خطاب المرحلة (633)(أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) مسؤوليتنا عن إقامة الدين ووحدة الأمة

| |عدد القراءات : 92
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

(أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى:13)

مسؤوليتنا عن إقامة الدين ووحدة الأمة ([1])

قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ) (الشورى:13).

الشرع كمصدر ــ هو نهج الطريق الواضح البيّن، وأطلق كإسم على المنهج الإلهي، والشارع هو الطريق الواضح وشريعة الماء: المكان السهل على جرف النهر لاستقاء الماء، وفي الآية دلالات عديدة:

1- ان أصحاب الشرائع والأديان هم هؤلاء الخمسة لأن الآية في سياق كونها جامعة لهم ولم تذكر غيرهم وهؤلاء هم اولو العزم وقد ورد هذا التحديد في آيات أُخر، كقوله تعالى (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا) (الأحزاب:7)، ولازم ذلك عدم وجود شريعة بمعنى الاحكام والقوانين التي تنظّم حياة البشر وترفع اختلافاتهم قبل النبي نوح (A) وهو معنى تفيده الآية الكريمة (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ) (البقرة:213).

2- ان الدين الذي أنزله الله تعالى إليكم ــ وهو الإسلام ــ والأديان التي سبقته مصدرها واحد وهو الله تبارك وتعالى وهي الحقيقة التي افتتحت السورة بها، قال تعالى (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الشورى:3) وأكدّتها آيات أخر كقوله تعالى (مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ) (فصلت:43).

وفي ذلك لمسة روحية رقيقة تثبّت قلوب المؤمنين وتطمئنهم خصوصاً العاملين الرساليين منهم الذين يتعرضون لضغوط اجتماعية ونفسية عظيمة بسبب حملهم رسالة الإصلاح فيحتاجون إلى تسلية ودعم معنوي كما يقال فتأتي هذه الآية وامثالها لتقول لهم: انكم لستم وحدكم على هذا الطريق الإلهي الواضح بل أنتم حلقة في سلسلة طويلة من كرام الخلق وسادتهم عبر التاريخ كالمعنى الذي تكشف عنه زيارة الامام الحسين (A) المعروفة ب ((وارث)) حيث تجتمع لديه وراثة جميع الأنبياء والمرسلين فيزيدهم ذلك ثباتاً وسروراً بما وفقهم الله تعالى إليه.

3- وعلى غرار وحدة المصدر فانها تؤكد على وحدة الصادر أي مضمون هذه الرسالات بأنه واحد وان تنوعت بلحاظ الاجمال والتفصيل لكن ما تدعوهم اليه دين واحد وان تعدّدت الشرائع والطرق الواضحة البيّنة الموصلة إليه قال تعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة:48) فأراد الله تعالى بهذا التنوع في الشرائع ليختبر طاعتكم وامتثالكم وعدم تحيّزكم وتحزبكم لشريعتكم السابقة، والدنيا دار الامتحان والاختبار وهذا التنوع في الشرائع ضرورة لتواكب ما يطرأ على البشرية من تغيرات حتى جاء بالشريعة الكاملة الخاتمة فكون الشريعة الإسلامية خاصة بالمسلمين وفق الآية الآنفة لا ينافي جامعيتها، والمطلوب منكم الالتزام بالطاعة والتسليم واستباق الخيرات. وفي ذلك حجة على أهل الكتاب ورفض لمواقفهم العدوانية تجاه الإسلام لأنها لا مبرر لها بعد أن ثبت ان هذه الأديان كلها من مصدر واحد وبمحتوى واحد وعليهم جميعاً أن يدخلوا في هذا الدين لأنه جامع لكل الأديان السابقة وقيّم عليها (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (التوبة:36).

4- تلّخص الآية ما تدعو اليه تلك الشرائع على محورين: إقامة الدين الواحد واتحاد الأمة على أساسه وعدم التفرق فيه (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المؤمنون:52) فعلى جميع المؤمنين بالله تعالى أن يلتزموا بهاتين الغايتين العظيمتين وان يبذلوا جهودهم في سبيل تحقيقهما والتعبير بـ (وصيّنا) يشعر بهذا الاهتمام إذ لا يوصى الا بالشيء المهم، لأن الوصية لغة ((التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترناً بوعظ)) قال تعالى (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الجاثية:18) وقد عبّر تعالى عن الدين بالأمر لأن الدين هو الطاعة أي طاعة الأوامر والتشريعات الإلهية، ولعل التعبير عن شريعة النبي (9) بـ (أوحينا) وعن شريعة الأنبياء الآخرين بالوصيّة ((ان المراد بما أوحى إليه ما اختصت به شريعته من المعارف والاحكام، وإنما عبَّر عن ذلك بالايحاء دون التوصية، لأن التوصية كما تقدم إنما تتعلق من الأمور بما يهتم به ويعتني بشأنه خاصة وهو أهم العقائد والاعمال، وشريعته (9) جامعة لكل ما جلَّ ودقّ محتوية على الأهم وغيره بخلاف شرائع غيره فقد كانت محدودة بما هو الأهم المناسب لحال أممهم والموافق لمبلغ استعدادهم))([2]).

فعلينا إذن واجبان عظيمان ورسالتان يجب ان نؤديهما هما خلاصة كل الأديان والشرائع:

1- إقامة الدين والمنهج الإلهي في الحياة بكل تفاصيلها، عباداتها ومعاملاتها وإقامة الشيء تعني توفيته حقه علماً وعملاً، فإقامة الدين تتحقق بأن يتحول الدين إلى نظام شاخص في حياتنا تكون له الهيمنة والقيمومة على كل القوانين والتشريعات والأعراف والأنظمة وكل ما خالف الدين منها فهو عصيان لهذا الأمر الإلهي، وإن إقامة الدين لابد أن تكون على أساس الشريعة الحاضرة الفعلية لا الشرائع السابقة ((فإن إقامة الدين في كل دور هي إقامة طاعة الله في أمره الحاضر في شرعته الحاضرة، فالتصلّب على الغابرة عصيان للأمر وتضييع للدين))([3]).

(إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) (آل عمران:19) لأن الدين أصول وفروع ومنظومة كاملة من العقائد والأخلاق والتشريعات العبادية وضوابط المعاملات لا تتحقق إقامة الدين الا بإقامتها ([4]) معاً.

2- وحدة الأمة وعدم التفرق تحت أي عنوان كان كالطائفة والقومية والوطن والأيدلوجية والانتماء العشائري أو الحزبي أو الاجتماعي أو الفئوي أو أي سبب كان فان التفرق من علامات الجاهلية وان أهم علامة لإقامة الدين اجتماعكم ووحدتكم لأنه ينظّم حياتكم بتوازن وعدالة ويسعدكم فتفرقكم وتنازعكم يعني عدم إقامتكم الدين، قال تعالى (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) (آل عمران:103) وتفرقكم يفرح الكفّار ويدعوهم إلى التمسك بضلالهم لأنهم يرونكم متفرقين مثلهم (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (الروم:32) والتفرق يحصل نتيجة اتباع الاهواء والشهوات والابتعاد عن الدين وتزيين المضلّين والمنحرفين، وفي الحديث عن الامام الرضا (A) عن آبائه عن النبي (9) (وما على ديني من استعمل القياس في ديني)([5]) لأن استعمال القياس يعني ادخال الرأي البشري والأهواء في الدين وهو ليس منه.

والمطلوب في ضوء ما ذكرناه في الغاية الأولى وحدة البشرية جميعاً على الدين العالمي الخاتم الكامل فالتفرق في الدين الى يهود ونصارى ومسلمين فضلاً عن غيرها من الديانات والملل غير التوحيدية هي خروج عن سنة الله تعالى وفطرته التي أراد لخلقه السير عليها.

فالأديان الإلهية وإن اتفقت على أصل التوحيد الا أن هذا لابد أن يكتمل باجتماعهم على دين التوحيد أيضاً وليس فقط أصل التوحيد أي الشريعة الخاتمة أيضاً لأنها الطريق الواضح البيّن الى الله تبارك وتعالى بعد نزولها، فاللام هنا في الدين عهدية أي هذا الدين الذي شرع لكم، وان ما اختصوا به من احكام ثبت نسخه وارتفاعه.

وقد خاطب القرآن الكريم جميع المنتمين للرسالات السماوية بأن ادعاءهم هذا لا قيمة له اذا لم يقيموا الدين في حياتهم (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ) (المائدة:68) وبالتأكيد سوف لا يذعن الأعداء والحسّاد والمنتفعون لهذا الأمر ولا يقفون مكتوفي الأيدي بل سيعملون بكل ما في وسعهم لمنع تحقيق هذين الهدفين ( كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) أي عظم على الأعداء وتحرجوا من قبول ما تدعوهم ــ يا رسول الله ــ اليه من دين التوحيد ومن وحدة المعبود لأنهم يريدون آلهة متعددة لكل عشيرة إله ولكل حزب إله ولكل قوم إله وفي الروايات أنه كان حول البيت الحرام (360) صنماً يتاجرون بها ويخدعون السذّج والجهلة وتجلب لهم المصالح والامتيازات (أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) (ص:5).

وكبر عليهم ما تدعون اليه من الوحدة والوئام في ظل هذا الدين الواحد لأنهم تعودّوا أن يكونوا أحزاباً متفرقين متصارعين (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (الروم:32).

وكبر عليهم من قبل نزول الوحي عليك واختيارك للنبوة والرسالة مع وجود من هو أكثر مالاً واولاداً منك فهو أجدر بنزول الوحي بحسب زعمهم (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (الزخرف:31).

وكبر عليهم ما تقوله من أنَّ آباءهم واسلافهم كانوا على ضلال وان عاقبتهم سيئة فتعصّبوا لآبائهم.

كما كبر على أهل الكتاب خصوصاً اليهود أن يبعث نبي آخر الزمان من بني إسماعيل وليس من بني إسرائيل (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ) (البقرة:89).

ولكن الله تعالى يجيبهم جميعاً في نهاية الآية الكريمة بأن هذا اختيار إلهي ليس خاضعاً لأهواءكم ومقاساتكم (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ) وهو سبحانه من اختار النبي الأكرم محمداً (9) (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (الأنعام:124) واختار دينه الإسلام (وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) (المائدة:3) ولكن لا يذعن بهذه الحقيقة الا من رجع الى الله تعالى بصدق وطلب منه الهدى والاستقامة (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ) (الشورى:13).

ويمكن أن يكون معناها بناء على وحدة مرجع الضمير في (اليه) في المواضع الثلاثة وهو دين التوحيد ان الله تعالى ((يجمع ويجتلب الى دين التوحيد ــ وهو ما تدعوهم اليه ــ من يشاء من عباده ويهدي إليه من يرجع اليه فيكون في معنى قوله (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) (الحج:78) ))([6].

أيها الأحبّة

هذه هي مسؤوليتنا التي نسعى بكل طاقتنا الى ان نتشرف بالتصدي لها وحملها اسوة بالأنبياء العظام والأئمة الكرام (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) فهي وصية الله تعالى ورسالتهم جميعاً: إقامة الدين في جميع مفاصل الحياة وتوحيد الأمة على ذلك لا تثنينا عن ذلك سعة التحديات وخطورة العوائق وصعوبة المشاكل، وأن لا يثبط عزائمنا وساوس شياطين الانس والجن ولا نحرف مسارنا مثل ما فعلت أحبار وكهنة الديانات السابقة عندما مالوا إلى الدنيا فاضطروا لتقديم التنازلات حفاظاً على مصالحهم واستمالة لاتباعهم، فلا يحقّ لنا أن ننزل بالدين إلى مستوى الناس وإنما يجب علينا أن نرتقي بالناس إلى مستوى الدين واذا لم يستجيبوا فعلينا أن نضاعف الجهود ونخلص النوايا ونتجرد عن الانانيات وننوِّع آليات العمل من دون أن نتنازل عما وصى به الله تعالى أنبيائه العظام.



([1]) الخطبة الأولى لصلاة عيد الأضحى المبارك عام 1441 الموافق 31/7/2020 م

([2]) الميزان في تفسير القرآن:18/28

([3]) الفرقان في تفسير القرآن:25/217

([4]) لاحظ رواية السيد عبد العظيم الحسني عندما عرض دينه بين يدي الامام الهادي (A) فأنه أتى على الأصول والفروع فقال له الامام (A) (يا أبا القاسم هذا والله دين الله الذي ارتضاه لعباده فاثبت عليه ثبّتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) (مستدرك الوسائل:12/283).

([5]) وسائل الشيعة:27/45

([6]) الميزان في تفسير القرآن:18/30