القبس/177(فَأَمَّا ٱلۡيَتِيمَ فَلَا تَقۡهَرۡ) سورة الضُحى9- كافل اليتيم المادي والمعنوي مع رسول الله (ص)
(فَأَمَّا ٱلۡيَتِيمَ فَلَا تَقۡهَرۡ)
موضوع القبس:كافل اليتيم المادي والمعنوي مع رسول الله (صلى الله عليه واله)
اليتم يعني الانقطاع والانفراد فاليتيم في الانسان انقطاع الطفل الذي لم يبلغ عن أبيه حيث (لا يتم بعد احتلام)([1])، أما في الحيوانات فهو الانقطاع عن الأم والجامع بينهما هو الانقطاع عن الكافل والرازق والمدبِّر والمدير، وبلحاظ معنى التفرّد والانقطاع يكون معنى اللفظ واسعاً فيشمل كل متفرد منقطع النظير فيقال جوهرة يتيمة أي انقطعت مادتها التي أخرجت منها فلا يوجد مماثل لها وقصيدة يتيمة أي لا نظير لها وهكذا.
وبهذا المعنى فسرَّت بعض الروايات يُتُم رسول الله (صلى الله عليه واله) فقد روى العياشي في تفسيره عن الامام الرضا (عليه السلام) عند تفسير قوله تعالى لنبيه محمد (صلى الله عليه واله) (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) (الضحى:6) قال (فرداً لا مثل لك في المخلوقين فآوى الناس اليك)([2]) وروى الشيخ الصدوق مثله عن ابن عباس([3]) وقال علي بن إبراهيم في تفسيره (اليتيم الذي لا مثل له ولذا سميت الدرة اليتيمة لأنه لا مثل لها)([4])، واذا صح صدور الحديث عن الإمام (عليه السلام) فلا كلام وإن كان فهماً من بعض الرواة فهو خلاف الظاهر خصوصاً بمقابلته مع تفريع آية (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) (الضحى:9) عليها ويمكن قبول هذا المعنى اذا نُظر إلى الآية مستقلة عن الآية الأخرى.
واليتم حاله تثير الشفقة والتعاطف بشكل عاصف وتثير كوامن الإنسانية وهي محل لاختبار كرم الاخلاق من لؤمها وفي ذلك نسب إلى أمير المؤمنين (عليه السلام):
ما إن تأوهت من شيء رزئت به |
|
كما تأوهت للأطفال في الصغر([5]) |
ونجد في القرآن الكريم التأكيدات المتكررة على الإحسان إلى الأيتام ورعايتهم مثل قوله تعالى (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ) (البقرة:177) وقوله تعالى (قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى) (البقرة:215) وقوله تعالى (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى) (النساء:36) ويصل التأكيد إلى ذروته عندما قرنها الله تعالى بتوحيده وبأفضل العبادات في قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى) (البقرة:83) .
وحذرت الآيات الكريمة من عقوبة من تمتد يده إلى أموال اليتامى بغير حق مستغلاً ضعفهم وقلة حيلتهم وعدم معرفتهم بالأمور كقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (النساء:10) وجعل تبارك وتعالى عدم اكرام اليتيم من علامات ضعف الايمان قال تعالى (كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) (الفجر:17) بل من علامات عدم الايمان بالآخرة قال تعالى (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) (الماعون:1-2) لأنه لو كان يؤمن بالآخرة حقاً لسعى إليها سعيها.
فالآية الكريمة محل البحث موجهة الى رسول الله (صلى الله عليه واله) ومنه إلى البشر كافة بأن يهتم باليتيم وايوائه والاعتناء به ولا يتسبب في إيلامه وإزعاجه وإذلاله وتسليط من لا يرحمه عليه، قال تعالى له ذلك بعد ان ذكّره في الآيات السابقة بنعمة الله تعالى عليه (صلى الله عليه واله) اذ كان يتيماً فآواه وكفله وأعزّه ونصره (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) (الضحى:6) فأنه (صلى الله عليه واله) فقد أباه وهو حمل في بطن أمه فكفله جده عبدالمطلب سيد البطحاء ثم توفيت أمه وهو في الشهر السادس من عمره، وتوفي جده وهو في الثامنة من عمره فكفله عمه أبو طالب ونصره وحماه من أذى قريش وغيرهم.
ولا شك في ان أكثر من يقدّر معاناة اليتيم وآلامه وانكساره وآثاره النفسية والاجتماعية هو من ذاق اليتم ومن هنا ارتبطت الآية بفاء التفريع والتسبيب (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) أي اجعل تذكرك لحالة اليتم التي عشتها سبباً لإكرام اليتيم والإحسان اليه وعدم اشعاره بالنقص الذي تسبّب بفقدان كافله ومعيله ومربّيه.
وقد أوصل (صلى الله عليه واله) هذا التوجيه إلى الأمة بكل وضوح وبأبلغ التعابير واعلى الاثمان فقال (صلى الله عليه واله) (من عال يتيماً حتى يستغنى عنه أوجب الله عزوجل له بذلك الجنة كما أوجب الله لآكل مال اليتيم النار)([6]) وقال (صلى الله عليه واله) (إن في الجنة داراً يقال لها:دار الفرح، لا يدخلها الا من فرّح يتامى المؤمنين)([7]) وقال (صلى الله عليه واله):(إن اليتيم اذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن، فيقول الله لملائكته يا ملائكتي من ابكى هذا اليتيم الذي غُيِّب أبوه في التراب، فتقول الملائكة:أنت أعلم، فيقول الله تعالى:يا ملائكتي فإني أشهدكم ان لمن أسكته وأرضاه أن أرضيه يوم القيامة)([8]). ويصل تكريم كافل اليتيم إلى ذروته بقوله (صلى الله عليه واله):(من كفل يتيماً وكفل نفقته كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وقرن بين إصبعيه المسبّحة والوسطى)([9])
وفي رواية أخرى قال (صلى الله عليه واله): ((أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة إذا اتقى الله عز وجل)) وأشار بالوسطى والتي تليها)([10])، والحديث مشهور، وإن كان ينقل من دون جزئه الأخير الذي هو شرط قبول الأعمال، قال تعالى(إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة:27) لكنه هنا شرط لكون كافل اليتيم في درجة رسول الله (صلى الله عليه واله) وليس شرطاً لإعطاء الجزاء، لأن أعمال البر والإحسان يثاب عليها الإنسان ولو لم يقصد بها وجه الله تعالى.
وقد أكدت الآية الكريمة على الجانب المعنوي في رعاية الأيتام (فَلَا تَقْهَرْ) أي لا تذلّ ولا تهن ولا تستضعف اليتيم لأن حاجة اليتيم اليه أشدّ إذ قد يكون مكتفياً مادياً لأن أباه ترك له مالاً يعيش منه لكن الجانب المعنوي تبقى الحاجة إليه وقد حثت عليه الأحاديث الشريفة حتى بأبسط صورة كالمروي عن النبي (صلى الله عليه واله) قال (من مسح على رأس يتيم كان له بكل شعرة تمر على يده نور يوم القيامة)([11]) .
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (ما من مؤمن ولا مؤمنة يضع يده على رأس يتيم ترحماً الا كتب الله له بكل شعرة مرّت يده عليها حسنة)([12]).
وتذكر الروايات ان ذلك يعود بالفيض المعنوي على الماسح نفسه فقد قال (رسول الله (صلى الله عليه واله) لرجل يشكو قسوة في قلبه: أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم وأمسح رأسه واطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك)([13]).
إن كفالة الأيتام والإحسان اليهم ليس فقط عملاً شخصياً يتقرب به الانسان إلى الله تعالى وينال به الدرجات المذكورة وانما هي مسؤولية اجتماعية لأن استمرار شعور اليتيم بالنقص والحرمان وانه ادون من الآخرين وعدم معالجة هذه الحالة عنده تجعله عنصراً مأزوماً محتقناً ويتحيّن الفرص للانتقام من المجتمع الذي لم يعوضه عن هذا النقص ويتحول الايتام إلى قنابل موقوته في المجتمع ما لم يتم دمجهم كافراد طبيعيين صالحين فيه، وهذا يعطي رساله إطمئنان لكل الناس بأن حقوقهم وحقوق أبنائهم مكفولة بأحسن صورة حتى لو خلفوا ايتاماً، وورد هذا المعنى في حديث عن الامام الرضا (عليه السلام) قال (حُرِّم أكل مال اليتيم ظلماً لعلل كثيرة من وجوه الفساد) إلى أن قال (عليه السلام) (فاذا أكل ماله فكأنه قد قتله وصيّره إلى الفقر والفاقة، مع ما في ذلك من طلب اليتيم بثأره اذا أدرك، ووقوع الشحناء والعداوة والبغضاء حتى يتفانوا)([14])
ولابد من الالتفات الى المعنى الواسع لآكل مال اليتيم فان عدم دفع الحقوق الشرعية الى مستحقيها من مصاديق هذا العنوان ففي رواية صحيحة عن أبي بصير قال (قلت لأبي جعفر - الباقر (عليه السلام) - ما أيسر ما يدخل به العبد النار؟ قال:من أكل من مال اليتيم درهماً، ونحن اليتيم)([15]).
وان ما يأكله السياسيون الفاسدون من أموال الشعب بغير حق هو أكل لمال اليتيم بالباطل لأن المسؤول في موقع الأبّوة والكفالة والرعاية للشعب انطلاقاً من الحديث النبوي الشريف (يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأمة)([16]) فالشعب منقطع عن ثرواته ومصالحه وامكانياته المتنوعة التي اودعها الله تعالى في أرضه واستأمن المسؤولين في السلطة عليها فاذا مدّ المسؤول يده اليها ولم يحسن وضعها في محلها فأنه أكل أموال هؤلاء الأيتام المنقطعين.
ان كل ما تقدم يلزمنا بإيجاد المؤسسات الخيرية والثقافية والتربوية والتعليمية التي تعنى برعاية الأيتام وكفالتهم وحسن تربيتهم وتعليمهم وتثقيفهم حتى يكونوا افراداً صالحين في المجتمع بل ربما من قادته، وقد أورد الفقهاء مسائل شرعية مفصّلة لحفظ أموال الأيتام وادارتها بما فيه مصلحة الصغير ووضعت شروطاً لمن يتولى القيمومة على الصغار والتصرف بأموالهم.
وعلينا ان نتذكر أن أكمل الخلق وأشرفهم وهو نبينا محمد (صلى الله عليه واله) كان يتيماً، وان فاطمة الزهراء (عليه السلام) سيدة نساء العالمين فقدت أمها وهي في الخامسة من عمرها وعاشت وحيدة مع أبيها رسول الله (صلى الله عليه واله) وان من أكمل سيدات النساء عبر التاريخ وهي الصديقة مريم كانت يتيمة توفى أبوها وهي حمل في بطن أمها لكن الله تعالى هيأ لها كفيلاً من انبيائه العظام (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) (آل عمران:37) فحسن كفالة الايتام تصنع منهم عناصر مثمرة مباركة في المجتمع.
وكان لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) سلوك متميز مع الايتام فقد روى الشيخ الكليني في الكافي انه (جاء إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) عسل وتين من همدان وحلوان فأمر العرفاء أن يأتوا باليتامى، فأمكنهم من رؤوس الازقاق يلعقونها وهو يقسمها للناس قدحا، قدحا، فقيل له:يا أمير المؤمنين ما لهم يلعقونها؟ فقال:إن الإمام أبو اليتامى وإنما ألعقهم هذا برعاية الآباء)([17]) وبهذا أوصى رسول الله (صلى الله عليه واله) بقوله (كن لليتيم كالأب الرحيم)([18]) (ونظر علي (عليه السلام) إلى امرأة على كتفها قربة ماء، فأخذ منها القربة فحملها إلى موضعها، وسألها عن حالها فقالت:بعث علي بن أبي طالب صاحبي إلى بعض الثغور فقتل، وترك علي صبيانا يتامى، وليس عندي شيء، فقد ألجأتني الضرورة إلى خدمة الناس، فانصرف وبات ليلته قلقا، فلما أصبح حمل زنبيلا فيه طعام، فقال بعضهم:أعطني أحمله عنك، فقال:من يحمل وزري عني يوم القيامة؟ فأتى وقرع الباب، فقالت:من هذا؟ قال:أنا ذلك العبد الذي حمل معك القربة، فافتحي فإن معي شيئا للصبيان، فقالت:رضي الله عنك وحكم بيني وبين علي بن أبي طالب، فدخل وقال:إني أحببت اكتساب الثواب، فاختاري بين أن تعجنين وتخبزين وبين أن تعللين الصبيان لاخبز أنا، فقالت:أنا بالخبز أبصر وعليه أقدر، ولكن شأنك والصبيان، فعللهم حتى أفرغ من الخبز، قال:فعمدت إلى الدقيق فعجنته، وعمد علي (عليه السلام) إلى اللحم فطبخه، وجعل يلقم الصبيان من اللحم والتمر وغيره، فكلما ناول الصبيان من ذلك شيئا قال له:يا بني اجعل علي بن أبي طالب في حل مما أمر في أمرك، فلما اختمر العجين قالت:يا عبدالله اسجر التنور فبادر لسجره فلما أشعله ولفح في وجهه جعل يقول:ذق يا علي هذا جزاء من ضيع الارامل واليتامى، فرأته امرأة تعرفه فقالت:ويحك هذا أمير المؤمنين، قال:فبادرت المرأة وهي تقول:واحيائي منك يا أمير المؤمنين، فقال:بل واحيائي منك يا أمة الله فيما قصرت في أمرك)([19]).
كفالة الأيتام المعنويين:
ويوجد أيتام من نوع آخر هم أكثر عدداً يكاد يمثلون أغلب الناس، وكفالتهم لا تحتاج إلى المال، بل إلى الجهد والهمة والإخلاص، وكافلهم
يكون أقرب إلى رسول الله (صلى الله عليه واله) من الأول، تعرّفهم لنا جملة من الأحاديث الشريفة([20]) وتبين منزلتهم (الكافلين) عند النبي (صلى الله عليه واله) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام) عن الإمام أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام) قال:(حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله (صلى الله عليه واله) أنه قال:أشد من يُتم اليتيم الذي انقطع عن أبيه يتم يتيم انقطع عن إمامه ولا يقدر على الوصول إليه ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلى به من شرائع دينه ألا فمن كان من شيعتنا عالماً بعلومنا وهذا الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا يتيم في حجره ألا فمن هداه وأرشده وعلمه شريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى)([21]).
وعن أبي محمد العسكري (عليه السلام) قال: (قال الحسن بن علي (عليهما السلام):فضل كافل يتيم آل محمد المنقطع عن مواليه الناشب في رتبة الجهل يخرجه من جهله، ويوضح له ما اشتبه عليه، على فضل كافل يتيم يطعمه ويسقيه كفضل الشمس على السها. ([22])
وعنه (عليه السلام) قال:(قال الحسين بن علي (عليهما السلام) من كفل لنا يتيماً قطعته عنا محبتنا([23]) باستتارنا فواساه من علومنا التي سقطت إليه حتى أرشده وهداه، قال الله عز وجل:يا أيها العبد الكريم المواسي أنا أولى بالكرم منك، اجعلوا له يا ملائكتي في الجنان بعدد كل حرف علّمه ألف ألف قصر، وضموا إليها ما يليق بها من سائر النعم).
وعنه (عليه السلام) قال:(قال موسى بن جعفر (عليهما السلام):فقيه واحد ينقذ يتيماً من أيتامنا المنقطعين عنا وعن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه أشد على ابليس من ألف عابد؛ لأن العابد همّه ذات نفسه فقط، وهذا همّه مع ذات نفسه ذات عباد الله وإمائه لينقذهم من يد إبليس ومردته، فذلك هو أفضل عند الله من ألف ألف عابد، وألف ألف عابدة).
وعنه (عليه السلام) قال:(قال علي بن موسى الرضا (عليهما السلام):يقال للعابد يوم القيامة:نعم الرجل كنت همتك ذات نفسك وكفيت الناس مؤونتك فادخل الجنة، ألا إن الفقيه من أفاض على الناس خيره، وأنقذهم من أعدائهم، ووفّر عليهم نعم جنان الله وحصل لهم رضوان الله تعالى. ويقال للفقيه:يا أيها الكافل لأيتام آل محمد الهادي لضعفاء محبيهم ومواليهم قف حتى تشفع لمن أخذ عنك، أو تعلَّم منك فيقف فيدخل الجنة معه فئاماً وفئاماً([24]) حتى قال عشرة).
وعنه (عليه السلام) قال:(قال محمد بن علي الجواد (عليهما السلام):من تكفل بأيتام آل محمد المنقطعين عن إمامهم المتحيرين في جهلهم، الأُسراء في أيدي شياطينهم، وفي أيدي النواصب من أعدائنا فاستنقذهم منهم، وأخرجهم من حيرتهم، وقهر الشياطين برد وساوسهم، وقهر الناصبين بحجج ربهم ودليل أئمتهم لَيُفضّلون عند الله تعالى على العباد بأفضل المواقع بأكثر من فضل السماء على الأرض والعرش والكرسي والحجب على السماء، وفضلهم على هذا العابد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء).
الزهراء (عليها السلام) تكفل الأيتام:
وقد كانت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تحذو حذو أبيها (صلى الله عليه واله) في أقواله وأفعاله وخصاله الكريمة وهديه وسمته، فقد أدت ما عليها ووفت بما عاهدت ربها عليه من الالتزامات فنجحت في الامتحان بأعلى درجات النجاح.
الأيتام بكلا النوعين:
ومن مورد صدقها فيما امتُحنت به كفالة الأيتام بالمستويين اللذين ذكرناهما.
أما الأول فقد شهد الله تبارك وتعالى لها ولزوجها أمير المؤمنين وولديها الحسن والحسين (صلوات الله عليهم) في القرآن الكريم بإطعامهم اليتيم مع حاجتهم للطعام حباً لله تبارك وتعالى وإخلاصاً لوجهه الكريم (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) (الإنسان:8-9).
ونقرأ في سيرتها (صلوات الله عليها) أنها طحنت بالرحى حتى مجلت يداها وأشعلت التنور حتى دكنت ثيابها وما ذلك لإطعام زوجها وبنيها لأنهم خمص البطون، وكانوا يكتفون من الطعام بما يسد رمقهم، وإنما كان ذلك لكثرة من تطعمهم وتتكفل بهم كما تشهد به روايات أخر، ولم تغب عنها الوصية بالأيتام وهي تودع الحياة الدنيا، روي أنه جاء في وصيتها (عليها السلام) لأمير المؤمنين (عليه السلام) بالحسن والحسين (عليهما السلام):(يا أبا الحسن ولا تصح في وجهيهما فإنهما سيصبحان يتيمين من بعدي، بالأمس فقدا جدهما واليوم يفقدان أمهما)([25]).
وأما على المستوى الثاني لكفالة الأيتام فقد كانت لها حركة دؤوبة وهمة لا تعرف التواني والتقصير، روي عن الإمام أبي محمد العسكري (عليه السلام) أنه قال:(حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) فقالت:إن لي والدة ضعيفة وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليك أسألك، فأجابتها فاطمة (عليها السلام) عن ذلك، فثنت فأجابت ثم ثلثت إلى أن عشّرت فأجابت ثم خجلت من الكثرة فقالت:لا أشق عليك يا ابنة رسول الله (صلى الله عليه واله)، قالت فاطمة (عليها السلام):هاتي وسلي عما بدا لك، أرأيت من اكترى يوماً يصعد إلى سطح بحمل ثقيل وكراه مائة ألف دينار يثقل عليه؟ فقالت:لا. فقالت:اكتريت أنا لكل مسألة بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً فأحرى أن لا يثقل عليّ، سمعت أبي (صلى الله عليه واله) يقول:إن علماء شيعتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدهم في إرشاد عباد الله حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلة من نور ثم ينادي منادي ربنا عز وجل:أيها الكافلون لأيتام آل محمد (صلى الله عليه واله)، الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمتهم، هؤلاء تلامذتكم والأيتام الذين كفلتموهم ونعشتموهم فاخلعوا عليهم خلع العلوم في الدنيا فيخلعون على كل واحد من أولئك الأيتام على قدر ما أخذوا عنهم من العلوم حتى أن فيهم يعني في الأيتام لمن يخلع عليه مائة ألف خلعة وكذلك يخلع هؤلاء الأيتام على من تعلم منهم، ثم إن الله تعالى يقول:أعيدوا على هؤلاء العلماء الكافلين للأيتام حتى تتموا لهم خلعهم، وتضعفوها لهم فيتم لهم ما كان لهم قبل أن يخلعوا عليهم، ويضاعف لهم، وكذلك من يليهم ممن خلع على من يليهم. وقالت فاطمة (عليها السلام):يا أمة الله إن سلكة من تلك الخلع لأفضل مما طلعت عليه الشمس ألف ألف مرة وما فضل فإنه مشوب بالتنغيص والكدر)([26]).
وروي عنه (عليه السلام) قال:(قال علي بن أبي طالب (عليه السلام):من قو ّى مسكيناً في دينه ضعيفاً في معرفته على ناصب مخالف فأفحمه لقنه الله يوم يُدلي في قبره أن يقول:الله ربي، ومحمد نبيي، وعلي وليي، والكعبة قبلتي، والقرآن بهجتي وعدتي، والمؤمنون إخواني. فيقول الله:أدليت بالحجة فوجبت لك أعالي درجات الجنة فعند ذلك يتحول عليه قبره أنزه رياض الجنة)([27]).
وان حديث النبي (صلى الله عليه واله):(أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة) يجري في هذه الكفالة أيضاً وقد شهد الامام الصادق (عليه السلام) بذلك للراوي الجليل بكير بن أعين فأنه لما بلغ الامام (عليه السلام) موته قال (أما والله لقد أنزله الله بين رسوله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما)([28]) .
وقال (عليه السلام) في أخيه حمران (نعم الشفيع أنا وآبائي لحمران بن أعين يوم القيامة، نأخذ بيده ولا نزايله حتى ندخل الجنة جميعا)([29]).
مسؤوليتنا عن كفالة كلا النوعين من الأيتام:
أيها الأخوة والأخوات:لنتأسّ بالصديقة الطاهرة الزهراء (عليها السلام) حتى نكون معها ومع أبيها الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما) في درجتهما في الجنة بكفالة كلا النوعين من الأيتام. فبلدنا اليوم يعج بمئات الآلاف من الأيتام بسبب ما تعرض له من جرائم القتل والبطش والحروب والمقابر الجماعية في عهد صدام ولجرائم القتل المنظم والإرهاب والفوضى المتعمدة والقتل العشوائي في عهد الاحتلال، وهؤلاء الأيتام في الوقت الذي يشكلون فيه مسؤولية على الأمة جميعاً تقتضي احتضانهم ورعايتهم وتربيتهم، وإلا تحولوا إلى جيل كامل من المجرمين والقتلة والمرضى النفسيين والمنحرفين أخلاقياً والحاقدين على المجتمع، في الوقت نفسه هم يمثلون فرصة عظيمة للطاعة امتثالاً للتوجيهات النبوية الشريفة المتقدمة.
أما النوع الثاني من اليتيم فهو صفة أكثر الناس فإنهم بين جاهل بالشريعة لا يعرف حتى الأحكام الأساسية التي يبتلى بها يومياً كالوضوء والصلاة والغسل وبعض المعاملات، وبين مفتون قد اضطربت في ذهنه الأفكار وعصفت به الضلالات، وبين متورط في المعاصي بسبب غفلته وعدم وجود من يعظه ويذكره بالله تعالى، وبين إمّعةٍ ينعقون مع كل ناعق - كما وصفهم الحديث الشريف - وبين ضعيف أو مستضعف يحتاج إلى من يقوي فيه عقائده ويشدّ إيمانه، ولعلكم تعرفون أكثر مني مصاديق ذلك من خلال احتكاككم بالناس واطلاعكم على البيئة التي تعيشون فيها، ولعل بعضكم اطلع على الكثير مما ذكرت من خلال التجمعات الكبيرة التي تحصل في بعض المناسبات الاجتماعية والدينية وغيرها.
فأمامكم فرصة واسعة النيل القرب من رسول الله (صلى الله عليه واله) والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) برعاية الأيتام من النوع الأول وكفالتهم بالمساعدات المالية ورعايتهم وتربيتهم وإنشاء مؤسسات الحضانة والتعليم والترفيه لهم ونحوها، وقد أذنت المرجعية بصرف قسم كبير من الحقوق الشرعية لكفالة الأيتام.
والفرصة الأوسع التي أمامكم هي كفالة الأيتام من النوع الثاني وهي متاحة للجميع إذ ما من أحد منا إلا ويعرف مسألةً شرعيةً أو حديثاً شريفاً أو نصيحةً مفيدةً فلنُنظّم جميعاً ببركة الزهراء (عليها السلام) حملة واسعة نقوم خلالها بتعليم الناس كل كلمة مفيدة أو موعظة تسمعونها أو مسألة شرعية تتعلمونها أو عمل صالح تهتدون إليه، أو نصيحة ترشدهم وتصحح أخطاءهم وغيرها كثير.
فلا تبخلوا بكل ذلك على الناس سواء داخل الأسرة أو لزملائكم في العمل أو المنطقة أو رفقائك في السفر، وانقلوها لأكبر عدد منهم ليزداد أجركم وتحظون برضا الله تبارك وتعالى والمنزلة الرفيعة عند رسول الله (صلى الله عليه واله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) والصديقة الطاهرة الزهراء (صلوات الله عليها)، فهذه الوظيفة ليست حكراً على الحوزة العلمية ونحوها بل هي مسؤولية كل من تعلم ولو مسألة واحدة وأنتم شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) فاحفظوا وصيته بالأيتام عند وفاته (صلوات الله عليه) وقد رويت في الكافي بسند صحيح ومما جاء فيها:(الله الله في الأيتام؛ فلا تغبّوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم، فقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه واله) يقول:من عال يتيماً حتى يستغني أوجب الله عز وجل له بذلك الجنة كما أوجب الله لآكل مال اليتيم النار)([30]).
التأسي بصاحب الزمان (عليه السلام):
وتأسوا بإمامكم المهدي الموعود (صلوات الله عليه) فإنه مع ما يعانيه من ألم الابتعاد عن ممارسة دوره الكامل في حياة الأمة فإنه لم يغفل
لحظة عن رعاية شيعته، قال (عليه السلام):(نحن وإن كنا ناوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أرانا الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الفاسقين، فإننا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزب عنا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم، مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون. إنا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكر كم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء فاتقوا الله جل جلاله..)([31]) .
([1]) وسائل الشيعة: 1/45 أبواب مقدمات العبادات، باب 4 ح 9
([2]) تفسير نور الثقلين: 5/358 سورة الضحى ح 13
([3]) معاني الاخبار: 52 ح 4
([4]) تفسير نور الثقلين : 5/358 ح 17
([5]) بحار الأنوار- المجلسي: ٣٣/٤٧
([6])بحار الأنوار: 75/4 ح 8
([7])كنز العمال: 6008
([8])مجمع البيان: 10/214
([9])بحار الأنوار: ۳/75 عن قرب الإسناد بسند مقبول
([10])تفسير نور الثقلين: 597/5
([11])تفسير مجمع البيان: 10 / 214
([12])بحار النوار: 75/4 ح 9
([13])ميزان الحكمة: 9/614
([14])علل الشرائع: 480 ح 1
([15])وسائل الشيعة: 9/483 أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 1 ح 1
([16])بحار الأنوار: ج ٣٦ / ص ١١
([17])الكافي: 1/406، بحار الأنوار: 41/123 ح 3
([18])بحار الأنوار: 77/171 ح 7
([19])بحار الأنوار: 41/52 ح 3 عن مناقب ابن شهرآشوب: 2/114
([20])هذه المجموعة من الأحاديث أثبتها العلامة المجلسي (قده) في بحار الأنوار: ۲/ ۲-6 في الباب ۸ من كتاب العقل والعلم والجهل، أبواب العقل والجهل، عن التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام ) وكتاب الاحتجاج للطبرسي.
([21])الأحاديث من بحار الأنوار الباب المذكور على التسلسل: 1، 4، 5، ۹، ۱۰، ۱۱.
([22])السها في لغة العرب کوکب صغير خفي الضوء، والناس يمتحنون به أبصارهم لصغره وخفائه.
([23])أي كان سبب انقطاعه عنا رغبتنا في الاستتار رعاية الحكمة إلهية عظمى. وفي نسخة (محنتنا) وهو أظهر.
([24])فئام: الجماعات الكبيرة من الناس، وطبقت في بعض الموارد ــ كيوم الغدير ــ على مئة ألف.
([25])بحار الأنوار: 43/178
([26])بحار الأنوار: 43/178 ح 3
([27])بحار الأنوار: 43/178 ح 14
([28])معجم رجال الحديث: 4/266
([29])معجم رجال الحديث: 7/272
([30])الكافي: 7/51-52 باب صدقات النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وفاطمة والأئمة (عليهم السلام) ووصاياهم، ح 7
([31])الاحتجاج للطبرسي: 2/323