القبس /128(يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞۖ)سورة فاطر:5

| |عدد القراءات : 374
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

(يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّ)

قال تعالى:(يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ ٥ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ لَكُمۡ عَدُوّٞ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوًّاۚ إِنَّمَا يَدۡعُواْ حِزۡبَهُۥ لِيَكُونُواْ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ) (فاطر:6)

(يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ) نداء لكل البشر وليس فقط الكافرين او الفاسقين او الذين اسلموا او الذين امنوا لان الناس كلهم معنيون بهذا النداء ومن المتعارف ان من يصيح يا أيها الناس فان الناس يلتفتون اليه ويصغون لما يقول لان مثل هذا النداء يتبعه امر مهم او تحذير من شيء خطير او نحو ذلك، فكيف اذا كان المنادي رب العزة والجلال على لسان مئة وأربعة وعشرين الف نبي ومرسل.

( إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) هذه هي القضية المنادى بها وقد تكرر ذكرها في غير موضع من كتاب الله كقوله تعالى (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (لقمان:33) وحاصلها ان ما وعدكم الله به من انتهاء حياتكم الدنيا بالموت ووجود حياة بعد الموت يكافأ فيها المحسن على أساس احسانه ويعاقب المسيء على اساءته ولكل من المثوبة والعقوبة درجات ودركات، كله حق لابد ان يقع والا كان ظلماً (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (آل عمران/182) لانه يعني مساواة الظالم والمظلوم والجلاد والضحية والمسيء والمحسن وهذا باطل وخلاف الحكمة والعدالة (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران:191) (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ)(الأنبياء:16).

وهذا الاعلان عن الوعد الحق فيه تحذير للعاصين والظالمين حتى يرتدعوا، وفيه تطمين المظلوم والمحروم بانه سيأتي اليوم الذي يعوضه الله تعالى فيه ويرد اليه الحق فيستقر ويهدأ.

ومادام الموت حق ومنكر ونكير حقاً والنشور حقاً والحساب حقاً والجنة والنار حقاً وكل ما اخبر به الأنبياء والرسل، اذن (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) فلا تخدعكم الدنيا بزينتها ومظاهرها الخلابة من مال وبنين وعشيرة وجاه وزعامة ومواقع في السلطة واي شيء اخر فأنها كلها تزول لذتها وتبقى تبعتها فالمظاهر الدنيوية التي تبعدكم عن الله تعالى عدو لكم فاحذروها وعليكم ان توظّفوا ما خولكم الله تعالى به من أمور الدنيا للفوز بالأخرة واكتساب الجنان ( الدنيا مزرعة الاخرة)([1]).

(وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) وهذا هو العدو الآخر، أنه الشيطان (الْغَرُورُ) وهي صفة مشبهة او صيغة مبالغة من الغرور أي إن التغرير بالأخرين صفته اللازمة لذاته ووظيفته التي لا يتوقف عنها، ويواجه الانسان مع هذين العدوين العدو الأول والاكبر وهي النفس الامارة بالسوء الميالة الى اللهو واللعب وارتكاب المعاصي والمليئة بالشهوات والغرائز النهمة التي لا تشبع في الحديث الشريف عن رسول الله (صلى الله عليه واله):(أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك)([2])، وكل ما يقوم به العدوان الاخران (الشيطان والدنيا) هو استثارة هذه الشهوات والغرائز وتزيينها والتعمية على العقل والفطرة بالخداع والتغرير وخلط الأوراق وتشبيه الباطل بالحق ونحو ذلك، أي انها كالعامل المساعد في علم الكيمياء الذي يساعد على التفاعل ويسرّعه كوجود النفط او البنزين على الخشبة المحترقة َ(وقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم ) (إبراهيم:22).

وتغرير الشيطان يكون من طريقين:

1-     تزيين مشتهيات النفس واهوائها كالشهوة والغضب والعصبية والحسد وغيرها وكذلك تزيين زخارف الدنيا وبهارجها بغضّ النظر عن موافقتها لما يرضي الله تبارك وتعالى وعدمها.

2-     الاغترار بحلم الله تعالى وطول اناته عن الظالمين وعفوه وكرمه فيدعوه ذلك الى تسويف التوبة والتمادي والاستمرار على المعصية، والا ما الذي يدعو العاصي الى ارتكاب المعاصي وهو يعلم انها معصية وفيها غضب الله تبارك وتعالى وسوء العاقبة في الدنيا والاخرة لولا هذا الاغترار وفي دعاء ابي حمزة الثمالي عن الامام السجاد ( إِلهِي لَمْ أَعْصِكَ حِيْنَ عَصَيْتُكَ وَأَنا بِرُبُوبِيَّتِكَ جاحِدٌ وَلا بِأَمْرِكَ مُسْتَخِفٌ وَلا لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌ وَلا لِوَعِيدِكَ مُتَهاوِنٌ، لكِنْ خَطِيئَةٌ عَرَضَتْ وَسَوَّلَتْ لِي نَفْسِي وَغَلَبَنِي هَوَايَ وَأَعانَنِي عَلَيْها شِقْوَتِي وَغَرَّنِي سِتْرُكَ المُرْخَى عَلَيَّ)([3]) وقد يستغل الشيطان حالة الاستدراج والاغراق بالنعم التي يملي بها الله تعالى العاصين ليوهمه بأنه على صواب وان الخير كل الخير هو في الاستمرار على هذا المنهج الذي هو باطل ومنحرف، مادام يجلب له هذه السعادة الموهومة فيستمر على عصيانه ويتسافل اكثر في جهنم.

وتعلل الآية التالية هذا الفعل من الشيطان وسببه (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) وقد أعلن هذا العداء منذ بدأ الخليقة حينما لعن وطرد من زمرة الملائكة عقب استكباره عن السجود لآدم، وقد شهر سلاحه ونصب فخوخه لكم بجميع الاتجاهات (قالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف:16- 17).

فعداؤه لكم دائم ودائب من حيث تتوقعون ومن حيث لا تتوقعون (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف:27) وهذا الخفاء يعقد المواجهة ويصعبّها، تصوروا ان واحد من فخوخه وخدعه وهو الشرك الخفي كالرياء يوصف خفاؤه في باطن الانسان في الحديث النبوي الشريف ( ان الشرك اخفى من دبيب النمل على صفاة- أي صخرة- سوداء في ليلة مظلمة )([4]) أذن كيف يمكن معرفة كل فخوخه وخدعه لولا لطف الله تعالى.

وامام هذا الهجوم الشرس والمستمر بكل الوسائل والخدع والمكائد فعليكم ان تقابلوه بالمثل (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) وليس من العقل والحكمة أن تغفلوا عنه وتتسامحوا مع خططه وأساليبه فضلاً عن اتباعه والانسياق وراء تسويلاته وتزيينه (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) (الكهف:50) ولعله اليوم أكثر خبرة وتقنية مما سبق وقد استطاع في أول محاولة مخادعة آدم (عليه السلام) (فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ) (الأعراف:22) فكيف اليوم وقد كثرت أدواته وتفنن فيها شياطين الانس والجن (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ، وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ، وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) (يس:60-62).

وهذا الشيطان لا يرضى من الناس إلا ان يرميهم في السعير (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ) (فاطر:6) واتباعه والحزب الجماعة الذين يوحدّهم هدف معين ولهم تأثير وفاعلية (لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) كما ان شياطين الانس ودوائر الاستكبار والماسونية لا ترضى من الناس الا ان ينحّطوا الى اخّس درجات الهمجية التي تترفع حتى الوحوش عن ممارستها بحيث يُسنّ الشذوذ الجنسي المسمى بزواج المثليين بقانون رسمي تُباركه الحكومات التي تدعي التحضّر.

اما سلاح الانسان في هذه المواجهة الشرسة والمعقدة والمفتنة على الجميع الاتجاهات فانه أولا بعد التوكل على الله تعالى وطلب العصمة والتسديد والتأييد ففي دعاء نهار شهر رمضان (اَللّـهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَاَعِذْني فيهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجيمِ وَهَمْزِهِ وَلَمْزِهِ وَنُفْثِهِ وَنُفْخِهِ وَوَسْوَسَتِهِ وَتَثْبيطِهِ وَبَطْشِه وَكَيْدِهِ وَمَكْرِهِ وَحبائِلِهِ وَخُدَعِهِ وَاَمانِيِّهِ وَغُرُورِهِ وَفِتْنَتِهِ وَشَرَكِهِ وَاَحْزَابِهِ وَاَتْباعِهِ واَشْياعِهِ وَاَوْلِيائِهِ وَشُرَكائِهِ وَجَميعِ مَكائِدِهِ)([5]).

وثانيا:الحذر والحيطة والتحفز والانتباه الى كل اشكال المكر والخداع حتى وإن اُلبست ثوب الخير والطاعة والدين والنصيحة، فان الشيطان يأتي لكل فرد أو جماعة من الجهة التي يخدعهم بها فعنده أدوات لعلماء الدين وأخرى للتجار وأخرى للسياسيين وأخرى للزعماء والوجهاء وأخرى للنساء وأخرى للشباب وهكذا مما يتطلب ذكرها الى تفصيل، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ان من وصايا الله عز وجل الى موسى بن عمران (عليه السلام) التي أوصاه بحفظها (ما دمت لا ترى الشيطان ميتاً فلا تأمن مكره)([6])، والجزء الاخر من الأمور كلها على ميزان العقل والفطرة والدين واتباع من أمر الله تعالى باتباعه.

وثالثا:كان المرحوم الشيخ جعفر الشوشتري صاحب كتاب الخصائص الحسينية (توفي سنة 1303هـ) واعظاً مؤثراً وله منبر وعظ في الصحن الحيدري الشريف يحضر عنده العلماء والفضلاء وعامة الناس، وذات يوم قال للحاضرين بلغني من مخبرين ثقات ان سراقاً تخللوا صفوفكم ليقتنصوا الفرصة ويسرقون ما في جيوبكم فأوصيكم بالحذر والانتباه، وهنا هاج الناس ولملموا ثيابهم وصاروا يراقبون كل حركة ولما سكن المجلس قال لهم:ألا تعجبون من غفلتنا وتقصيرنا إذ نهتم كل هذا الاهتمام بدرهم نخشى سرقته وهو متاع زائل ولا نكترث لنداء الله تعالى وانبيائه ورسله بأن الشيطان لكم عدو متربص بكم ويريد أن يسرق منكم دينكم وتقواكم وهو أثمن ما يجب المحافظة عليه لأنه سبب نجاتكم وفوزكم في الآخرة فكيف نغفل عنه ونسقط في تسويلاته.

 

 



([1]) غوالي اللآلي 267:1 / ح 66.

([2]) المجلسي- محمد باقر- بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة- ج67 ص36.

([3]) أنظر: مفاتيح الجنان: 240 دعاء أبي حمزة الثمالي للإمام علي ابن الحسين زين العابدين.

([4]) بحار الانوار: 72/93 ح2.

([5]) مفاتيح الجنان: 257

([6]) الخصال: 1/217.