القبس/174(يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلۡكَرِيمِ) سورة الانفطار:6
(يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلۡكَرِيمِ)
قال الله تبارك وتعالى:(يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلۡكَرِيمِ) (الانفطار:6) وهو خطاب موجّه الى الانسان على شكل سؤال واستفهام لكنه ليس لطلب المعرفة لان الله تعالى محيط بكل شيء علما، وإنما هو استنكاري لتوبيخ وعتاب المخاطب وتعجب من عصيان الانسان لربّه الكريم وتنبيه العاصي لقبيح فعله، فظاهر السؤال عن العلة وسبب الاغترار وحقيقته عن النتيجة وما حصل بالاغترار أي محاسبته على ما صدر منه من معاصي فيسأله ما الذي غرّر بك ودفعك وسوَّل لك حتى عصيت ربك الكريم وتمرّدت عليه، وهذا فعلٌ مخالف للفطرة الإنسانية التي توجب مقابلة الإحسان بالإحسان، لذا يصفه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله (أحمق الحمق الاغترار)([1]).
وقد ذكرت الآية عدة عناصر تجعل الحجة أبلغ والتوبيخ أعنف:
(أولها) توجيه الخطاب اليه بما انه انسان عاقل مدرك للمسؤولية ولقواعد التعامل وقد أنعم الله تعالى عليه بنعم لا تعد ولا تحصى وقد ذكرت الآيات التالية بعضاً منها (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) (الانفطار:7) الخ، وليذكّره بأنَّ انسانيته هي أعظم النعم (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون:14).
(ثانيها) ويقول له:انك بمعصيتك تجاوزت على ربَّك الذي تّولى تربيتك ورعايتك وصناعتك ودبّر شؤونك كلها وانت لا تعلم.
(ثالثها) وتعديّتَ على الكريم الذي أغدق عليك النعم من دون مقابل ولا توقع نفع منك فإنه تعالى غني عن العالمين، وقد كان من كرمه أنه حلم عنك ولم يعاجلك بالعقوبة وفتح لك باب التوبة والرجوع ولم يمنعه طول العكوف على المعصية من الاستمرار في إحسانه، ولم يقف كرمه عند العفو عن السيئات بل يبدلها إلى حسنات وغير ذلك من مظاهر الكرم.
والتغرير:الخداع والاستغفال والتجهيل بإراءة ظاهر محبوب تميل اليه النفس لكنه لا حقيقة له واخفاء الباطن والحقيقة حتى يسوقه الى الغرض الذي يريده على غفلة منه فإثارة السؤال فيه تنبيه من الغفلة والفات نظر الانسان إلى ما هو عليه من حالة الاغترار الذي ادى به لهذا التجاوز الكبير وتحذير من الوقوع فيه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (سكر الغفلة والغرور أبعد إفاقة من سكر الخمور)([2]).
والمستفاد من الآيات الكريمة والاحاديث الشريفة أن أسباب الاغترار الموجب للوقوع في المعصية عديدة منها:
1- المظاهر الدنيوية الخداعة من مال وجاه ومناصب وانتماءات وعصبيات (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) (الأنعام:70) (وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) (آل عمران:185) اي الخداع والوهم، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (لا تغرنَّك العاجلة بزور الملاهي، فإن اللهو ينقطع ويلزمك ما اكتسبت من المآثم)([3]).
2- تزيين إبليس وجنوده (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (لقمان:33) والغَرور صفة مشبّهة لكل من تأصّل فيه تغرير الآخرين لذا فُسِّر بالشيطان لانه كذلك (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً) (النساء:120).
3- أماني النفس واهواؤها وميلها الى اللذات واتباع الشهوات والعجب والاتكال على الذات (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (الحديد:14). من وصية النبي (صلى الله عليه واله وسلم) لابن مسعود (لا تغترّنَ بصلاحك وعلمك وعملك وبّرك وعبادتك)([4]) وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (جماع الشرّ في الاغترار بالمَهَل، والاتّكال على العمل) وقوله (غرور الأمل يفسد العمل) وقوله (كفى بالمرء غروراً أن يثق بكل ما تسوّل له نفسه)([5]).
4- مكر شياطين الانس وطواغيتهم ودّجاليهم والخداع والتضليل الذي يمارسونه والشبهات التي يلقونها (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ) (آل عمران:24). روي عن الامام الباقر (عليه السلام) قوله (لا تغرّنك الناس من نفسك، فإن الأمر يصل اليك دونهم)([6]) أي لا تغرّنك الناس من حولك ويوهمونك بأمور تسبب اغترارك، فإنك المسؤول عن افعالك وسوف يتخلّون عنك ولا ينفعونك بشيء وعن الامام الصادق (عليه السلام) (لا يغرنّك بكاؤهم، فإن التقوى في القلب)([7]).
ومنشأ الوقوع في هذه الاسباب يرجع الى الجهل روي عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) انه لما تلا الآية عقّب مجيباً على السؤال:(جهله)([8])، هذا الجهل يشمل جهل الإنسان بربّه وحقوقه عليه ولزوم طاعته وعليه أن يْؤثر رضا ربّه على رضا نفسه أو أي أحد من المخلوقات، وان يتيقن انه بمحضر خالقه وتحت نظره سبحانه (عميت عين لا تراك عليها رقيبا)([9])، والجهل بمبدأ الانسان ومعاده ومآله، والجهل بحقيقة الدنيا الزائلة، والجهل بحقيقة الشيطان ومكره وخدعه وعداوته لبني آدم ونحو ذلك.
اما الانسان الصالح فانه كلما ازداد معرفة بربه الكريم يزداد طاعة ومحبة له تبارك وتعالى ويزداد خوفاً من عصيانه وغضبه سبحانه (سبحانك وبحمدك من ذا يعرف قدرك فلا يخافك، ومن ذا يعلم ما انت فلا يهابك)([10]).
لذا قد يُنسب التغرير الى أسباب أخرى ليست هي بنفسها موجبة له، لكن الانسان لجهله وغفلته عن حقائق الأمور وعواقبها اغترَّ بها كحلم الله تعالى وعدم اخذه العاصين بالعقوبة عند صدور كل ذنب، واغداقه النعم على الكفار، وستره على قبائح العباد، وهذه كلها من الصفات الحسنى وكرم من الله تعالى ورحمة بالعباد لكن الانسان لجهله يسيء الاستفادة منها قال الله تبارك وتعالى (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) (آل عمران:196-197) أي لا تجعل حلم الله تعالى بإمهال الكفار وعدم معالجتهم بالعقوبة سبباً للاغترار والغفلة عن الحساب والعقاب.
وفي دعاء الامام السجاد (عليه السلام) في ليالي شهر رمضان المعروف بدعاء ابي حمزة الثمالي (وَيَحْمِلُني وَيُجَرَّئُني عَلى مَعْصِيَتِكَ حِلْمُكَ عَنّي، وَيَدْعُوني اِلى قِلَّةِ الْحَياءِ سِتْرُكَ عَلَيَّ، وَيُسْرِعُني اِلَى التَّوَثُّبِ عَلى مَحارِمِكَ مَعْرِفَتي بِسِعَةِ رَحْمَتِكَ، وَعَظيمِ عَفْوِكَ)([11]) وفيه أيضاً (اِلهي لَمْ اَعْصِكَ حينَ عَصَيْتُكَ وَاَنَا بِرُبُوبِيَّتِكَ جاحِدٌ، وَلا بِاَمْرِكَ مُسْتَخِفٌّ، وَلا لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌّ، وَلا لِوَعيدِكَ مُتَهاوِنٌ، لكِنْ خَطيئَةٌ عَرَضَتْ وَسَوَّلَتْ لي نَفْسي، وَغَلَبَني هَوايَ، واَعانَني عَلَيْها شِقْوَتي، وَغَرَّني سِتْرُكَ الْمُرْخى عَلَيَّ).
اذن بهذا التقريب يمكن فهم معنى نسبة الاغترار الى حلم الله تعالى أو كرمه أو رحمته، وهذا دفع بعض المفسرين الى القول: (وانما قال الكريم دون سائر اسمائه وصفاته لانه كان لقنه الإجابة حتى يقول غرّني كرم الكريم)([12]). وهذا التلقين بحد ذاته مظهر آخر للكرم الإلهي.
لكن السيد الطباطبائي (+) اعترض على هذا الفهم قائلاً: (ومن هنا يظهر ان لا محل لقول بعضهم:ان توصيف الرب بالكريم من قبيل تلقين الحجة وهو من الكرم ايضاً، كيف؟ والسياق سياق الوعيد، والكلام ينتهي الى مثل قوله (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ، يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ) (الانفطار:14- 15 )، ولو كفى الانسان العاصي قوله (غرني كرمك) لصرف العذاب عن الكافر المعاند كما يصرفه عن المؤمن العاصي، ولا عذر بعد البيان)([13]).
أقول:لا نجد وجهاً للاعتراض:
1- لان هذا المعنى وارد في كلام المعصومين (عليهم السلام) كما تقدم.
2- واتضح مما تقدم ان الكرم والرحمة ونحوهما ليست هي السبب المباشر للاغترار الانسان حتى يعترض عليه، وانما السبب سوء استفادة الانسان منها وهي حالة موجودة حتى مع كرام الخلق كما في الرواية عن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام):(انه وجد شاة له قد كُسرت رجلها، فقال لغلام له:من فعل هذا؟ قال الغلام:أنا، قال:لم فعلت ذلك، قال:لأجلب لك الهم والغم، فتبسم الإمام (عليه السلام) وقال:لأسرُّك فاعتقه وأجزل له العطاء)([14]). (ان علي بن الحسين (عليه السلام) دعا مملوكه مرتين فلم يجبه فلما أجابه في الثالثة قال له:يا بني اما سمعت صوتي قال:بلى، قال فما بالك لم تجبني، قال:أمنتك، قال (عليه السلام):الحمدلله الذي جعل مملوكي يأمنّي)([15]).
3- ان هذا الاعتراف لا يفيد العاصي بل يوجب استحقاقه للعقوبة المضاعفة، لانه قابل الكرم والحلم والعفو بالعصيان والتمرد واغّتر بالحسنة والنعمة فحوّلها الى سيئة ونقمة بدل شكرها وأداء حقها وأمن مكر الله تعالى، واذا نفعه هذا الجواب فلما فيه من الاعتراف بسعة كرم الله تعالى حتى طمع في معصيته وهذا الاعتراف أمر يحصل في الآخرة ولا علاقة له بمعاصيه في الدنيا.
4- ان الكافر لا يستطيع ان يقول هذا الكلام لانه لم يكن يعتقده ولا يعرفه، وليس كرم الله تعالى الذي غرّه بالمعصية وإنما غرّه هواه وتسويل الشيطان وزخارف الدنيا. كما صرحت الآيات الكثيرة التي اوردناها في أسباب الاغترار.
5- ان هذا التلقين لا يفهمه الا أهل المعرفة خصوصاً وان الآية لم تذكر بصراحة ووضوح:أيها الكافر او العاصي قل (غرّني كرمك) عندما تسأل:لماذا كفرت وعصيت، وانما اكتفت بوصف الرب بالكريم وفهم أهل المعرفة من ذكر هذا الاسم دون غيره انه إشارة الى هذا المعنى، فهذا التلقين للحجة لا يفهمه الا من يستحقه ومثل هذا لا يغريه كرم الله تعالى بالمعصية وانما بمزيد من الطاعات واجتناب المعاصي والاعتراف بالعجز والتقصير ((فاذا كان الفرد مستحقاً لفهمها كان مستحقاً لتطبيقها ويتحمل مسؤوليتها، اما السائرون في المعصية والموغلون في الرذيلة فلا يعرفونها ولا يفهمونها ابداً، وليس لهم التوفيق في الرجوع الى مصادر التفسير))([16]).
اقول:ولو قرأوها في التفاسير أو سمعوها من أحد فانهم لا ينتفعون بها لأنهم سيذهلون عنها.
6-ان هذا السؤال يقع يوم القيامة بحسب الظاهر حيث يكون باب العمل والتكليف مغلقاً، وليس في الدنيا حتى يكون سبباً للتغرير بالعاصي، فقول (غرني كرمك) يكون لاستدرار الرحمة والعفو وليس للتمادي في الذنوب.
7- ان السيد الطباطبائي يعلم ان هذا المعنى يليق بكرم الله تعالى، وان الله تعالى عند حسن ظن عبده، وانه عز وجل أكرم من ذلك، فقد يجيز كذب العبد اذا ادعّاه تطبيقاً لقوله تعالى (وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ) (يس:57) ففي تفسير القمي بسنده عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) قال:قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) (إن آخر عبد يؤمر به الى النار، فاذا أٌمر به التفت، فيقول الجبار جلّ جلاله:ردّوه فيردّونه فيقول:لم التفتَّ إليَّ؟ فيقول:يا ربِّ لم يكن ظني بك هذا، فيقول:وما كان ظنّك بي؟ فيقول:يا ربِّ كان ظني بك ان تغفر لي خطيئتي وتسكنني جنتّك، قال:فيقول الجبار:يا ملائكتي، وعزّتي وجلالي وآلائي وعلّوي وارتفاع مكاني، ما ظنّ بي عبدي هذا ساعة من خير قطّ ولو ظن بي ساعة من خير ما روّعته بالنار، أجيزوا له كذبه فأدخلوه الجنة)([17]).
8- اننا إنما نذكر هذه المعاني والروايات لنزداد معرفة بالله تعالى فنزداد حباً له تعالى وطاعة له سبحانه وتعلقاً به ونزداد فخراً واعتزازاً بأن ربنا ومولانا هو هذا الرب الكريم وليس مثل الكفار والمشركين والملحدين واللادينين الذين لهم آلهة وهمية مزيفة (إلهي كفى بي عزاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي ربا)([18])
وقد استقرب السيد الشهيد الصدر الثاني (+) إفادة الآية لتلقين الحجة، واحتمل وجهاً لاعتراض السيد الطباطبائي على هذا المعنى قال فيه: ((ولعل الذي حدى بالسيد الطباطبائي الى نفي هذا المعنى لكي لا يكون كلام المشهور سبباً للذنوب، فجزاه الله خيرا، فقد سدَّ الباب وبيّن ان هذه الآية لا تعطي ذلك اطلاقاً حتى ان الناس اذا قرأوا القرآن او قرأوا التفاسير لا يكونون مطمئنين لذنوبهم، والا لو لا هذا العنوان الثانوي في الحقيقة – وهو انسداد باب الذنوب – فإن الآية تعطي ذلك حقاً (غرني كرمك) ولذا اوصي المبلغين وقادة المجتمع ان لا يركزوا على الروايات الباعثة على الاطمئنان والشفاعة وغفران الذنوب، لان الناس ليسوا على مستوى التطميع برحمة الله، فينفتح باب الذنوب ويستغل الشيطان هذه الثغرة للمرور إلى نفوس الناس وإغوائهم، وتكون ذممكم مشغولة من هذه الناحية، واذكر اني كنت ذات يوم في مجلس تعزية فصاح أحدهم (من صلّى عليَّ مرة لم تبقَ من ذنوبه مرة)([19]) فهذا القول قد يكون صدر من النبي (صلى الله عليه واله وسلم) غير أنه صدر للمستحق لا لمن لا يستحق، اما ان يعلن في مجلس عام فهو مصيبة من المصائب، لانها اذا وصلت الى غير المستحقين يتذرعون بها لاقتراف الذنوب واقتحام المعاصي، وحينها اعترضت على صاحب المجلس (&)- وكان من فضلاء الحوزة – ان لا يسمح بمثل ذلك)).
أقول:هذه المخاوف في محلها إذ ان هذا الفهم قد اسيء استخدامه لدى العامة فعلاً فتراهم يوغلون في المعاصي والمنكرات ولما تنهى أحدهم يقول (الله كريم) وهذا جهلٌ فظيع بعلاقة العبد بربّه، وكأنهم لم يسمعوا الآيات الكثيرة كقوله تعالى (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم:7) وقوله تعالى (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ) (الحجر:49-50) وفي دعاء الافتتاح في ليالي شهر رمضان (وأيقنت أنك أنت أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة، وأشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة) فلابد من وضع هذه الإشارات الكريمة في سياقها الإيجابي الذي ذكرناه في النقطة (8) وليس سياقها السلبي، وهذا المعنى للآية إنما يُذكر شاهداً على سعة كرم الله تعالى ليزداد المؤمن محبة وتعلقاً بربه وليس فيه دفع للمعاصي والعياذ بالله بل إن فيه تأكيداً للحجة البالغة على العاصين.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) عند تلاوته هذه الآية (أَدْحَضُ مَسْئُولٍ حُجَّةً وَأَقْطَعُ مُغْتَرٍّ مَعْذِرَةً لَقَدْ أَبْرَحَ جَهَالَةً بِنَفْسِهِ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا جَرَّأَكَ عَلَى ذَنْبِكَ وَمَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ وَمَا أَنَّسَكَ بِهَلَكَةِ نَفْسِكَ أَمَا مِنْ دَائِكَ بُلُولٌ أَمْ لَيْسَ مِنْ نَوْمَتِكَ يَقَظَةٌ أَمَا تَرْحَمُ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَرْحَمُ مِنْ غَيْرِكَ فَلَرُبَّمَا تَرَى الضَّاحِيَ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ فَتُظِلُّهُ أَوْ تَرَى الْمُبْتَلَى بِأَلَمٍ يُمِضُّ جَسَدَهُ فَتَبْكِي رَحْمَةً لَهُ فَمَا صَبَّرَكَ عَلَى دَائِكَ وَجَلَّدَكَ عَلَى مُصَابِكَ وَعَزَّاكَ عَنِ الْبُكَاءِ عَلَى نَفْسِكَ وَهِيَ أَعَزُّ الْأَنْفُسِ عَلَيْكَ وَكَيْفَ لَا يُوقِظُكَ خَوْفُ بَيَاتِ نِقْمَةٍ وَقَدْ تَوَرَّطْتَ بِمَعَاصِيهِ مَدَارِجَ سَطَوَاتِهِ فَتَدَاوَ مِنْ دَاءِ الْفَتْرَةِ فِي قَلْبِكَ بِعَزِيمَةٍ وَمِنْ كَرَى الْغَفْلَةِ فِي نَاظِرِكَ بِيَقَظَةٍ وَكُنْ لِلَّهِ مُطِيعاً وَبِذِكْرِهِ آنِساً وَتَمَثَّلْ فِي حَالِ تَوَلِّيكَ عَنْهُ إِقْبَالَهُ عَلَيْكَ يَدْعُوكَ إِلَى عَفْوِهِ وَيَتَغَمَّدُكَ بِفَضْلِهِ وَأَنْتَ مُتَوَلٍّ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ فَتَعَالَى مِنْ قَوِيٍّ مَا أَكْرَمَهُ وَتَوَاضَعْتَ مِنْ ضَعِيفٍ مَا أَجْرَأَكَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَأَنْتَ فِي كَنَفِ سِتْرِهِ مُقِيمٌ وَفِي سَعَةِ فَضْلِهِ مُتَقَلِّبٌ فَلَمْ يَمْنَعْكَ فَضْلَهُ وَلَمْ يَهْتِكْ عَنْكَ سِتْرَهُ بَلْ لَمْ تَخْلُ مِنْ لُطْفِهِ مَطْرَفَ عَيْنٍ فِي نِعْمَةٍ يُحْدِثُهَا لَكَ أَوْ سَيِّئَةٍ يَسْتُرُهَا عَلَيْكَ أَوْ بَلِيَّةٍ يَصْرِفُهَا عَنْكَ فَمَا ظَنُّكَ بِهِ لَوْ أَطَعْتَهُ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ كَانَتْ فِي مُتَّفِقَيْنِ فِي الْقُوَّةِ مُتَوَازِيَيْنِ فِي الْقُدْرَةِ لَكُنْتَ أَوَّلَ حَاكِمٍ عَلَى نَفْسِكَ بِذَمِيمِ الْأَخْلَاقِ وَمَسَاوِئِ الْأَعْمَالِ وَحَقّاً أَقُولُ مَا الدُّنْيَا غَرَّتْكَ وَلَكِنْ بِهَا اغْتَرَرْتَ وَلَقَدْ كَاشَفَتْكَ الْعِظَاتِ وَآذَنَتْكَ عَلَى سَوَاءٍ وَلَهِيَ بِمَا تَعِدُكَ مِنْ نُزُولِ الْبَلَاءِ بِجِسْمِكَ وَالنَّقْصِ فِي قُوَّتِكَ أَصْدَقُ وَأَوْفَى مِنْ أَنْ تَكْذِبَكَ أَوْ تَغُرَّكَ وَلَرُبَّ نَاصِحٍ لَهَا عِنْدَكَ مُتَّهَمٌ وَصَادِقٍ مِنْ خَبَرِهَا مُكَذَّبٌ وَلَئِنْ تَعَرَّفْتَهَا فِي الدِّيَارِ الْخَاوِيَةِ وَالرُّبُوعِ الْخَالِيَةِ لَتَجِدَنَّهَا مِنْ حُسْنِ تَذْكِيرِكَ وَبَلَاغِ مَوْعِظَتِكَ بِمَحَلَّةِ الشَّفِيقِ عَلَيْكَ وَالشَّحِيحِ بِكَ وَلَنِعْمَ دَارُ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِهَا دَاراً وَمَحَلُّ مَنْ لَمْ يُوَطِّنْهَا مَحَلًّا وَإِنَّ السُّعَدَاءَ بِالدُّنْيَا غَداً هُمُ الْهَارِبُونَ مِنْهَا الْيَوْمَ إِذَا رَجَفَتِ الرَّاجِفَةُ وَحَقَّتْ بِجَلَائِلِهَا الْقِيَامَةُ وَلَحِقَ بِكُلِّ مَنْسَكٍ أَهْلُهُ وَبِكُلِّ مَعْبُودٍ عَبَدَتُهُ وَبِكُلِّ مُطَاعٍ أَهْلُ طَاعَتِهِ فَلَمْ يُجْزَ فِي عَدْلِهِ وَقِسْطِهِ يَوْمَئِذٍ خَرْقُ بَصَرٍ فِي الْهَوَاءِ وَلَا هَمْسُ قَدَمٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا بِحَقِّهِ فَكَمْ حُجَّةٍ يَوْمَ ذَاكَ دَاحِضَةٌ وَعَلَائِقِ عُذْرٍ مُنْقَطِعَةٌ)([20]).
علماً بأن المؤمن الذي يتأسى بربّه وُصِفَ في بعض الأحاديث الشريفة بانه لكرمه يغري الآخر بالتجاوز عليه(المؤمن غرّ كريم)([21]) لانه لا يظن الشر والسوء ولا يحتمله في الآخر ويتغافل عنه كرماً منه وإحساناً في أخلاقه لا جهلاً ولا لقلة فطنته ويظن الآخر أنه قد خدعه كالذي يروى عن أحد أسرى بدر حينما توسل لرسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) أن يفك أسره ويبقيه للصبية والعيال فعفا عنه رسول الله(صلى الله عليه واله وسلم) ولما عاد الى مكة قال لقريش قال لهم:(خدعت كريماً فانخدع ([22])،ثم أُسِر في المعركة التالية وأعاد نفس الطلب لكن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) لم يمنحه فرصة أخرى وعاقبه بما يستحقه.
وبعيداً عن هذا المعنى وإشكالاته فإنه يمكن أن يكون إيراد لفظ الكريم لبيان أن الله تعالى لا يريد من سؤاله هذا نفعاً أو فائدة لأنه كريم لا يريد بعطائه جزاءً ولا شكورا ولا تضرّه معاصي العاصين كما لا تنفعه طاعة المطيعين وإنما يراد هداية العباد وصلاحهم قال تعالى (وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَـن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل:40).
ويمكن أن نفهم الآية على نحو آخر بحيث لا يكون المخاطب فيها الانسان العاصي، بل المطيع الطامع بمراتب الكمال، فيُسأل ما الذي اغراك وطمّعك حتى صرت تطلب هذه المنازل السامية، فيقول:أطمعني كرمك يا ربّي لانني اراك تعطي الكثير بالقليل وتبتدى بالنعم من لا يستحق وتعطي من سألك ومن لم يسألك ومن لم يعرفك، فالتعجب في الآية قد يكون من انحطاط الانسان وتسافله وقد يكون من رقيّه وتساميه اذا نظرنا الى الآية بمعزل عن السياق الدال على الأول.
ونذكر الآن رواية عن الامام الصادق (عليه السلام) تتضمن مثالاً للمغّتر بما تمنيه نفسه ويملي عليه جهله، ومثالاً لاغترار الناس بنماذج ظاهرها التدين والعمل الصالح الا انها في الحقيقة على العكس من ذلك، فقد روي عنه (عليه السلام) أنه قال (قوله عز وجل: (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ)، قال (يقول ارشدنا الى الصراط المستقيم ارشدنا للزوم الطريق المؤدي الى محبتك، والمبلّغ الى دينك والمانع من ان نتّبع اهواءنا فنعطب او نأخذ بآرائنا فنهلك) ثم قال (عليه السلام) فان من اتبع هواه وأعجب برأيه كان كرجل سمعت غثاء العامة تعظمه وتصفه فأحببت لقاءه من حيث لا يعرفني، فرأيته قد أحدق به خلق كثير من غثاء العامة، فما زال يراوغهم حتى فارقهم ولم يقر، فتبعته فلم يلبث أن مر بخباز فتغفله فأخذ من دكانه رغيفين مسارقة فتعجبت منه، ثم قلت في نفسي:لعله معاملة، ثم مر بعده بصاحب رمان فما زال به حتى تغفله وأخذ من عنده رمانتين مسارقه فتعجبت منه، ثم قلت في نفسي:لعله معاملة، ثم أقول:وما حاجته إذاً إلى المسارقة؟! ثم لم أزل أتبعه حتى مر بمريض فوضع الرغيفين والرمانتين بين يديه ـ ثم ذكر أنه سأله عن فعله ـ فقال له:لعلك جعفر بن محمد؟ قلت:بلى، فقال لي:فما ينفعك شرف أصلك مع جهلك؟! فقلت:وما الذي جهلت منه؟ قال:قول الله عزّ وجلّ (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا) (الأنعام:160)، وإني لما سرقت الرغيفين كانت سيئتين، ولما سرقت الرمانتين كانت سيئتين، فهذه أربع سيئات، فلما تصدقت بكل واحدة منها كان لي أربعين حسنة، فانتقص من أربعين حسنة أربع سيئات وبقى لي ست وثلاثون حسنة، فقلت له:ثكلتك امك، أنت الجاهل بكتاب الله، أما سمعت الله عزّ وجلّ (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة:27) إنك لما سرقت رغيفين كانت سيئتين، ولما سرقت رمانتين كانت أيضا سيئتين، ولما دفعتهما إلى غير صاحبهما بغير أمر صاحبهما كنت إنما أضفت أربع سيئات إلى أربع سيئات، ولم تضف أربعين حسنة إلى أربع سيئات فجعل يلاحظني فانصرفت وتركته، قال الصادق (عليه السلام):بمثل هذا التأويل القبيح المستكره يضلون ويضلون)([23]).
([1]) غرر الحكم: رقم 2915
([2]) غرر الحكم: رقم 5651
([3]) غرر الحكم: رقم 10363
([4]) مكارم الاخلاق: 2/350
([5]) غرر الحكم: رقم 4771، 6390، 7053
([6]) بحار الانوار: 72/323 ح 2.
([7]) بحار الانوار: 70/ 283 ح 4.
([8]) الدر المنثور للسيوطي: 8/439.
([9]) مفاتيح الجنان، دعاء الامام الحسين (عليه السلام) يوم عرفة.
([10]) مفاتيح الجنان، من دعاء الصباح عن أمير المؤمنين (عليه السلام).
([11]) مفاتيح الجنان للشيخ عباس القمي: 340، 335.
([12]) حكاه في مجمع البحرين: مج 2/263 مادة (غرر) عن الشيخ ابي علي وفي مادة (لقن) ايضاً وذكره آخرون.
([13]) الميزان في تفسير القرآن: 20/248.
([14]) موسوعة المصطفى والعترة (صلى الله عليهم أجمعين) للشاكري: 5/ 90.
([15]) بحار الانوار: 46/56 ح 6 عن ارشاد المفيد ومناقب ابن شهراشوب إعلام الورى.
([16]) منّة المّنان في الدفاع عن القرآن للسيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر: 4/379.
([17]) بحار الانوار 7/87 عن ثواب الاعمال، وحكاه في هامش منّة المّنان: 4/382 عن تفسير القمي: 2/262-265
([18]) بحار الأنوار- المجلسي: 91/94
([19]) بحار الانوار: 91/63، مستدرك الوسائل: 5/234 أبواب الذكر، الباب 31 ح 13.
([20]) نهج البلاغة خطبة 223.
([21]) امالي الطوسي ج 2 ص 77.
([22]) البداية والنهاية- ابن كثير: 5/447, ط. هجر
([23]) وسائل الشيعة: 9/467 كتاب الزكاة ، أبواب الصدقة باب 46، ح 6.