المرجعية الدينية وتأثيراتها الفكرية والاجتماعية

| |عدد القراءات : 493
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسمه تعالى

المرجعية الدينية وتأثيراتها الفكرية والاجتماعية[1]

 

الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين

س1: ما هو المبرّر لتقليد الفقهاء واتباع اجتهاداتهم الفقهية، مع انها قد لا تصيب الحكم الشرعي الواقعي؟

ج1: الرجوع إلى أهل الفن والاختصاص في كل مجال سيرة عقلائية، فمن مرض يذهب إلى الطبيب، ومن يريد بناء دار فأنه يذهب إلى المهندس، ومن اكتفى بمراجعة كتاب في الطب والهندسة وعمل بهما وهو ليس من أهل الاختصاص فانه يلام، وهذه ضرورة اقتضتها طبيعة الإنسان العاجز عن الإلمام بكل العلوم والفنون، وحاجته إلى أن يكون جزءاً من مجتمع إنساني فلابد من تنوع اختصاصات ومهن الناس حتى يسدَّ بعضهم حاجة بعض.

والتقليد في الأحكام الشرعية مظهر من مظاهر هذه السيرة فأن الناس لم يخلقوا في هذه الدنيا عبثاً، وإنما هم مكلفون بأحكام شرعية جعلت لتنظيم حياتهم وإصلاح أمورهم وسيرهم نحو الكمال المنشود لابد من الخروج من عهدتها، ولما كان من المتعذر وصول الناس جميعاً إلى الأحكام الشرعية الموجودة في الأدلة التفصيلية لما فيه من المشقة ولما يتطلبه من الصبر والمجاهدة والفطنة والتأمل والتفرغ مدة طويلة لذا لم ينل هذه الملكة الشريفة المعبَّر عنها بالاجتهاد الا قلة ممن آتاهم الله تعالى من فضله، وطريق الاحتياط في كل المسائل فيه عسر وحرج، ولا يعرف عامة الناس مقتضى الاحتياط في جميع الموارد، بل قد يستحيل كما لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة، لذا  لابد لعامة الناس من الرجوع إلى هؤلاء المجتهدين لأخذ معالم دينهم، فالدليل على جواز التقليد بل وجوبه هي هذه السيرة الممضاة من قبل الشارع المقدس بعد ضمّ المقدمات التي ذكرناها.

 وقد امضى القرآن الكريم هذه السيرة وأمر بها قال تعالى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل : 43] وقال تعالى {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة : 122].

وقد أمر الأئمة (D) شيعتهم بالرجوع إلى الفقهاء العارفين بأحكامهم بأحاديث كثيرة ترشد إلى هذه السيرة وتلزم بها، كقول الإمام الصادق (A) (انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما بحكم الله قد استخف وعلينا رد والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله)[2].

وما ورد في التوقيع الشريف عن الإمام المهدي (A) (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله) [3].

وحذروا شيعتهم من عدم الأخذ من مثل هؤلاء الفقهاء كقول الإمام المهدي (A) (فإنه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا، قد عرفوا بأنا نفاوضهم سرنا، ونحملهم إياه إليهم)[4].

وهذه الروايات إرشادية لتلك السيرة وليست مولوية تأسيسية فلا تضرها بعض المناقشات في السند أو الدلالة.

أما الواقع والوصول إلى الأحكام الواقعية فأنه لا يعلمه الا من أطلعه الله تعالى على الغيب، وما يجب على المجتهدين هو سلوك الطرق المعتبرة للوصول إلى الأحكام الواقعية، وعلينا العمل بما تؤدي إليه هذه الطرق من أحكام، وهي حجة علينا بمعنى انها تحصّل العذر للمكلف اذا عمل بها وإن لم توصله إلى الحكم الواقعي.

وقد أثبتت هذه الطرق المعتبرة قدرتها على تحقق الغرض منها وهو حفظ أحكام الشريعة وتمكين المكلفين من امتثالها، ومهما اختلف المجتهدون فأنك تستطيع التعرّف على صورة ثابتة ومعروفة للدين بفضل الله تعالى والمسلمون مشتركون فيها، وإنما الاختلاف في الجزئيات الفرعية، ومن حاول الابتداع في الدين والاتيان بما يشوِّه هذه الصورة الثابتة، كما لو أسقط فرضاً من الصلوات اليومية، أو أحلَّ شرب الخمر أو زواج المثليين فأنه يكون شاذاً منبوذاً.

 

س2: هل كان التقليد والرجوع إلى العلماء موجوداً لدى الشيعة في عصر حضور الأئمة (D)؟ أو أنه بدأ في عصر الغيبة الصغرى أو الكبرى؟

ج2 : كان التقليد بمعنى رجوع عامة الناس إلى الفقيه العارف بأحكام أهل البيت (D) موجوداً في زمان الأئمة (D) لأن الناس لم يكن يتيسر لهم اللقاء المباشر بالأئمة (D) لأكثر من سبب كحصار السلطة الظالمة، وبعد المسافة، أو لتعويد الناس على الرجوع إلى الفقهاء وتدريبهم على حالة عدم تيسر الأخذ المباشر من الإمام، وقد يكون لا هذا ولا ذاك ولكنَّ الأئمة (D) يريدون بيان منزلة أصحابهم، كأبان بن تغلب حين يقول الإمام الباقر (A) له (أجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك)[5]، أو لأجل عدم حرمان عامة المسلمين من غير الشيعة من الاستفادة من علوم أهل البيت (D)، وكان الاعلام المعادي قد ضلّلهم وأبعدهم عن أئمة أهل البيت (D)، فنصب الأئمة (D) جملة من تلامذتهم لهم مقبولية عند العامة لإيصال هذه الرحمة إليهم، كعبد الله بن عباس وسعيد بن جبير، وذكرت كتب الرجال عند السنة عدداً كبيراً من أصحاب الأئمة (D) في أسانيد رواياتهم.

وقد لا يكتفي الأئمة (D) ببيان الشروط العامة للفقيه الذي يرجع إليه أتباعهم وإنما يحدّدون أسماء من يرجعون إليهم، كالذي ورد عن الإمام الرضا (A) في يونس عبد الرحمن فقد سأله عبدالعزيز بن المهتدي وكان وكيله وخاصته فقال (إني لا أقدر على لقائك في كل وقت، فعمّن أأخذ معالم ديني؟ فقال: خذ عن يونس بن عبد الرحمن)[6] وما ورد عنه (A) في زكريا بن آدم فقد سأله علي بن المسيّب قال (شقّتي بعيدة ولست أصل إليك في كل وقت فعمّن أأخذ معالم ديني؟ فقال (A) من زكريا بن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا)[7].

وهؤلاء الفقهاء ليسوا مجرد أهل رواية ونقل للحديث، بل كانوا أهل دراية بعلوم أهل البيت (D) ومعارفهم وأحكامهم، ويمِّيزون بين الحديث الصحيح والسقيم، ويعرفون أن هذا الحديث قاله الإمام (A) لبيان الحكم الواقعي أو غير ذلك لمصلحةٍ ما كالتقية فيأخذون بالأول دون الثاني، كقولهم للراوي الذي نقل لهم عن الإمام الصادق (A) حكم ميراث البنت المنفردة بأن لها النصف فقط (أعطاك من جراب[8] النورة فرجعت إليه، فقلت: إنَّ أصحابنا قالوا لي: أعطاك من جراب النورة، قال: فقال: ما أعطيتك من جراب النورة، علم بها أحد؟ قلت: لا، قال: فأعطِ البنت الباقي)[9].

وكان الأئمة (D) يحثّون مثل هؤلاء الفقهاء على استنباط الأحكام الفرعية من القواعد الرئيسية التي يلقيها الأئمة (D)، لأن المسائل الابتلائية متكثرة ومتجددة فيقولون لهم (علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع)[10]، ويعلّمونهم كيفية الترجيح بين الدليلين المتعارضين، أو حكومة العناوين الثانوية كالتقية ونفي الحرج على الأحكام الأوليّة، وهذا كله بلا شك يمثل مستوى من الاجتهاد في ذلك الزمان المبكر.

نعم كان ذلك له يُمارس على نحو الوكالة والإذن لوجود الإمام المعصوم (A) وليس على نحو المرجعية المستقلة كما في زمن الغيبة، وهو فرق يقتضيه اختلاف المرحلتين من حضور القائد المعصوم (A) وغيبته.

وكان أصحاب الأئمة (D) يعملون بما لديهم من الروايات ولا يجدون حاجة للرجوع إلى الإمام المعصوم (A) في كل مسألة ما دام جوابها موجوداً في ما بين أيديهم من الروايات، فتجد أصحاب الإمام الرضا (A) ومن بعده من الأئمة (D) ينقلون بواسطة أو أكثر عن الإمام الصادق (A) ولا يذهبون إلى الإمام المعصوم (A) ليسألوه، وهذه قضية مهمة ينبغي الإلتفات إليها.

 

س3: ما هي الشروط الأساسية في مرجع التقليد؟ وهل تعتقدون بوجود شروط أخرى غير التي وردت في الرسائل العملية للفقهاء (رضوان الله تعالى عليهم أجمعين).

ج3: ذكرت في الرسالة العملية (سبل السلام) شروط المرجع الذي يصح تقليده، منها ما اتفق الفقهاء عليها، وأولها الاجتهاد بمعنى القدرة على استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها وهما الكتاب والسنة بالطرق المعتبرة، وثانيها العدالة وهي ملكة نفسية تضبط تفكير وحركة الإنسان على وفق ما يرضي الله سبحانه، لنضمن ان ما أفتى به المجتهد أراد به تحري الوصول إلى الحكم الواقعي الذي يريده الله تبارك وتعالى وأداء مسؤوليته الشرعية في ابراء ذمة المكلف، وليس طاعةً لهوى أو مجاملة لأحد أو تزلفاً لسلطان أو تحت ضغط نفسي أو اجتماعي، وثالثها الأعلمية بالتفصيل الذي ذكرته في بيان خاص[11] وفي الرسالة العملية.

وهناك شروط مُختلف فيها كالذكورة والحياة.

 

 

س4: يعني يمكن أن تكون المرأة مرجعاً للتقليد؟

ج4: اذا تحقق في المرأة شرطا الاجتهاد والعدالة جاز الرجوع إليها في المسائل الشرعية، لكننا اقتصرنا بالجواز على النساء فقط، لأن العمل المرجعي يتطلب حضوراً وسط الناس ومشاركة في الأحداث وهو ما ينافي حرص الإسلام على عفّة المرأة، فالمانع عملي وليس نظرياً حيث لا يوجد دليل تام يمنع المرأة من التصدي للمرجعية.

 

س5: هل توجد رؤية خاصة للعدالة؟

ج5: العدالة شرط في عدة موارد كالشهود وإمام الجماعة والقاضي ومرجع التقليد، والعدالة لها مراتب، وأفرادها متفاوتة فهي (كلي مشكك) بحسب المصطلح، كوصف الأبيض مثلاً الذي تتفاوت أفراده في البياض شدة وضعفاً، واعتقد أن ملكة العدالة المشترطة تزداد قوة كلما ازدادت المسؤولية المشترطة فيها، لأن ضغوط النوازع النفسية تزداد فتحتاج إلى كابح أقوى لضبطها وضمان ثباتها على جادة الشريعة، فقد نكتفي في الشهود وإمام الجماعة بدرجة من العدالة لا نكتفي بها في القاضي الذي يحكم في النفوس والأعراض والأموال، ونقبل في القاضي ما لا نكتفي به في مرجع التقليد الذي يمثل نيابة المعصوم (عليه السلام) والأمين على دين الناس ودنياهم، وقد اطاعه المقلدون في أنفسهم وأموالهم وسائر شؤونهم، فلابد أن يكون على درجة عالية من الحكمة والتقوى والإخلاص والاتزان والانصاف والشعور بالمسؤولية.

وهذا تعلمناه من المعصومين (D) فقد تركوا حلال الدنيا زهداً فيها ومواساة لضعفة الناس وكان النبي (J) يربي أهل بيته المطهرين على ذلك لأنهم الأسوة الحسنة، وقربَّت في بعض كلماتي[12] ان وجوب صلاة الليل ليس مختصاً بالنبي الأكرم (J) وإنما يشمل كلَّ قائد يحمل رسالة الإسلام لأن الخطاب توجه بهذا العنوان فيشمل نوابهم بالحق.

 

س6 وهل تشترطون الحياة في المرجع؟

ج6: أرى أن الحياة شرط في مرجع التقليد، لأن وظائف المرجعية لا تنحصر بالفتاوى حتى يمكن أن يقال بجواز الرجوع إلى الرسالة العملية للميت، وإنما هي قيادة للأمة ولا يمكن أن تكون الا لفقيه يعايش هموم الأمة وتطلعاتها، ويمتلك فطنة ليحلل بدقة الأحداث الجارية ويتخذ المواقف الحكيمة المسدّدة من قبل الله تعالى فلا يجوز تقليد الميت حقيقة أو حكماً وهو فاقد لأهلية المرجعية.

نعم أجزنا لمن قلّد مجتهداً جامعاً للشرائط ويشار إليه بأنه من دائرة محتملي الأعلمية أن يبقى على تقليده في خصوص المسائل التي تعلمها في حياته، فالتقليد فعلاً الى الحي وهو الذّي أجازه بذلك، واشترطنا في جواز البقاء الرجوع إلى الأعلم الحي في المسائل المستحدثة والخلافية.

أما المسائل المستحدثة فالمشهور أن المراد منها القضايا التي استجدَّت وليس للمرجع الميت رأي فيها، وأنا أُعِّرفها بالمسائل التي لم يعرفها المكلف في حياة المرجع الميت والتفت اليها بعد وفاته، حتى لو كانت موجودة في رسالته العملية، فحداثتها بلحاظ المكلف حيث لم يكن يعرفها من قبل لا بلحاظ موضوعاتها.

ووجه هذه الشرط أن المسائل التي تعلمها المكلف من مرجعه حال حياته يخرج فيها من عنوان الجاهل إلى العالم بها فلا يكون مشمولاً بوجوب الرجوع الى المجتهد.

وأما المسائل الخلافية وهي التي يختلف فيها المرجع الحي مع الميت فيجب الرجوع فيها إلى الحي لأنه المرجع الذي يجب تقليده، وهو يرى ما توصّل إليه بالدليل هو الحجة أمام الله تعالى، وأن ما أفتى به الميت ليس بحجة فكيف يجيز للمكلف ترك الحجة والعمل باللاحجة؟ ولا يجب على المكلف الفحص عن المسائل الخلافية، لكن لو علم بمسألة انها خلافية وجب الرجوع فيها الى الحي.

مضافاً إلى أن الحي يمتلك فرصة لتطوير قابليته أو الاستفادة من الخبرات المتراكمة في مجال الاستنباط أما الميت فانه قد توقف علمه، وربما لو كان حياً لغيَّر بعض فتاواه كما كان يفعل خلال سني حياته، وقد ذكرت تفصيلاً أكثر في استفتاء مستقل.

 

 

س7: هل ترون التعدد في مراجع الدين حالة طبيعية، وما هي ارشاداتكم لمقلديكم في هذا الخصوص؟

ج7: نعم التعدد في مراجع التقليد حالة طبيعية، وهي حالة إيجابية من أكثر من جهة:

أ ـ فيها إثراء للحراك العلمي وتنوع للمدارس الفكرية حيث أن لكل مجتهد منهجه وطريقته في التفكير ومبانيه التي أصّلها.

ب ـ فيها سعة على المكلف، لأن المرجع قد يتردد في بعض الأحكام لعدم وضوح الدليل لديه او لتعارض الأدلة في المسألة أو لأن الوقت لم يسعفه لإكمال التحقيق فيها فيلزم المكلف بالاحتياط وقد يكون الاحتياط شاقاً على المكلف، فيجيز المرجع له الرجوع إلى مجتهد آخر من محتملي الأعلمية ويتخلص المكلف من الاحتياط وهذا أحد معاني الحديث الشريف (اختلاف أمتي رحمة)[13] على تقدير صحة صدوره.

ونصيحتي لجميع المؤمنين أن ينظروا إلى الحالة بهذه الرؤية الحضارية ولا يجعلوا منها سبباً للتعصب والانحياز ومعاداة الآخر فأنه من صنع المتزلفين والجهلة والمنتفعين الذين لا ورع لهم.

 

س8: بعض المقلدين يعمل في بعض المسائل بغير فتوى مرجع تقليده لسهولة الفتوى ونحو ذلك، فهل هذا جائز بنظركم؟

ج8: التقليد مسؤولية شرعية ولا يتعامل معها بالأهواء والأمزجة، ومن عمل في كل مورد بالفتوى التي تناسب هواه فأنه ستنتج لديه منظومة مشوهة لا تمت إلى الدين بصلة، فإذا اعتقد المكلف أن المجتهد الفلاني جامع للشرائط وجب تقليده والعمل بفتاواه، ولا يعمل بفتوى غيره الا في الحدود التي يأذن بها كما في موارد الاحتياط الوجوبي التي أشرنا إليها في الجواب السابق.

نعم توجد هنا فكرة لم يتعرض لها الأعلام (قدس الله أرواحهم) لكنها صحيحة على مبانيهم حاصلها: ان وجوب تقليد الأعلم إنحلالي بمعنى أنه في كل مسألة يجب الرجوع إلى الأعلم فيها، وليس من الضروري أن يكون الأعلم هو الأعلم في كل المسائل فإذا شهد أهل الخبرة بأن (س) من مراجع الدين هو الأعلم في هذه المسألة و(ص) هو الأعلم في تلك المسألة و(ع) هو الأعلم في الثالثة وجب تقليد الأول في الأولى والثاني في الثانية والثالث في الثالثة وهكذا، وهذا ليس من التبعيض في التقليد الذي يؤدي إلى المخالفة القطعية وإنما يراد بالتبعيض المحرم من عمل بفتوى مجتهد في مسألة ما ثم عمل بفتوى مخالفة لها من مرجع آخر في نفس المسألة فيكون قد خالف الواقع قطعاً لأن الحكم الواقعي واحد.

وعلى أي حال فهذه الفكرة غير عملية ولا يوجد في عرف الحوزة العلمية مثل هذا المنهج لأنهم يرون أن المرجع الأعلم يكون هو الأعلم في جميع المسائل.

 

س9: هل يوجد دليل شرعي خاص يلزم بالرجوع إلى مرجع التقليد في مسألة الخمس والتصرف بالحقوق الشرعية أم لكل مكلف الحق في التصرف بها كلها أو في خصوص النصف المسمى بحق السادة؟

ج9: بحثت هذه المسألة في موسوعة (فقه الخلاف) وكانت نتيجة البحث ان قبض الحقوق الشرعية من الوظائف الاجتماعية المنوطة بالفقيه المتصدي لأمور المجتمع وتنظيم شؤون الحوزة العلمية ليصرفها في المصالح العامة، وليس التنصيف ضرورياً فيها، نعم عليه أن يرعى شؤون السادة زادهم الله شرفاً مثل مساعدة المحتاجين وتزويج المتعففين، وكلما كان تصدي الفقيه أوسع في إقامة الدين ولمّ شمل المؤمنين وعزتهم كان الدفع إليه أولى من غيره، لأنه المكلف بالواجبات الاجتماعية كإقامة صلاة الجمعة ونصب القضاة واتخاذ القرارات المصيرية في حياة الأمة.

 

س10: هل يقتصر عمل المرجعية على إصدار الفتاوى والأحكام الفقهية والقضاء بين الناس أو يشمل حفظ بيضة الإسلام وشؤون المسلمين العامة المختلفة؟

ج10: لعل من مميزات رسالتي العملية (سبل السلام) أنني ذكرت فيها وظائف المرجعية وواجباتها ومسؤولياتها خلافاً للرسائل الأخرى التي تكتفي بذكر تكاليف المقلدين، وأردت بهذه الخطوة أن تأخذ الأمة دورها في الشهادة على مرجعيتها بأنها قائمة بوظيفتها في حدود الإمكانات المتوفرة أم لا.

وبما ان المرجعية امتداد لقيادة المعصوم (A) ونيابة عنه في أداء مسؤولياته بما يناسب حالها، فلابد أن ننظر إلى المهام التي كان يمارسها الإمام المعصوم (A) في حياة الأمة، وقد ابتدأت حياتي الفكرية وأنا في العشرينيات من عمري بتسجيل هذه المهام واستقرائها من القرآن الكريم والسنة الشريفة ثم تصنيفها وتجميعها في محاور طبعتها في كتاب (دور الأئمة (D) في الحياة الإسلامية)، ثم الحقته بكتاب (الأسوة الحسنة للقادة والمصلحين) الخاص برسول الله (J) وأعتبِر ان هذين الكتابين يفتحان آفاقاً واسعة في فهم الدور الاجتماعي لقيادة المعصوم (A) غير تبليغ الأحكام الشرعية، ويمثّل محاولة أولية مبكرة تحتاج إلى مزيد من الدراسة والنظر والاستقصاء، وأول هذه المسؤوليات إقامة الدين في حياة الناس جميعاً، وهو الغرض الأسمى الذي يشترك فيه جميع الأنبياء وحملة الرسالات السماوية بحسب قوله تعالى {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى : 13].

فعلى المرجعية أن تؤدي هذه الوظائف بكل حرص[14] ورحمة وشفقة وحكمة ونحوها مما وصف الله تعالى بها القائد العظيم (J) {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة : 128].

وشبّهت في بعض كلماتي المرجعية الحريصة بالأم التي تقوم بألف طريقة وطريقة لإقناع طفلها بتناول الطعام أو الدواء لحاجته إليه، وليست الأم التي تضع الطعام أمام طفلها وتذهب وهو بالخيار إن شاء تناوله أو لا، لأن الطفل لا يعرف مصلحة نفسه وقد لا يختار القرار الصحيح.

 

س11: اذا كان عمل المرجعية واسعاً فهل ترون أهمية إضافة شروط أخرى يجب توفرها في المرجع وعدم الاقتصار على الشروط المذكورة في الرسالة العملية كالأعلمية في الفقه والأصول؟

ج11: هذا صحيح وأشرت إليه في مواضع من كلماتي، فيحتاج المرجع إلى خبرة في أحوال الناس ومصالحهم وما يواجههم من تحديات متنوعة والظروف المحيطة به، وقراءة دقيقة للأحداث، وهذا الشرط مستفاد من قول الإمام (A) (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس)[15]، ومفهومه أن من يتصدى لأمور الأمة وهو غير حاذق وخبير بشؤونها فسوف تلتبس عليه الأمور ولا تكون قراراته حكيمة، وقد يحمّل الأمة خسائر فادحة، لذا وسَّعت مفهوم الأعلمية المشترطة في مرجع التقليد بحسب ما تقدم في جواب سابق.

كما يشترط في المرجع الذي يتصدى للأمور العامة أن يتصف بحسن الإدارة وكفاءة القيادة وشجاعة اتخاذ القرار {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم : 12]، وغير ذلك مما يتطلبه هذا الموقع الشريف، حيث يوجد حوالي 200 مليون شيعي في العالم ترنو أنظارهم إلى ما يصدر من المرجعية الدينية.

 

س12: هل هذه الشروط قريبة من شروط ولاية الفقيه أو نفسها؟

ج12: هي شروط يجب توفرها في من يتصدى للأمور العامة للأمة ولا يقتصر عمله على أداء الوظائف التقليدية التي ذكرناها سابقاً، وهذا التصدي قد يكون بعنوان ولاية الفقيه أو المرجعية العامة ونحو ذلك، ونظرُنا إلى نوع المسؤولية وليس العنوان.

 

س13: بعض مراجع الدين لا يقبل بفكرة المرجعية المؤسساتية ويرجّح المرجعية الفردية، ما هو رأيكم بهذه الفكرة وما هو الدليل؟

ج13: أعتقد أن بعض الخلاف مرجعه إلى عدم وضوح الفكرة، فالمعترض يفهم من المرجعية المؤسساتية أن قمة الهرم في كيان المرجعية تكون مؤسسة على شكل مجلس أو لجنة من المجتهدين تصدر عنهم الفتاوى والقرارات العامة ويديرون سائر شؤون المرجعية بالإجماع أو الأغلبية ونحو ذلك، وهذا خلاف كون الإفتاء مسؤولية شخصية يتحملها كل مجتهد بما يراه حجة بينه وبين الله تعالى ولا يكون اجتهاد شخص حجة على آخر اذا لم يكن مقتنعاً بأدلته ومقدماته.

وهذه الفكرة من المرجعية المؤسساتية ليست مقصودة، وإنما يراد بها أن تدار أمور المرجعية من خلال مؤسسة تحدِّدُ المرجعية مسؤولياتها ومساحات عملها، وتوزّع الأعمال على أعضائها، ولا تنحصر إدارة الأمور بشخص المرجع الذي يبقى على قمة هرم المسؤولية وإليه يرجع القول الفصل، ويكون له مجلس استشاري من كبار العلماء ذوي التجربة.

واعتقد أنها بهذا المعنى مقبولة بل يحتمها اتساع عمل المرجعية وتنوع فعالياتها، إذ إنها لم تعد مقتصرة على الوظائف الموروثة مثل قبض الحقوق الشرعية وإصدار الرسالة العملية والقاء الدروس ونحو ذلك مما يؤديه المرجع بنفسه، بل أصبحت المرجعية مسؤولة عن إقامة الدين ورعاية شؤون المؤمنين في ارجاء العالم، ولها مكاتب وممثليات ووكلاء معتمدون في عشرات الدول حيث يتواجد أتباع أهل البيت (D)، كما أنها تشرف على مساجد ومؤسسات ومراكز دينية وحوزات علمية، وجمعيات خيرية ودور نشر وتحقيق ودراسات، ومجمّعات متنوعة منتشرة في دول عديدة، وهو يقتضي وجود فريق كبير يساعد المرجع في إدارتها بنجاح، واختيار الأكفاء الموثوقين لمساعدتهم في ذلك كله.

والشاهد على ما قلته من منشأ الخلاف ان أشدّ المراجع رفضاً للمرجعية المؤسساتية يعمل وفق الرؤيا التي ذكرناها آنفاً فهو يؤمن بها عملياً وإن رفضها نظرياً، والسبب ما ذكرناه.

 

س14: توجد تعابير مثل المرجعية التقليدية أو الرسالية او الرشيدة وغير ذلك فكيف نقسَّم المراجع في عصر الغيبة؟

ج14: هذا ليس تقسيماً وإنما هو توصيف لطريقة العمل وأداء المسؤوليات فهو ناظر إلى واقع ما يجري، وقد اتضح من الأجوبة السابقة أن المراد بالمرجعية التقليدية التي تقتصر على الوظائف الموروثة، والمرجعية الحركية أو الرسالية التي تتحرك بمشروع الإسلام لتقنع جميع الناس به حتى يقيموه في حياتهم وترفع مستوى وعيهم وتوقظهم من غفلتهم وهو ما نعمل عليه تأسياً بقادة الإسلام العظام (صلوات الله عليهم أجمعين).

 

س15: ما هو واجب المرجع حينما يعلم بخطأ وقع فيه المرجع الآخر؟

ج15: اذا كان المقصود الخطأ العلمي كأن يعتقد إن هذه الفتوى للمرجع الآخر غير صحيحة، لأن دليلها غير تام أو ان مبناها في الأصول غير صحيح وهكذا، فيستطيع محاورته علمياً وإثبات ذلك الخطأ خلال لقاء مباشر في مجلس أو زيارة خاصة، حيث تتوفر بيئة علمية مشجعة على هذه الحوارات التي يسودها التأمل والانصاف.

وقد يقوم طلبة المرجعين بهذا الدور كما حصل لتلامذة النائيني والاصفهاني والعراقي (رضوان الله تعالى عليهم أجمعين) قبل مئة عام، حيث كانوا يأخذون الإشكال من الأول ويطرحونه على الثاني، وينقلون إجابة الثاني إلى الأول وهكذا إلى أن تتغير قناعة أحدهما أو يرصِّن دليله ويسدّ الثغرات.

أما اتخاذ القرارات والمواقف في الأمور العامة وقضايا الأمة فلابد من مناقشة مستفيضة تجري بين الاعلام المتصدين لتقليب وجوه النظر فيها، والوصول إلى موقف موّحد يلتف الناس عليه، وفي الحديث الشريف عن الامام موسى بن جعفر (C)  (مَنِ استشار لم يعدم عند الصواب مادحاً وعند الخطأ عاذراً)[16]. لأن الاستشارة تفتح خيارات جديدة لم يكن يعرفها أو تلفت نظره إلى سلبيات كان غافلاً عنها.



[1] - حوارفي جلستين أجراه الدكتور عبد الوهاب الفراتي أستاذ الفكر الإسلامي في الجامعات الإيرانية وباحث في شؤون المرجعية مع سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) يوم الثلاثاء 18/ج1/1444 الموافق 13/12/2022.

[2] - الكافي: ج 7 ، ص 412 ، ح 5

[3] - وسائل الشيعة: ج ٢٧ ، ص ١٤٠

[4] - وسائل الشيعة: ج  27 ، ص ١5٠

[5] - معجم رجال الحديث: 1/134 عن رجال الشيخ الطوسي رقم 61 ورجال الكشي رقم 156

[6] - معجم رجال الحديث: 21/209 عن رجال النجاشي

[7] - معجم رجال الحديث: 8/283 عن الكشي رقم 487

[8] - مَثَل يضرب لمن اعطى شيئاً من غير الموضع المطلوب ويراد بها هنا من أفتى جزافاً من دون مستند صحيح.

[9] - وسائل الشيعة: 26/238 ح 16.

[10] - وسائل الشيعة: ج  27 ، ص 62

[11] - ما المراد من الأعلمية؟ : خطاب المرحلة: ج3، ص 568

 [12] - تفسير من نور القرآن، قبس {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً} [الإسراء : 79]

[13] - ميزان الحكمة: ج ١ / ص ٧٦٥: الإمام الصادق (عليه السلام) - لما سأله عبد المؤمن الأنصاري: أن قوما رووا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إن اختلاف أمتي رحمة -: صدقوا، قلت: إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب؟ قال: ليس حيث ذهبت وذهبوا، إنما أراد قول الله عز وجل * (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة...) * فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويختلفوا إليه فيتعلموا ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلموهم، إنما أراد اختلافهم من البلدان، لا اختلافا في دين الله، إنما الدين واحد . وروي عن الإمام الكاظم (عليه السلام) معنى آخر بقوله (اختلاف أصحابي لكم رحمة، - وقال -: إذا كان ذلك جمعتكم على أمر واحد. - وسئل عن اختلاف أصحابنا فقال (عليه السلام) -: أنا فعلت ذلك بكم، لو اجتمعتم على أمر واحد لأخذ برقابكم) (بحار الأنوار: 2/236 ح 23)

[14] - راجع قبس {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} في تفسير (من نور القرآن).

[15] - تحف العقول: 259

[16] -  بحار الأنوار 72/ 104.