دور المرجعية الدينية في ترسيخ الهوية الوطنية

| |عدد القراءات : 781
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسمه تعالى

دور المرجعية الدينية في ترسيخ الهوية الوطنية

استقبل[1] سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) في مكتبه في النجف الأشرف الباحث الياباني (اتسومو اوكادا) الذي ترجم عدة كتب عن طبيعة المجتمع العراقي وثقافته إلى اللغة اليابانية، وكان الغرض من اللقاء الاستماع إلى رأي المرجعية الدينية في قضيتين:

1- المواطنة وهل ينافي ذلك الانتماء الديني باعتباره عابراً للحدود الجغرافية؟

2- الانتماء العشائري وعلاقته بالدولة والقوانين.

وأجاب سماحته عن السؤال الأول بأن الشريعة الإسلامية تقرّ غريزة حب الوطن حتى ورد في بعض الأحاديث الشريفة أن (حب الوطن من الإيمان)[2]، وتذكر الروايات ان النبي (J) كان لشدة تعلقه في وطنه ومسقط رأسه مكة عزّ عليه مغادرتها لدى هجرته إلى المدينة، وكان متألماً لفراقها ويتلفت إلى ورائه ليمتّع ناظريه برؤيتها وكان (صلى الله عليه وآله) وهو على ناقته واقفاً بالحزورة يقول لمكة: (والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أخرجت منك ما خرجت)[3] فنزل عليه قوله تعالى مطمئناً له بالعودة إليها {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص : 85] .

كما أن الشريعة المقدسة باعتبارها دستوراً أو مجموعة من القوانين التي تنظم حياة المجتمع المتحضّر لا يكتمل تطبيقها الا في وطن يحتضن هذه الشريعة، لذا فإن الإسلام في أول البعثة النبوية لما لم يجد له وطناً في مكة كان المسلمون مشتتين مستضعفين مقهورين، لكنه لما أصبح للشريعة وطن في المدينة استقر الإسلام ومارس دوره الحضاري وأسس أمة قادت شعوب العالم نحو الرقي والازدهار.

وانطلاقاً من هذه الرؤية فلقد كان للمرجعية الدينية في النجف الأشرف الدور القيادي في تأسيس الدولة العراقية الحديثة بعد الانتهاء من الحرب العالمية الأولى، واقنعوا شركائهم في الوطن من السنة والأكراد في صياغة الهوية الوطنية، بل تنازلوا عن حق الأكثرية في رئاسة الحكم في العراق لإخوانهم السنة، بعد ان ارغموا الاحتلال البريطاني في ثورة عام 1920 على الرضوخ، لمطالبهم في الاستقلال والسيادة ووحدة الشعب والأرض وتشكيل حكومة وطنية، وعلى أثرها برزت للوجود مؤسسات الدولة العراقية الحديثة.

وقد كان مراجع الدين واتباعهم يحملون من الولاء والحب للوطن، والتضحية من أجل عزة أهله وكرامتهم ما لا يضاهيه أحد وقد ضمّخوه بدمائهم، وبقوا ثابتين على هذا المنهج، وكان آخر شاهد على ذلك نهضتهم المباركة لدفع عدوان الإرهابيين من داعش والقاعدة وأمثالهم، وتحرير المناطق التي كان يسكنها غير الشيعة من السنة والأكراد والمسيحيين والايزيديين وغيرهم.

فالانتماء لدين الإسلام ولمدرسة أهل البيت (D) لا يلغى حب الوطن بل يعززّه ولا يرضى بالتفريط في ذرة من حقوقه، ولا يتصور صدور أمر من مراجع الدين بما ينافي ذلك، بل على العكس فأنهم يراعون دائماً المصالح الوطنية العليا ويضحون من أجلها، وقد كانوا دائماً يؤكدّون في توجيهاتهم لاتباعهم أن يلتزموا بالقوانين السائدة في بلدانهم، وأن يرجعوا إلى علمائهم وحكمائهم لتشخيص المصلحة في اتخاذ مواقفهم الوطنية، ولا تأمرهم المرجعية الدينية بشيء على خلاف ذلك.

كما لم يكن هذا الانتماء للوطن يمنعهم في يومٍ ما من التفاعل مع قضايا إخوانهم المسلمين في شتى بقاء العالم، بل مع قضايا الإنسانية جميعاً، لأن الدين الذي يؤمنون به يحثهم على احترام كل الناس ومحبتهم باعتبارهم نظرائهم في الإنسانية، ويدافعون عن نيل حقوقهم المشروعة.

وأجاب سماحته عن السؤال الثاني بأن الشريعة المقدسة اهتمت بالانتماء للعشيرة وحثّت على صلة الأرحام، واعتبرت هذا الانتماء قوة للفرد، قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (A) (وأكرم عشيرتك، فإنهم جناحك الذي به تطير، وأصلك الذي إليه تصير، ويدك التي بها تصول)[4] وقسَّم جيشه في معركة صفين على أساس عشائري لأنه أدعى لحماسهم وغيرتهم.

لكن الشريعة الإسلامية هذبّت هذا الانتماء ومنعت من آثاره السلبية كالتعصب الجاهلي، والصراعات من أجل النفوذ والهيمنة، والتفاخر والمباهاة وإبراز القوة، وتشريع القوانين الظالمة المخالفة للشريعة، واضطهاد الضعفاء، وتضييع حقوق المرأة وامتهان كرامتها، والتجاوز على حقوق الآخرين وغير ذلك، حتى أن الشريعة المقدسة صححت معنى انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ففي الحديث الشريف عن النبي (J) (أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قال: أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: تحجزه عن ظلمه فذلك نصره)[5].

ان الهويات الفرعية كالانتساب إلى العشيرة أو القومية أو المنطقة الجغرافية أو الشريحة الاجتماعية أو المهنية وغيرها، ليست بديلة عن الهوية الأصلية المتمثلة بالانتماء الديني والوطني ولا تعارضها، بل أنها تنظيم لتجمعاته الصغيرة ضمن التجمع الكبير، كما أن تقسيم الجيش إلى ألوية وأفواج وسرايا لا ينافي انضمامها إلى الوحدات الأكبر كالفرق والفيالق، بل ينظّم أفرادها.

وفي الختام تشكّر الضيف من سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على إتاحة هذه الفرصة لإزالة بعض الغموض عن هذه القضايا المتداخلة.

 



[1] - تاريخ اللقاء 25/جمادى الأولى/1444 المصادف 20/12/2022

[2] - سفينة البحار: ٨ / ٥٢٥.

[3] - الدر المنثور: ١ / 300.

[4] - نهج البلاغة / محمد عبده: ج 2 ص 56.

[5] - صحيح البخاري – البخاري – ج3 / ص98 ، نهج الفصاحة: ص111 ح561.