القبس/184(وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ) سورة العصر:3
(وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ)([1])
أهمية سورة العصر:
سورة (العصر) قصيرة جداً في كلماتها لا تتجاوز السطرين لكنّها عظيمة في فضلها، خطيرة في مضمونها، وإنها مظهر من مظاهر إعجاز القرآن حينما يُقدِّم في سطر واحد منهجاً متكاملاً لنجاح البشريّة من أوّل الخلقة إلى نهايتها ويعرِّف هويّة الأمّة الرابحة الفائزة ويعلّمها وظائفها في هذا السطر.
روى الشيخ الصدوق بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال:(من قرأ (والعصر) في نوافله بعثه الله يوم القيامة مشرقاً وجهه ضاحكاً سنّه، قريرة عينه حتّى يدخل الجنة)([2])، ولأهمية ما جاء فيها فقد ورد أن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) كانوا اذا اجتمعوا لا يفترقون إلاّ بعد تلاوة سورة (والعصر) ويتذاكروا في مضامينها([3]).
معنى (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ):
يبتدئ الله تبارك وتعالى السورة بالقسم (والعصر) بمعانيه المختلفة كما وردت في التفاسير، فيقسم الله عزّ من قائل – وهو أصدق القائلين- لتأكيد الكلام ولإثارة انتباه المخاطب إلى الحقيقة التي سيقولها، لأنّها حقيقة خطيرة (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) ليس الإنسان بحسب تكوينه وأصل خلقته، لأنّه خُلق للكمال وللمعرفة بالله تعالى ولإخلاص الطاعة له سُبحانه والاستقامة على ما أراد منه، لذلك أسجد له ملائكته وقال تعالى (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة:30), فليس الإنسان بالحمل الأولي –كما في المصطلح- هو في خسر، بل الإنسان الموجود على أرض الواقع أي بلحاظ سلوكه وسيرته أي أفراد الإنسان ومصاديقه بالحمل الشائع –كما في المصطلح- الذي يخالف فطرته حينما يخرج إلى هذه الدنيا وينسى عهده مع ربّه الذي واثقه عليه (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (الأعراف:172).
فهذا الإنسان الذي خلق للسمو والتكامل، تراه ينحدر ويتسافل ويعرض عن ذكر ربّه، فيخسر رأس ماله وكلّ القوى التي زوّدها الله تعالى بها لتحقيق الغرض المنشود من حياة ووجود وعقل وفكر وبدن وثروة وجاه وعلاقات وأسرة وعشيرة وموقع وغيرها، حتّى الأشياء البسيطة الدقيقة التي يمكن أن تُكتسب بها الجنان (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (الزلزلة- 7)، كتسبيحة أو ذكر مع كل شهيق وزفير وفي كل طرفة عين.
وإذا به على العكس يسخّرها للشقاء والعذاب، فإذن هو فعلاً (في خسر)، بل خسر عظيم، قال تعالى (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ )(الزمر-15)، كمن يزوّد برأس مال عظيم وتوفَّر له كلّ فرص النجاح والاستثمار وتقدِّم له كلّ معونة والتسهيلات في السوق، لكنّه بحماقته وضيق نظره يخسر كلّ ذلك، عن الإمام الهادي (عليه السلام) (الدنيا سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون)([4]).
ثـمن النفس هو الجنة:
هذه الصفقة التي أنشأها الله تعالى مع عباده (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ) (التوبة:111) فلا ثمن لهذه النفس إلاّ الوفاء بهذه الصفقة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام):(إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنّة فلا تبيعوها إلاّ بها)([5]).
والتعبير يمزج مع التحذير والتهديد والتوبيخ استغراباً وعتاباً، لأنّ الله تعالى خلقهم للرحمة والسعادة والفوز وأعطاهم كلّ ما يوصلهم إلى هذه النتيجة من أسباب معنوية ومادّية قال تعالى (إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (هود 119), وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله (يقول الله تعالى:يا ابن آدم، لم أخلقك لأربح عليك، إنّما خلقتك لتربح عليّ, فاتخذني بدلاً من كل شيء، فإني ناصر لك من كل شيء)([6]).
لماذا يحصل الخسران؟
فلماذا يخسرون كلّ ذلك بتوظيفه في عكس الهدف الذي خلقوا من أجله (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون) (يس-30)، لذلك يسجّل القرآن الكريم استغرابه من دخول أهل النار إليها، قال تعالى (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ) (المدثر-42)، ولم يسجّل استغرابه من دخول أهل الجنة فيها لأن وجودهم على القاعدة ومع الهدف الذي خُلقوا من أجله.
والمرعب في هذه الحقيقة إطلاقها وعمومها (إن الإنسان) مطلقاً فتكون كقوله تعالى (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ً) (مريم:71-72).
المستثنون من الخسران:
نعم استثني من هذه النتيجة المهولة بعض توفّرت فيه أربع خصائص مجتمعة:
1- (إلاّ الذين آمنوا) واعتقدوا صدقاً وإخلاصاً بكل العقائد الحقّة بتوحيد الله تعالى والرسالة للنبي (صلى الله عليه واله وسلم) وولاية أمير المؤمنين والأئمة المعصومين(عليهم السلام) وسائر العقائد الحقّة.
2- (وعملوا الصالحات) لأنّ الإيمان لا يكون حقيقياً وصادقاً إلاّ أن يظهر إلى الخارج بعمل صالح يكون موافقاً لما يريده الله تبارك وتعالى.
وهذا المقدار مفهوم وواضح وذكرته آيات عديدة، لكنّ الأهمية والخطورة التي أشرنا إليها في هذه السورة هي فيما أضافته الآية من شرطين للفـوز والنجاة من الخسران، حيث لم تكتفي بالركنين السابقين، وهما:
3- (وتواصوا بالحق) فلا يكتفون بكونهم صالحين في أنفسهم مؤمنين يعملون الصالحات بل يتحركون برسالتهم في المجتمع فيوصي بعضهم بعضاً بالتزام الحق والعمل به، والتعبير بالتواصي يتضمّن معنى الإستمرارية والتواصل، والحق الذي يتواصون به له مساحة واسعة، فكلّ خير وكل ما هو مثمر وكلّ ما يوصل إلى الله تبارك وتعالى ويعين على طاعته ويجنّب معصيته هو حق فيتواصون به.
وهذا له مدى واسع فيشمل الدعوة إلى الله تبارك وتعالى والإسلام وولاية اهل البيت(عليهم السلام) ونشر فضائل أهل البيت(عليهم السلام) ومظلوميتهم من الأعداء، ونشر أحكام الدين وتقديم النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحقوق التفصيلية الكثيرة كالتي تضمنتها رسالة الحقوق للإمام السجاد (عليه السلام).
ولا بدّ لمن يقوم بهذه الوظيفة أن يكون ملتفتاً قبل ذلك إلى نفسه فيتعاهدها ويتواصى معها ويشارطها على الهدى والصلاح والثبات، لأنّها أعز وأثمن من يتواصى معه.
إن الحقّ إذا لم يتم التواصي به والتواصل معه جيلاً بعد جيل وبين عامة الجيل الواحد أي التحرّك به أفقياً وعمودياً فإنّه يضيع كما ضاعت حقوق كثيرة وعلى رأسها حقّ الإمامة وولاية أمر الأمة لأمير المؤمنين (عليه السلام) وأولاده المعصومين (سلام الله عليهم أجمعين).
قال الإمام الصادق (عليه السلام):(إنّ حقوق الناس تثبت بشهادة شخصين، وقد أنكِرَ حق جدّي أمير المؤمنين (عليه السلام) وعليه سبعون ألف شاهد كانوا مع رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) في غدير خم)([7]).
4- (وتواصوا بالصبر) فإنّ من يسير بهذا الطريق الذي تخلّى عنه أكثر الناس وأصبحوا ينظرون إليه بازدراء وسخرية سيلقى الكثير من المشقّة والعنت والأذى وسيتطلب منه تضحية كثيرة بأعز ما لديه فيحتاج إلى صبر ومصابرة ومرابطة وثبات (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(آل عمران:200)، فيوصي هؤلاء الثلة القليلة بعضهم بعضاً بالصبر والمضي على هذا النهج المقدّس المبارك.
إصلاح الآخرين:
إنّ الحقيقة الخطيرة التي أضافتها هذه السورة المباركة أن الإيمان والعمل الصالح على مستوى النفس غير كافٍ للفوز وللنجاة من الخسران الشامل لأفراد الإنسان، بل لابد أن ينضم له التحرّك بهذه الوظيفة في المجتمع والاستمرار على ذلك والثبات عليه وتحمّل أعبائه.
وبتعبير مختصر أنّ صلاح الفرد الشخصي لا يكفي من دون أن يضم له العمل على إصلاح الآخرين، وهي مسؤولية كبيرة لكن منزلتها عظيمة لا مكان فيها للمتقاعس والمتكاسل الذي لا يكترث بما يعجّ به المجتمع من مفاسد وظلم وانحراف وضلالات وشبهات وخرافات وجهل وغير ذلك.
حينئذٍ يتحقق صلاح الفرد وصلاح المجتمع أيضاً، ونجاة الفرد ونجاة المجتمع وعزّتهما معاً بفضل الله تبارك وتعالى.
التواصي بالحق والتواصي بالصبر:
وإذا قابلنا هذه الآية مع الآيتين المتقدّمتين من سورة (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) (مريم:72) نحصل على تعريف للتقوى فتكون حقيقتها الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر بمقتضى المطابقة وتحقيق ما تحصل به النجاة من النار والخسران.
وهذه الحقيقة طبيعية لأنّ الإيمان يدعو إلى العمل الصالح، والعمل الصالح لا يعرف الإنزواء والجمود والتقوقع، وإنّما يدعو للحركة المثمرة لهداية الآخرين وإرشادهم ونصحهم ومساعدتهم، فإنّ من أعظم الأعمال الصالحة ما كانت مندرجة في هذه الحركة الاجتماعية لذا ورد في بعض الروايات تفسير عمل الصالحات بمواساة الإخوان([8]).
إن مسؤولية التواصي بالحق والتواصي بالصبر لا تختص بالمبلغين والمرشدين من الحوزة العلمية بل هي شاملة لكل الناس خصوصاً مع توفّر سبل الهداية وقنوات الإصلاح والتأثير لكل العاملين على شبكات المعلومات وصفحات التواصل الاجتماعي والفضائيات.
([1]) كلمة سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من منتسبي هيئة الحج والعمرة في بغداد والمحافظات يوم الخميس 2/ج1/1434 الموافق 14/3/2013.
([2]) ثواب الأعمال: 125.
([3]) الدر المـنثور: 6/392.
([4]) بحار الأنوار: 72/366 ح1، تحف العقول: 361.
([5]) نهج البلاغة: قصار الكلمات، رقم 74.
([6]) ميزان الحكمة: 1/334 الحديث 1604 عن شرح نهج البلاغة: 20/319، 665.
([7]) بحار الأنوار: 37/158 باب52.
([8]) كمال الدين وإتمام النعمة: 656 ح1.