرمة المؤمن ميتاً كحرمته حياً والاعتداء عليه ميتاً كالعدوان عليه حياً ([7]).

 ‏لكن بعض الذين في قلوبهم مرض لم يكن يروق لهم حضور هذه الشعائر والمشاعر في قلوب الأمة لأنها تستنهض الهمم لمواجهة الباطل والانحراف وتستثير الوعي وتعيد للأمة عزّتها وبصيرتها.

‏فعملوا على هدم تلك المراقد المشرفة ومحو آثارها سعياً منهم لطمس هذه المعالم للإسلام المحمدي الاصيل كما ينقل التاريخ عن فعل المتوكل العباسي بقبر الامام الحسين (A)([8]).

‏وفي مثل هذا اليوم الثامن من شوال عام 1344هـ - 1926م, ‏أصدر قاضي قضاة الوهابيين ‏في نجد والحجاز فتواه بهدم القبور الشاخصة في بقيع المدينة وغيره ‏فهدّمت القباب السامية على مراقد الائمة الأربعة الأطهار (صلوات الله عليهم اجمعين) ‏فهاج العالم الإسلامي([9]), وخرج في تظاهرات واحتجاجات ‏حاشدة وأقاموا المحافل والمآتم حزناً ‏واحتجاجاً, لأنه بلغهم أن الهدم ‏سيطال مرقد النبي الاكرم (9) ‏مما اضطر السلطات هناك إلى عدم التطاول عليه.

‏وكان خطيب هذه المحافل في النجف الاشرف والمدن الأخرى جدي المرحوم الشيخ محمد علي اليعقوبي (رحمه الله) ‏وألقى فيها مقطوعته الرقيقة ‏التي انتشرت في الأوساط الدينية والأدبية خصوصاً البيت الأول الذي يردده الخطباء إلى الآن، ‏قال فيها:

أثامنَ شوالٍ بعثت لنا الأسى

 

كأنك من شهر المحرم عاشرُ

أطلَّت على الإسلام فيك ملمَّةٌ

 

ودارت على الدين الحنيف دوائر

إذا مرّ يوما بالمسامع ذكرها

 

تكاد له وجداً تُشق المرائر
 

مصابٌ بكى البيت الحرامُ لوقعه

 

ومادت له أركانه والمشاعر

أيهنأ عيشُ ام تطيب موارد
       

 

ويرتاح قلب ام تقر نواظر
 

واجداث آل المصطفى وقبورهم
     

 

دوارس يال المسلمين دوائر
 

ألم تُرع فيهم للمهيمن حرمةُ
      

 

ألم تحفظ القربى بهم والأواصر

شعائر قدسٍ حاول القوم محوها

 

أما عُظمت لله تلك الشعائر

تعفت فلم يُعرف ثراها ولم يُطق
    

 

دنواً لقبر المصطفى الطهر زائر
 

وما كان فعل الأولين وما جنوا
       

 

بأعظم مما قد جنته الأواخر
 

وهيهات أن يُنسى (البقيع) وما جنى
    

 

به (القوم)حتى يحشر الخلق حاشر([10])

   ثم وفق (رحمه الله تعالى) لأداء فريضة الحج عام 1362هـ - 1943م ‏ووقف في طريق عودته على قبور أئمة البقيع (^), فعبّر عن آلامه وأحزانه في مقطوعة شعرية أخرى موجودة في نفس المصدر قال في آخرها:

وهبْ منعوا كفّيَّ عن لمس تُربها

 

فهل منعوا قلبي عن الحب والود؟([11])

نأمل أن تحلّ الذكرى المئوية لهذه الحادثة المفجعة في العام المقبل وقد استجابت السلطات الحاكمة هناك لمطالب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بالإذن لهم لبناء هذه المراقد المشرفة خصوصاً وإن هذه السلطات قد نأت بنفسها مؤخراً عن مذهب الوهابية وتبرأت من مخالفاتها لعقائد الإسلام فعليهم أن يحترموا مشاعر المسلمين وان خالفوهم في الرأي، ‏وعلى المسلمين تكثيف مطالباتهم ‏وعرض قضيتهم على المحافل الدولية المختصة والله ولي التوفيق.

 



([1]) كلمة تحدث بها سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) في مجلس بحثه الفقهي يوم 8/شوال/ 1443هـ- الموافق10/5/2022م.

([2]) بحار الأنوار: العلامة المجلسي: 99/300.

([3]) وسائل الشيعة: 3/224/ باب 55/ ح3.

([4]) بحار الانوار :82/ 27, مستدرك الوسائل:339:2.

([5]) أنظر: وسائل الشيعة: 3/225/ باب56, استحباب التسليم على اهل القور والترحم عليهم.

([6]) راجع ‏مجموعة روايات في تفسير البرهان: 7/55, وما بعدها.

([7]) في حديث العلا بن سيابة عن ابي عبد الله (A) الى ان قال: (قال رسول الله (9) حرمة المسلم ميتاً كحرمته وهو حي سواء). وسائل الشيعة: 29/329/ ح6.

([8]) مقاتل الطالبيين: 203-204.

8- لقد نظم كثير من الشعراء هذه الجريمة منهم العلامة السيد صدر الدين الصدر (قدس سره)

لعـمري إنّ فاجعة البقيـع

 

يُشيبُ لهولها فؤاد الرضيع

وسوف تكون فاتحة الرزايا
 

 

إذا لم يُصحَ من هذا الهجوع
  

أما من مسلمٍ لله يرعى

 

حقوق نبيّه الهادي الشفيع

 

([10]) ديوان الذخائر: 96.

([11]) ديوان الذخائر: 97.