{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} - مصاحبة الصالحين تحمي من الوقوع في الفتن
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الكهف: 28]
مصاحبة الصالحين تحمي من الوقوع في الفتن[1]
قال الله تبارك وتعالى:
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
أي احبس نفسك ووطّنها على مصاحبة الصالحين وملازمة مجالسهم، وهم الذين صدقوا مع الله وأخلصوا نياتهم لله تعالى، وكرّسوا أنفسهم لما يحب ويرضى، فقّربهم وتقرَّب إليهم، واستمع إلى مشاكلهم، واقضِ حوائجهم ودارهم، وتحمّلهم إن ضاقت نفسك بمواساتهم، وتحمل معاناتهم ومقاطعة المجتمع لك بسببهم، فإنهم انقطعوا إلى الله تعالى وكرّسوا حياتهم بكل تفاصيلها لله، واستوعبوا رسالة الإسلام عقيدة وفكراً و سلوكاً، فهم القوة الحقيقية للدين ويعوَّل عليهم في مواجهة الأخطار والفتن، وإن كانوا لا يملأون العين لخلو أيديهم من مظاهر الترف وزينة الدنيا.
ولعل في التعبير بالغداة والعشي كنايةً عن ذكرهم المستمر لله تعالى واستيعاب الوقت فيه، قال تعالى {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر : 55] وقال تعالى {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران : 41] وحضور الهدف لديهم وهو طلب رضا الله تعالى في كل تفاصيل حياتهم: عبادتهم وعملهم وعلاقاتهم الاجتماعية وأحاديثهم وحركتهم، ويراد أيضاً بالغداة والعشي جمعهم في أوقات الصلاة روي عن الإمامين الباقر والصادق (C) في تفسير هذه الآية قالا: (إنما عنى بها الصلاة) ([2]).
ورفعت الآية من منزلتهم حينما وصفتهم بأنهم يريدون وجهه أي مخلصين لله تعالى لا يريدون جزاءً ولا شكوراً.
{وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ولا تُعرض بوجهك عنهم وتبتعد عن مصاحبتهم، مجاملة للأغنياء والمترفين والمستكبرين واللاهين العابثين الذين يستنكفون من مجالسة هؤلاء المستضعفين، و طمعاً في إصابة شيء من دنياهم أو لتحظى بمكانة عندهم، فالآية الكريمة لا تدعو إلى مقاطعة المترفين وعدم إيصال صوت الحق إليهم، لأن الإسلام دين الرحمة والهداية لكل الناس {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، و لا إلى عدم الاستفادة من إمكانياتهم لنصرة الدين وتحسين أوضاع المحرومين، ولكن مع الفطنة والحذر من مكائدهم وشيطنتهم، و تنهى عن مجاملتهم والانسياق وراء رغباتهم على حساب الحق طمعاً في الدنيا.
ولا يبرّر إبعاد المؤمنين حتى لو كان الهدف كسب المترفين وهدايتهم حيث عدّت آية سورة الأنعام من يفعل ذلك من الظالمين، قال تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52].
روي في سبب نزول الآية أن مشركي قريش عرضوا على النبي (J) أن يبعد عنه أصحابه من الطبقة الاجتماعية المتدنية بحسب نظرتهم كعمار وبلال وخبّاب حتى يجلسوا إليه ويسمعوا منه وأنهم ما يمنعهم منه إلا وجود هؤلاء حوله {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ } [عبس: 1 - 12].
والأمر بالصبر يكشف عن تعرض النبي (J) لضغط من قبل المترفين لإبعاد الفقراء والمستضعفين، وكانت خديعة منهم لتفريق شمله وتوهين منزلته لدى أصحابه لما في ذلك من الإهانة والتحقير لهم.
وقد وقع مثل ذلك في المدينة بعد فتح مكة من بعض الوجهاء الذين اضطروا للدخول في الإسلام، فقد روى علي بن إبراهيم في تفسيره قال: (فهذه نزلت في سلمان الفارسي كان عليه كساء فيه يكون طعامه وهو دثاره ورداؤه وكان كساء من صوف فدخل عيينة بن حصن على النبي صلى الله عليه وآله وسلمان عنده، فتأذى عيينة بريح كساء سلمان وقد كان عرق فيه وكان يوم شديد الحرّ فعرق في الكساء، فقال: يا رسول الله إذا نحن دخلنا عليك فأخرج هذا واصرفه من عندك فإذا نحن خرجنا فأدخل من شئت فأنزل الله {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا} وهو عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري)([3]).
فجاء الرد من الله تبارك وتعالى حازماً واضحاً في رفض كل هذه العروض، لأن الإسلام رسالة إلهية لإصلاح الإنسان وقلع جذور الجاهلية في نفوس الناس، ومنها هذا الاستعلاء والطبقية.
{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ} واحذر أن تنزلق إلى مطاوعة ما يريدونه منك، أو يخدعك أولئك الذين أعمت الدنيا بصيرتهم وشغلتهم عن معرفة الحقيقة، فقضوا حياتهم في اللهو والعبث والاستمتاع واللامبالاة، وشغلوا فكرهم وقلوبهم بهذه الأمور وغفلوا عن الوصول إلى الغاية، وتحقيق الغرض الذي خُلقوا من أجله وهو السعي نحو الكمال والفوز برضوان الله تعالى، فحرموا من توفيق الله تعالى وتأييده.
{وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} ولم تكن أفعالهم عن حكمة ورُشد وبصيرة بل اتباعاً للأهواء والنزوات والإثارات العاطفية شهوة أو غضباً أو جهلاً أو تعصّباً، فكأنَّ تلك الغفلة سبب لسقوطهم في اتباع الأهواء والشهوات أو نتيجة له أو كل منهما سبب للآخر، فهُم في هذا التسلسل من الانحدار: غفلة ثم اتباع هوى حتى يصلوا إلى قعر الانحطاط.
{وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} أي ضائعاً مشتتاً غير محافظ على الاستقامة، منحرفاً عن الحق ومثله التعبير في سورة مريم {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] وهو الضلال وفقدان الرشد.
إن الآية الكريمة ترشد إلى أدب من آداب القرآن يربّى عليه قادة الإسلام في نظرتهم إلى الناس وكيفية تعاملهم معهم، ويربّي أتباعه أيضاً على هذا الأساس خصوصاً الحوزة العلمية والمتصدين لمواقع المسؤولية والعاملين الرساليين، بأن لا يترفعوا عن عامة الناس وأن لا يضعوا الحواجز بينهم.
وبنفس الوقت تقدم الآية الكريمة هذا العلاج لأكثر من مشكلة:
1- اجتماعية: وهي التمايز الطبقي حيث يُصنَّف أبناء المجتمع الواحد إلى طبقة مستعلية من أهل الثراء والترف وهم قلة، وطبقة متدنيّة لا تملك ما عند أولئك وهم الكثرة، وتُمِّيز الطبقة الأولى نفسها عن الثانية في مجالسها ونمط حياتها في المأكل والملبس وواسطة النقل وسائر شؤونها حيث يعتادون الإسراف والتبذير وبعثرة الأموال على اللهو والعبث، بينما تعيش الطبقة العامة في ضنك من العيش وصعوبة في تدبير احتياجاتها الأساسية، مما يولّد شعوراً بالانتقام من الذين يعتاشون على دمائهم، وقد روي عن أمير المؤمنين (A) قوله :( فَمَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلاَّ بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِي)([4])، ونقل عن بعض النسخ المخطوطة للنهج (بما منع).
وهذه مشكلة معقّدة عانى منها جميع الأنبياء (D) فواجهوا بها نوحاً (A) {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الشعراء: 111 - 115] وواجهوا بها النبي هوداً (A) {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27] وهذا ما جرى عليه فرعون في خطابة لموسى وهارون وقد جاءاه بهيئة الفقراء يدعوانه إلى الإيمان بالله تعالى {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف: 51 - 53] فهم يريدون من الأنبياء والقادة المصلحين الرساليين أن يدُوروا في فلكهم ويحفظوا لهم مصالحهم وزعامتهم، و أن يسكتوا عن مظالمهم واستئثارهم بأموال الناس، وأن يجعلوا من الدين غطاءً يشرعنون به كل هذه الجرائم والانحرافات, ويجلدوا به معارضيهم، مقابل أن يحظوا بالمكانة عندهم ويعدّونهم من طبقتهم، وإلا فسيواجهونهم بشراسة، وهذا التحدي مستمر يواجهه العلماء الربانيون {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ: 34 - 35] فهذه النظرة الاستعلائية وجعل المقياس الأمور الدنيوية موجودة عندهم.
وضمن هذا المنهج الإصلاحي لهذه العقدة الجاهلية يجيء هذا الأمر فإن في الاستجابة لهم تأكيداً لهذه الفوقية التي يتعاملون بها مع بقية الناس مع ما يتطلبه من تقديم تنازلات على حساب العقيدة الحقة والأخلاق السامية والمداهنة {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9].
فجاءت الآية الكريمة بهذا الأمر الإلهي ليردم هذه الفجوة، ويشعر طبقة المستضعفين بأهميتهم ويزرع الثقة بأنفسهم وأنهم الأقرب ما داموا يريدون وجه الله تعالى مع زجر المتعالين حتى يتواضعوا ويحسّوا بمعاناة غيرهم ويواسوهم ويعطوهم حقوقهم.
وقد دأب قادة الإسلام المعصومون (D) على هذا الأدب الإلهي في حياتهم فكانوا - مع جلالة قدرهم وعلوّ مكانتهم التي لا يضاهيها أحد - يجالسون الفقراء والعبيد ويؤاكلونهم ويدعونهم إلى دورهم.
وبذلك وحّد النبي (J) الجميع تحت راية الإسلام وصنع من أعراب الجاهلية خير أمة أخرجت للناس ومنحها القوة والاقتدار لتفتح العالم وتبني أرقى حضارة إنسانية.
لما علم أمير المؤمنين (A) أن واليه على البصرة عثمان بن حنيف دعي إلى مأدبة للأغنياء ورجال الأعمال كما يسمونهم أسرع في إرسال كتاب له جاء فيه (أما بعد يا ابن حنيف فقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قومٍ عائلهم مجفوّ وغنيهم مدعوّ) ([5]).
وتنقل الآيات الكريمة مشهداً في يوم القيامة للمفاجأة المذهلة التي يصدم بها المترفون المتعالون حينما يجدون أنفسهم في الجحيم ويجدون من كانوا يصفونهم بالأراذل في أعالي النعيم {وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} [ص: 62 - 63].
وتصف الآية التالية للآية محل البحث عاقبة هؤلاء وصورتهم الحقيقية في الآخرة بعد أن خدعوا بالصورة الدنيوية المزوّقة، لكن الحقيقة أن ما أكلوا من أموال ناس بالباطل سيصير سوائل مذابة فائقة الحرارة تشوي الوجوه عند تقريبها قبل شربها، {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29] فالمشروبات المثلّجة التي كانوا يتنعّمون بها في الدنيا على حساب المحرومين أصبحت بهذه الصورة لأنهم بترفهم حرقوا قلوب أولئك المحرومين والمستضعفين.
وبالمقابل يتساءل أصحاب الجنة فيما بينهم وهم يرفلون بأنواع النعم التي وصفتها سورة الصافات {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات: 54 - 57] وفي هذا كله تحذير وتنبيه لأهل الغفلة من المترفين.
2- دينية وأخلاقية: وهي مشكلة الضياع والقلق وعدم الاستقرار وسط تجاذبات الفتن فتعالج الآية الكريمة هذه المشكلة لترويض النفس حتى تكون مطمئنة ولتطهير القلب حتى يكون سليماً من الرذائل وتشير الأحاديث الشريفة إلى أن التدبر في سورة الكهف يقي من الفتن ففي مجمع البيان عن أبي بن كعب عن النبي (J) قال: ( من قرأها فهو معصوم ثمانية أيام من كل فتنة، فإن خرج الدجال في تلك الثمانية الأيام عصمه الله من فتنة الدجال) وروي أيضاً عن النبي (J) قال: ( من قرأ الكهف يوم الجمعة فهو معصوم إلى ستة أيام من كل فتنة تكون فإن خرج الدجال عصم منه) ([6]).
فقدّمت السورة عدة عواصم منها ومثبتات على الهدى والاستقامة، منها:
أ- الإخلاص لله تعالى كما في الآية الأخيرة من السورة.
ب- والاهتداء بالقرآن حيث جاء في الآية السابقة {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف: 27].
ج- تحقير الدنيا التي من مساوئها مفارقة الصالحين، والتحذير منها والانخداع بزخارفها التي هي وهمٌ تزول لذّتُه وتبقى تبعته كقوله تعالى في الآية: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45] فإن (حب الدنيا رأس الفتن وأصل المحن) كما ورد عن أمير المؤمنين (A)، وأن (رأس كل خطيئة حب الدنيا) ([7]) كما عن الإمام الصادق (A).
د- ما في هذه الآية فيكون أحد وسائل الإنقاذ من الفتن والثبات على الاستقامة، مصاحبة الصالحين وملازمة مجالسهم خصوصاً إذا كانوا من العلماء الذين يتحفونك بالنصيحة والإرشاد والهداية وتعليم ما ينفعك في دنياك وآخرتك، روى ابن عباس قال (قيل يا رسول الله (J) أي الجلساء خير قال (J): من يذكّركم الله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه، ويرغبكم في الآخرة عمله) ([8]).
والمتأمل في سورة الكهف يجد أنها عرضت أشكالاً من الفتن من خلال قصص أصحابها، فورود الآية ضمن السورة فيه إرشاد لبعض وسائل مواجهتها، وقد ذكرت السورة عدة فتن منها:
1- الفتنة التي عاشها أصحاب الكهف وهي فتنة الدين المزيف الذي يصنعه بعض المتاجرين المتسترين بالدين ويضعون من عندهم طقوس وتعاليم وآلهة تعبد من دون الله تعالى ويستعينون بالدجل والخداع ليصنعوا لهم زعامة على الناس وليتسلّطوا على أموالهم وأعراضهم ويتحالفون مع السلطات الظالمة لترسيخ زعامتهم وفرض نفوذهم واستئصال خصومهم، لكن أصحاب الكهف لم يُغرِهم ترف القصور ولم يرعبهم بطش الطواغيت فوقفوا ونطقوا بالحقيقة الكبرى أمام الناس ليزيلوا الغشاوة عن بصائرهم {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى، وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف: 13- 14]، وهذا القول الشطط هو علامة من كان أمره فرطاً، وفوجئ أصحاب الكهف ببقاء نفس الثقافة لدى الناس رغم مرور مدة طويلة تبلغ ثلاثمائة عام و تحولهم إلى الإيمان ظاهراً.
حيث اختلفوا فمنهم يريد أن يبني عليهم بنياناً كالمعبد لتنشيط السياحة والحركة التجارية ونحوها من أمور الدنيا، وغفلوا عن الاتعاظ بهذه المعجزة الإلهية {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف: 21].
2- فتنة المال من خلال قصة الرجلين الذين رزقهما الله تعالى {جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً} [الكهف: 32] فاغترّ أحدهما وكفر بنعمة الله تعالى وقال: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف: 34]، بل أعتقد إن إقبال الدنيا عليه والحياة المترفة التي يعيشها دليل على أحقيته وجدارته، وهذا الانحراف في الرؤية يحصل داخل الوسط الديني ويرون إن العامل الرسالي الذي يعاني من الضيق والبلاء ويعيش وسط الفقراء والمحرومين ليس بصاحب حق؟ فيستضعفونهم ويحاصرونهم ويقللون من شأنهم وينفرون الناس منهم، و {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 35-36] ولم يستمع إلى وعظ صاحبه فجاءت الضربة القاضية {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف: 42].
3- فتنة العلم من خلال قصة موسى (A) والعبد الصالح {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65] فتواضع موسى (A) وهو الرسول الكريم من أولي العزم لعلم العبد الصالح ولم يغتر بما عنده، وسعى للاستفادة منه.
4- فتنة السلطة من خلال قصة ذي القرنين {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف: 84] فلم يشغله هذا الملك العظيم عن ذكر ربّه ولم ينسبه إلى نفسه، بل يردّد إنه من فضل ربّه والاعتراف بفضله {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} [الكهف: 98] {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف: 95] واستثمر هذه القوة في تحرير المستضعفين الذين لجأوا إليه لتخليصهم من ظلم وطغيان يأجوج ومأجوج فكان مثالاً لهؤلاء المحررين وسيدهم أمير المؤمنين لذا ورد في التفسير إنه (A) (ذو قرني هذه الأمة) ([9]) وكان ميزان ذي القرنين في التعامل: التقوى والعمل الصالح {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف: 88].
فتكفّلت الآية الكريمة ببيان هذا العلاج مع جملة من العلاجات للخروج من الأزمات ومواجهة الفتن بنجاح.
ولذا حثّت الأحاديث الشريفة على مجالسة العلماء والصالحين والاستفادة منهم روي عن النبي (J) قوله: (ما من مؤمن يقعد ساعة عند العالم إلا ناداه ربّه عز وجل: جلست إلى حبيبي، وعزتي وجلالي لأسكننّك الجنة معه ولا أبالي)([10]) وقال الإمام الباقر (A):( اجتمعوا وتذاكروا تحفّ بكم الملائكة، رحم الله من أحيا أمرنا) ([11]) وقال الإمام الصادق (A):( يا خيثمة: اقرئ موالينا السلام، وأوصهم بتقوى الله العظيم عز وجل، وأن يتلاقوا في بيوتهم فإن لقياهم حياة أمرنا، ثم رفع يده (A) فقال: رحم الله أمرؤاً أحيا أمرنا) ([12]) حتى روي عن رسول الله (J) قوله:( النظر إلى وجه العالم عباده) ([13]) وفسّره الإمام الصادق (A) بقوله:( هو العالم الذي إذا نظرت إليه ذكرّك الآخرة، ومن كان خلاف ذلك فالنظر إليه فتنة) ([14]).
وورد في الأحاديث أن مجالسة العلماء والصالحين من أسباب التوفيق، روي عن الإمام الصادق (A) قوله: (لا يستغني المؤمن عن خصلة وبه الحاجة إلى ثلاث خصال: توفيق من الله عز وجل، وواعظ من نفسه، وقبول من ينصحه) ([15]) وأن الابتعاد عنهم سبب للخذلان وعدم التوفيق ورد في دعاء أبي حمزة للإمام السجاد (A): (أو لعلك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني، أو لعلك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلك رأيتني آلِفُ مجالس البطالين فبيني وبينهم خلّيتني).
كما إن هؤلاء الصالحين الذين أمرنا بمجالستهم ليسوا موجودين في المساجد وأماكن الشعائر الدينية فقط، بل يجب أن نعمل لنوجد هذه المجالس المباركة التي تتناول قضايا الدين والمجتمع والوطن والإنسان في الجامعات وفي الأسواق أو البيوت بل حتى في المقاهي والحدائق العامة وأرصفة الطرقات، روي عن النبي (J) قوله:( تذاكروا وتلاقوا وتحدّثوا، فإن الحديث جلاء، إنّ القلوب لترين (أي تصدأ) كما يرين السيف وجلاؤها الحديث) ([16]) ولم يحدد (J) مكاناً محدداً لهذا اللقاء وقال الإمام الصادق (A):( رحم الله عبداً اجتمع مع آخر فتذاكر أمرنا، فإن ثالثهما ملك يستغفر لهما، وما أجتمع اثنان على ذكرنا إلا باهى الله تعالى بهما الملائكة فإذا اجتمعتم فاشتغلوا بالذكر، فإن في اجتماعاتكم ومذاكرتكم أحياءُنا وخير الناس مِن بعدنا مَن ذاكر بأمرنا ودعا إلى ذكرنا) ([17]) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال : 24].
[1] - الخطبة الأولى لصلاة عيد الأضحى المبارك سنة 1444 الموافق 29/6/2023.
[2] - نور الثقلين: 3/258 عن تفسير العياشي.
[3] - البرهان في تفسير القرآن: ج6، ص 132 ح2 عن تفسير القمي: ج2، ص 34، الدر المنثور:5/354.
[4] - نهج البلاغة: الحكمة ٣٢٥.
[5] -نهج البلاغة: قسم الكتب، رقم 45.
[6] - مجمع البيان:6/168، الدر المنثور:5/354.
[7] - الحديثان في ميزان الحكمة:2/896.
[8] - امالي الطوسي:1/157.
[9] - البرهان في تفسير القرآن: 6/162.
[10] - بحار الانوار1/198 عن أمالي الصدوق.
[11] - وسائل الشيعة:12/23.
[12] - بحار الأنوار:1/200 عن أمالي الطوسي.
[13] - بحار الأنوار:1/195 ح14.
[14] - ميزان الحكمة:6/155 عن تنبيه الخواطر:1/84.
[15] - وسائل الشيعة:12/25.
[16] - بحار الانوار:1/203.
[17] - بحار الانوار:1/200.