القبس/173(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) سورة عبس:24

| |عدد القراءات : 371
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ)

 (فَلْيَنْظُرِ) دعوة من الله تعالى للنظر بتدبر وتأمل وتفكر وليس مجرد النظر بالعين، وإن كان هذا النظر فيه فائدة نفسية وصحية كما أثبت العلم الحديث خلال هذه الأيام.

وهذه الدعوة موجهة الى (الْإِنْسَانُ) كل انسان يمتلك مقومات الإنسانية بأن يكون له عينٌ يبصر بها وله اذن يسمع بها، وله عقلٌ يفهم به، وليس كالذين (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف:179).

والحياة كلها حولنا مليئة بالعبر والدروس، لكن الله تعالى اختار لنا الطعام لنتدبر فيه ونأخذ منه الموعظة لأنه ألصق الاشياء بالإنسان في هذه الدنيا وحاجته اليه يومية ومستمرة وبه ديمومة الحياة، فأخذ العبرة منه يكون سهلاً ومؤثراً.

وحينئذٍ يحصل الانسان من هذا النظر والتأمل على عدة دروس ويلتفت الى عدة امور:

الأول:في الأية احتجاج على منكري وجود الخالق فيُخاطب عقولهم ويقول لهم أنظروا الى هذه المفردة في حياتكم التي تشتركون جميعاً في التعاطي معها ،كيف وجدت وهُيئت لها الظروف المناسبة ولاحظوا تنوع النباتات وكلها ترجع في أصلها الى عناصر واحدة وهي المعروفة كيميائياً وانما أختلفت في نسب تركيبها ،ولاحظوا تنوع استخداماتها فبعضها طعامٌ أساسي وبعضها فواكه للتمتع لكم وبعضها للإنعام وبعضها للدواء وبعضها للألبسة أو الفراش كالقطن والكتان ونحو ذلك ،وحينئذٍ لابد أن يحكم العقل بوجود خالق مدبر حكيم عالم قادر ولا يمكن ان تحصل كل هذه التفاصيل في هذا الطعام من دونه، ومن يقول ذلك –كالملحدين- أو يجعل له شريكاً لا يمتلك هذه الصفات فإنّه لا يحترم عقله .

الثاني:وفي الآية احتجاج على منكري المعاد ودليل على قدرة الله تعالى على بعث الأموات ونشرهم فكما أن الأرض الميتة إذا سقيت بالماء تنبعث فيها الحياة وتخرجُ منها انواع الشجر والثمار فكذلك يكون بعث الموتى من قبورهم ،ومثل هذه الاحتجاجات كثيرة في القرآن الكريم كقوله تعالى (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ) (فاطر:9 ) (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ،ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الحج:5-6) ،وقال تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (فصلت:39).

الثالث:شكر الله تعالى والاعتراف بالعجز عن تعداد نعمه فضلاً عن شكرها ،فلو تأمل الانسان في الطعام وانواعه وكيفية وصوله اليه لأيقنَ بان نعم الله تعالى لا تُعّد ولا تحصى ،خُذ مثلاً رغيف الخبز الذي يشترك كل الناس في تناوله وهو الجزء الاساسي من الطعام وتأمل فيه النعم ابتداءاً من خلق الأرض وشقها حتى تستطيع مص الماء واخراج النبات وتجهيزها بالعناصر الأساسية لتغذية النباتات وقابلياتها على الانبات ،ومن فلق الحبة وخلق البذرة التي هي أصل النبات ،وأنزل من السماء الماء الذي هو أصل كل شيء حي وفق منظومة عجيبة من تبخر الماء وتكاثفه ونزوله، وخلق الشمس والهواء الضرورية لنمو النبات وتغذيته ،ومن ثم تعليم الانسان الزراعة والعناية بالسنابل حتى تنضج ثم حصدها وتنقيتها ثم نقلها وطحنها وعجنها وخبزها فكم من الناس عملوا ،وكم من الاجهزة والآلات سُخرت لك حتى يصل اليك هذا الرغيف الذي لا يلتفت اليه أحد ولا ينظر الى ما وراءه من النعم ،لاحظ بقية الآية  (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ،ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ،فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا، وَعِنَبًا وَقَضْبًا، وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا، وَحَدَائِقَ غُلْبًا، وَفَاكِهَةً وَأَبًّا، مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) (عبس:24  32).

الرابع:أن ينظر الانسان في طعامه ليتأكد من كونه حلالاً طيباً، لأن الذين يأكلون الحرام (إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (النساء:10)، ولكي يكون الطعام حلالاً لابد ان تنظر في عدة جهات:

- (منها) نفس الطعام كأن يكون اللحم مذكى وغير مخلوط بمادة محرمة او نجسة كبعض الحلويات المخلوطة بجيلاتين حيواني من دولة غير مسلمة أو الصمون الذي يُطلى بفرشاة مصنوعة من شعر الخنزير، أو يكون الطعام غير مأذون في تناوله من قبل صاحبه لسبب أو أخر.

- (ومنها) طريقة تحصيله وكسبه فلا يكون بمعاملة محرمة وما أكثرها في السوق حتى ورد في الحديث الشريف عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: (من أراد التجارة فليتفقه في دينه ليعلم بذلك ما يحلّ لهُ مما يحرم عليه ،ومن لم يتفقه في دينه ثم أتجرّ تورط في الشبهات) ([1]) .

أو يسرق المال العام بطريقة غير شرعية، أو يأخذ حق غيره بحيلةٍ وخداع ونحو ذلك، فهذه الأمور كلها يجب الانتباه اليها حتى يضمن كون الطعام حلالاً طيباً ،ولكل شريحة في المجتمع كالأطباء والمحامين والتجار والصيادلة والعمال والمدرسين وغيرهم فقهٌ خاص بهم ،وقد نشرنا العشرات من الكراريس في هذا المجال.

الخامس:أن يلتفت الى الجانب المعنوي للأية فان الطعام يُضرب مثالاً للعلم والمعرفة لأن كلاً منهما غذاء ،فأحدهما للبدن والأخر للروح عن زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) :(في قول الله عز وجل (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) قلتُ :ما طعامه قال (عليه السلام):علمه الذي يأخذه عمن يأخذهُ) ([2]).

وكما ان حاجة البدن للطعام دائمة ومستمرة ،فأن حاجة الروح والقلب للعلم والمعرفة والموعظة والتذكير بالله تعالى دائمة ومستمرة قال تعالى (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (طه:114) ،وروي عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قوله (إذا اتى عليَّ يومٌ لا أزداد فيه علماً يُقربني الى الله فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم) ([3]) .

فلابد أن ينظر الانسان في أحكامه الشرعية ومواقفه في مختلف شؤون الحياة ومنهجه وسلوكه عمن يأخذها ،وهل إن ذلك الأخذ والرجوع بحجة شرعية معتبرة أم لا ،فيلتفت الى كون مصادرها صالحة ليسعد الانسان روي عن الامام الجواد (عليه السلام) قوله (من أصغى الى ناطقٍ فقد عبدهُ ،فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق ينطق عن لسان ابليس فقد عبد ابليس)([4]) وهذا هو حال أغلب الناس ينعقون مع كل ناعق ويميلون مع كل ريح بحسب اهوائهم وامزجتهم وانفعالاتهم فيصبحون لقمة سائغة لكل من يريد أن يعبّئهم لمشروعه الخاص.

 وتراهم يستسلمون للإشاعات والأكاذيب التي تروجها وسائل الاعلام وكأنها حقائق حتى أصبحت هذه الاشاعات من أفتك الاسلحة التي توجه الى الخصوم لتقضي عليهم من دون قتال وتم القضاء معنوياً على جيوشٍ وعلى شخصياتٍ بالإشاعة والافتراء والتسقيط كمكائد عمرو بن العاص ومعاوية([5]) ضد جيش أمير المؤمنين (عليه السلام) وتسقيط سعد بن عبادة وما حصل للإمام الحسن (عليه السلام) مع جيشه وغيرها من الشواهد، وما تمر به البلاد من كارثة أمنية وإنسانية شاهد حي على ذلك.

ولو أخذ الناس بالتعاليم القرآنية وتحققوا عن مصادر الخبر لما وقعوا في الأوهام والشكوك قال تعالى (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء:83)، وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات:6).



([1]) وسائل الشيعة : 12/283 أبواب أداب التجارة باب 1 ح 4.

([2]) الكافي :1/39 حديث 8.

([3]) ميزان الحكمة : 6/145 عن كنز العمال حديث 28687.

([4]) تحف العقول :336.

([5]) أنظر: الطبقات الكبرى- محمد بن سعد: 4/257,- موسوعة الإمام علي(عليه السلام) في الكتاب والسنة والتاريخ- الريشهري: 6/266