القبس/170(يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ ١ قُمۡ فَأَنذِرۡ) سورة المُدّثّر:2

| |عدد القراءات : 370
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

 (يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ ١ قُمۡ فَأَنذِرۡ)

(الْمُدَّثِّرُ) أصلها المتدثر والمخاطب هو رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) حتى ورد في الرواية ([1]) أن من اسمائه ذلك ويعني عرفاً من ألقى عليه كساءً أو غطاءً وتلفّف به لأجل النوم أو وقاية من البرد ونحو ذلك.

وهو في اللغة أوسع من ذلك إذ يعني التدثر (تضاعف شيء وتناضد بعضه على بعض)([2]) كما في معجم مقاييس اللغة أي تراكم وتكاثر شيء على شيء ولذا يطلق على المال الكثير:الدثر، فالمعنى الاوسع للمتدثر هو المحاط والمتغطي بما يمنعه من الحركة والفعالية سواء كان مادياً كما يفهم العرف أو معنوياً كالكسل والترف وحب الراحة والخوف والقلق والاغلال الدنيوية التي تعيق الحركة نحو التكامل مثل المال والمكانة الاجتماعية والأهل والولد وغير ذلك.

فالآيات الكريمة تأمر النبي (صلى الله عليه واله وسلم) بأن ينهض من دثاره ويقوم بالإنذار وتبليغ الرسالة الإلهية التي كُلِّف بها، ويشهد سياق الآيات أنها من أوائل ما نزل من القرآن الكريم حتى روى بعضهم أنها أول ما نزل منه ففسّر الدثار بأنه ((اعتزاله (صلى الله عليه واله وسلم) وغيبته عن النظر فهو خطاب له بما كان عليه في غار حراء))([3])، لكن ما ورد في سبب نزولها وتعّرف النبي (صلى الله عليه واله وسلم) على الوحي النازل عليه من قبل، مضافاً إلى تضمن الآيات لتكذيب قريش يدل على أنها مسبوقة بآيات البعثة النبوية الشريفة، فربما كانت الآيات الأولى التي أمرت بإعلان الدعوة إلى الإسلام والجهر بها بعد ان كانت سرّية في بدايتها، أو ان المقطع الأول من السورة نزل أولاً قبل التكذيب لإعداد النبي (صلى الله عليه واله وسلم) للمسؤولية القادمة شأنها في ذلك شأن مطلع سورة المزمِّل من دون ان تدل على ان حالة التدثر أو التزمل موجودة فعلاً وبذلك يصح القول بأنها أول ما نزل من القرآن بعد العلق أو هي والحمد ونحو ذلك.

ويمكن أن يراد بالدثار مرحلتين زمنيتين من مراحل الرسالة الإسلامية:

الأولى:بعد نزول الوحي مباشرةً حيث امتلأ النبي (صلى الله عليه واله وسلم) هيبة من ثقل الرسالة التي كلِّف بها وحلّت به رعشة وقشعريرة فتدثّر وهنا جاءه الأمر بأن يتجاوز هذه الحالة ويستعد نفسياً وروحياً لحمل الرسالة الإلهية.

روى في الدر المنثور عن البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم بالإسناد عن يحيى بن ابي كثير قال ( سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن فقال:يا أيها المدثر قلت:يقولون اقرأ باسم ربك الذي خلق فقال أبو سلمة:سألت جابر بن عبد الله عن ذلك قلت له مثل ما قلت، قال جابر:لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قال:جاورت بحراء فلما قضيت جواري فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ونظرت خلفي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجئثت منه رعبا فرجعت فقلت:دثروني فدثروني، فنزلت يا أيها المدثر قم فأنذر إلى قوله:والرجز فاهجر ) ([4])

الثانية:بعد ما لاقاه النبي (صلى الله عليه واله وسلم) من تكذيب قريش واستهزائهم بالرسالة وتحشيد المجتمع ضد الرسول الكريم (صلى الله عليه واله وسلم) فبلغ به الغم والضغط النفسي مبلغاً كبيراً فتدثر بسبب الشعور بالاحباط لالتقاط الأنفاس كما يقال والتخفيف عن نفسه الشريفة فأمره الله تعالى أن يخرج من حالة الانكفاء على الذات وان لا يكترث بجمعهم وحشدهم وقوتهم فأن الله تعالى سيتكفل بدحرهم جميعاً ولينطلق هو (صلى الله عليه واله وسلم) بمشروعه الإلهي.

روى في الدر المنثور بسنده عن ابن عبّاسٍ أنّ الوليد بن المغيرة صنع لقريشٍ طعامًا، فلمّا أكلوا قال:ما تقولون في هذا الرّجل؟ فقال بعضهم:ساحرٌ، وقال بعضهم:ليس بساحرٍ، وقال بعضهم:كاهنٌ، وقال بعضهم:ليس بكاهنٍ، وقال بعضهم:شاعرٌ، وقال بعضهم:ليس بشاعرٍ، وقال بعضهم:سحرٌ يؤثر (وأجمع قولهم على أنّه سحرٌ يؤثر) فبلغ ذلك النّبيّ - (صلى الله عليه واله وسلم) سلّم - فحزن وقنّع رأسه وتدثّر، فأنزل اللّه - عزّ وجلّ - (يا أيّها المدّثّر ، قم فأنذر ، وربّك فكبّر ، وثيابك فطهّر ، والرّجز فاهجر ، ولا تمنن تستكثر ، ولربّك فاصبر،) (المدثر:1-7).

فالآيات الكريمة فيها معنى كنائي وتعبير عن الانتقال من مسؤولية العمل على إصلاح الذات وتهذيب النفس - حيث كان النبي (صلى الله عليه واله وسلم) يتعبد لوحده - إلى مسؤولية العمل الاجتماعي وإصلاح الأمة والفرق بينهما واسع بحيث ان الأول كالقعود مقابل القيام والآن انتهى زمن القعود والخلّو عن المسؤولية الكبيرة وحان زمن العمل.

 وفي ضوء هذه الرواية والتفسير فأن الآيات الكريمة تفيد ان اشعال الحروب والتعامل بقسوة وبطش وخلق العراقيل متوقعة ممن يخافون على مصالحهم من كل أصحاب الدعوات الرسالية وليس دعوة النبي (صلى الله عليه واله وسلم) فقط فلايصح مواجهتها بالتوقف عن العمل والانحسار والانغلاق على الذات لأن العمر أقصر من ان يضيّع بالقعود والتدثر والنفس ميّالة إلى الدعة والراحة فلابد من ملئ الحياة بالقيام والنهوض والحركة والاقدام واقتحام الصعاب وتعبئة كل الطاقات المادية والمعنوية وإبلاغ الرسالة (وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ) (البقرة:238) (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى:13) ولابد من هذا القيام لله تعالى وإن كان الشخص صالحاً في نفسه وملتزماً بالشريعة الا ان هذا لا يكفي بل عليه ممارسة الإنذار والإصلاح للمجتمع ما دام في المجتمع باطل وانحراف وفساد حيث يجب عليه تغييره والنهي عنه وهو المعنى الذي تفيده سورة العصر وغيرها. 

والسمة الواضحة لهذه الرسالة الإنذار والتخويف من عاقبة الخروج عن أوامر الله تعالى ونواهيه (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً) (مريم:97) (لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ) (القصص:46) وعدم ارسال النذر اليهم يشعرهم بالطمأنينة والراحة ونسيان الله تعالى (حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء) (الأعراف:95) فان العامة لا يصلحهم الا الخوف، روي (عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام), قَال الْمُؤْمِنُ بَيْنَ مَخَافَتَيْنِ ذَنْبٍ قَدْ مَضَى لَا يَدْرِي مَا صَنَعَ الله فِيه وعُمُرٍ قَدْ بَقِيَ لَا يَدْرِي مَا يَكْتَسِبُ فِيه مِنَ الْمَهَالِكِ فَهُوَ لَا يُصْبِحُ إِلَّا خَائِفاً ولَا يُصْلِحُه إِلَّا الْخَوْفُ)([5]) ثم تأتي البشارة بعد التخويف والإنذار.

وفي هذا الإنذار التنبيه إلى الخطر القريب في الدنيا والآخرة رحمة للناس لأن الله تعالى غني عنهم لكن شفقته على عباده أوجبت أن يواتر إليهم رسله بالإنذار ليجنبّهم المخاطر.

وتذكر الآيات التي تليها الأسس التي يرتكز عليها العاملون الرساليون الذين يسعون إلى الاصلاح في دعوتهم إلى الله تبارك وتعالى، نشير إليها باختصار:

1- (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) (المدثر:3) ان تؤمن بان الله تعالى أكبر من ان يوصف ولا يعجزه شيء وكل قوة مهما كانت عظيمة فهي أمامه أوهن من بيت العنكبوت فلا موجب للخوف من أي قوة معارضة تمتلك المال والسلطة والجيوش لأن الخوف سيؤدي إلى المداهنة والتخلي عن المبادئ وهذا يعني الهزيمة وعلى المؤمنين العاملين أن يكونوا كما وصفهم أمير المؤمنين (عليه السلام) (عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم)([6]) وعليهم أن يسقطوا من اعتبارهم كل ما دون الله تبارك وتعالى ولا يجعلوه من اهتمامهم.

2- (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) (المدثر:4) ويمكن فهمها عن ظاهرها أي تطهير الثياب وهو صحيح موافق للأحكام الشرعية أو عدم إطالة الثياب فتخطّ في الأرض كما في بعض الروايات، ولعل المراد بها المعنى الكنائي ويكون المراد من تطهير الثياب الاتصاف بالنزاهة وعفة اللسان واليد والجوارح كلها وطهارة القلب وسمو الاخلاق وحسن السيرة والالتزام بأحكام الشريعة، وجامع هذه الخصال التقوى وقد وصف القرآن الكريم التقوى باللباس قال تعالى ( وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ) (الأعراف: 26) وهذا التعبير متداول في اللغة العربية ففي خطبة الامام السجاد (عليه السلام) (أنا ابن نقيات الجيوب)([7]) وقال الشاعر في مدح أهل البيت (عليهم السلام)

مطهرون نقيات ثيابهم

 

تجري الصلاة عليهم كلما ذكروا

ويطلق اللباس على الزوجة، قال تعالى (هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ) (البقرة:187) فتكون الآية آمرة باختيار الزوجة الصالحة لأهمية دورها في حياة العاملين الرساليين من عدة جهات.

3- (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (المدثر:5) فيجب تجنب كل أشكال المعاصي والمظالم وعدم الانجرار وراء الفتن ومكائد الشيطان واهواء النفس الأمارة بالسوء وعليهم التثبت مما يقال وعدم مداهنة الظالمين والجائرين.

4- (وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ) (المدثر:6) فلا تعتد بنفسك ولا تثق بعملك ولا تمنّ به على الله تعالى ولا على الناس فان ما عندك هو من فضل الله تعالى ورحمته (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات:17) فالمن يبطل العمل ويحبطه ويعرّض صاحبه لغضب الله تعالى فيمحوا اسمه من المؤمنين، من وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر (وَإِيَّاكَ وَالْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ فَإِنَّ الْمَنَّ يُبْطِلُ الْإِحْسَانَ)([8]) فاذا تواضع لله تعالى وعرف ان ما عنده توفيق من الله تعالى وواظب على الشكر عليه أغدق الله تعالى عليه المزيد من النعم.

5- (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) (المدثر:7) لأن العمل شائك ويسير العامل في حقول من الألغام المادية والمعنوية حتى وصفت مواجهتها بالجهاد الأكبر فلابد من ان يتمسك بالصبر على الصعاب ليواصل الطريق ويثبت على خط الاستقامة وان يكون صبره في الله ولله تعالى.

إذن لنتأسى بالنبي (صلى الله عليه واله وسلم) في هذا الخطاب القرآني وننفض دثار الكسل والتردد وسائر الأمور المحبطة وننطلق في ميدان الدعوة الى الله تبارك وتعالى بالحكمة والموعظة الحسنة بعد ان نبني أنفسنا بالخصال الكريمة التي ذكرتها الآيات الشريفة.

 



([1]) روى الكلبي عن ابي عبدالله الصادق (عليه السلام) قال (قال لي: كم لمحمد اسم في القرآن؟ فقلت به اسمان أو ثلاث فقال (عليه السلام): يا كلبي له عشرة أسماء) ثم ذكر منها ما في آية المدثِّر (راجع بحار الأنوار: 16 / 101)

([2]) معجم مقاييس اللغة- ابن فارس: 2/328

([3]) حكاه السيد الطباطبائي (قدس سره) في تفسير الميزان: 2/87

([4]) الدر المنثور: 8 / 324

([5]) الكافي، ج 2، ص 71

([6]) نهج البلاغة: الخطبة 193

([7]) بحار الأنوار- المجلسي: ٤٥/١٧٤

([8]) نهج البلاغة، كتاب 53