القبس /126(قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُواْ لِلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُوٓاْ)سورة سبأ:32 - حوار يوم القيامة بين القادة واتباعهم

| |عدد القراءات : 385
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

(قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُواْ لِلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُوٓاْ)

موضوع القبس:حوار يوم القيامة بين القادة واتباعهم

حكى لنا القرآن الكريم حوارات كثيرة تجري يوم القيامة لنتأمل فيها ونأخذ العظة والعبرة من الحقائق التي تبيّنها لنا ونتخذ الإجراءات اللازمة ازاءها ولا نصطدم بتلك الحقائق يوم القيامة حيث لا توجد فرصة للمراجعة وإعادة الحسابات وإصلاح الحال.

وهذا البيان من شفقة الله تعالى على عباده ورحمته بهم وحبّه لهم والا فانه يمكنه الاكتفاء بأوامره ونواهيه ومن يخالف فانه يستحق العقوبة ولا يستطيع ان يقول لم أكن أعلم ونحو ذلك (فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) (الأنعام:149).

وتجري بعض الحوارات بين الله تبارك وتعالى وعباده، وأخرى بين أهل الجنة وأهل النار، وبعضها بين الشيطان واتباعه الذين اغراهم بتسويلاته، ومحل الحديث هنا الحوار الاتي بين الاتباع وقياداتهم وزعمائهم ورؤسائهم سواء كانوا زعماء دينيين أو اجتماعيين كرؤساء العشائر أو سياسيين أو فكريين وغير ذلك فاتبعوهم وانقادوا لهم وسلّموا لأوامرهم ونفذّوا رغباتهم واعتقدوا بوجوب طاعتهم من دون ان يتأكدوا من مطابقة هذه الأوامر للشريعة الإلهية التي أُمروا بالالتزام بها وجعلها بوصلة حياتهم (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) (النساء:65).

والحوار الآتي الوارد في سورة سبأ (الآيات 31-33) يكشف عن عمق الخيبة والخسران الذي يشعر به العصاة والمتمردون والمنحرفون عن شريعة الله تعالى فيتوجهون باللوم والتقريع الى قادتهم وزعمائهم الذين ساقوهم الى هذه النتيجة ويحملّونهم مسؤوليتها، وهو تبرير لا يجديهم نفعاً لأن قادتهم سيتبراون منهم ويلقون اللوم عليهم بأنهم اساؤوا الاختيار ولم يبذلوا الجهد الكافي للوصول الى الحقيقة والالتزام بها.

قال الله تبارك وتعالى (وَلَوْ تَرَى) أيها النبي (صلى الله عليه واله) ليتك تكون حاضراً لتشهد هذا الحوار يوم القيامة أو ترى بقلبك ما سنقصه عليك والخطاب موجه الى الجميع (إِذِ الظَّالِمُونَ) الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي والابتعاد عن المنهج الإلهي وظلموا أمتهم (مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ) محبوسون في التوقيف بأسوأ حال كالمجرمين الذين تلقي الشرطة القبض عليهم وتودعهم في مراكز الشرطة الى حين احالتهم الى القضاء والتحقيق في تهمهم، فأوقف هؤلاء الظالمون عند ربّهم ويا للفضيحة ان يحبسوا بمخالفتهم عند ربهم الذي تولى تربيتهم بالحسنى واغدق عليهم النعم وهم يعصونه ولا يستطيعون انكار شيء من افعالهم لأنه تعالى شاهد عليهم في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها.

(يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ) يؤنب بعضهم بعضاً، ويتبادلون اللوم بينهم وكل منهم يلقي الكلام الى الآخر، وكلهم ظالمون لأنفسهم لكن بعضهم كانوا قادة وزعماء استكبروا وطغوا بما عندهم وكان البعض الآخر تابعين لهم منفذين لأوامرهم، فظلمهم درجات, (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) وهم الاتباع الذين لم يكونوا ضعفاء لأن الله تعالى وهبهم العقل والقدرة على التمييز والاختيار، ولكنهم استضعفوا قدراتهم ولم يستعملوها بما ينفعهم، واستضعفهم القادة بما يملكون من أدوات القوة كالمال والسلاح والرجال وأساليب المكر والخداع والتجهيل وتسطيح العقول فساروا وراءهم من دون رؤية وتفكير وتدبّر وحكمة، فوجهوا كلامهم (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا)([1]) الذين طغوا بما آتاهم الله تعالى من أسباب القوة وعلوا في الأرض، وهم في ذاتهم ضعاف عاجزون لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يدفعون عن أنفسهم موتاً فهم مستكبرون وليسوا كباراً (لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) أنتم الذين حرمتمونا من نعمة الايمان والهداية ولولاكم لاتبّعنا طريق الهداية والصلاح.

(قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم) فالزعماء والقادة يعيدون اللوم في الانحراف على نفس الاتباع وان فرصة الهداية واتباع الحق كانت متاحة لكم بأوسع اشكالها وأيسر أسبابها إذ وصلت اليكم سهلة سمحاء على يد الأنبياء والمرسلين والائمة المعصومين (سلام الله عليهم أجمعين) والعلماء العاملين المخلصين، فيحمّلونهم مسؤولية الانحراف وارتكاب المعاصي ويذكرون لهم ان السبب كامن فيهم (بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ) فأنتم أيها الاتباع ذوو نفوس ضعيفة ميّالة الى اتباع الأهواء وتعطيل العقول ولديكم الاستعداد لتوجيهكم نحو العبودية والذل واتباع القادة المنحرفين، فالسبب موجود فيكم.

(وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) وهنا يرجع الاتباع الخطاب الى قادتهم وزعمائهم رافضين تبرئة أنفسهم من الهاوية التي اوقعوهم فيها ويذكّرونهم بدورهم في ذلك (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) فيعللون انحرافهم بأنه كان نتيجة أساليب المكر والخداع والتضليل وخلط الأوراق الذي استعمله القادة معهم (إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ) فشبّهوا عليهم وصورّوا لهم الباطل حقاً والمنكر معروفاً والمعروف منكراً، وابعدوهم عن القادة الصادقين المخلصين وشوهوا صورتهم امامهم ليبعدوهم عنهم ويحرموهم من الاستماع لصوت الحق والهدى والإخلاص والمحبة والحرية الحقيقية.

(وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً) فيعترف الاتباع ان قادتهم جعلوا لهم آلهة تعبد وتطاع من دون الله تعالى إذ صنع المستكبرون من ذواتهم وانانياتهم وشهواتهم والأفكار التي يريدون تسويقها اصناماً والهة تُقدّس وتطاع من دون الالتفات الى ما يريده الله تعالى ولو أمروهم بالمعاصي كسفك الدماء الزكية. (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ) وهنا شعر الجميع - في داخلهم من دون البوح به خجلاً وإقرار بالذم - بالندامة والاسف لما صدر منهم ولما ضيّعوا وفرّطوا في جنب الله تعالى ولم تنفعهم دنياهم التي اغترّوا بها وجعلوها غاية همّهم ومنتهى آمالهم فاكتشفوا أنها سراب والأمور بخواتيمها، فكانت عاقبتهم مؤلمة (لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ) فلم تجدِ هذه التبريرات والقاء اللوم على الآخر نفعاً في تخفيف العذاب عنهم، فالكل مجرمون آثمون وإن تفاوتوا في شدة العقوبة، (وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) فالأغلال التي جعلت في اعناقهم يوم القيامة هم صنعوها بأفعالهم وغلّوا بها عقولهم وقلوبهم ونفوسهم مثل العبودية والاستكبار والاستضعاف واتباع الهوى والانانية والجهل وعدم الانصات الى الحق وغيرها مما ذكرناه في تفسير قوله تعالى (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف:157).

إن هذا الحوار يتضمن الدعوة الى التثبت من حال القيادات والزعامات التي تتبعوها وان لا تركضوا وراء كل صيحة وتلبّوا كل دعوة كالذي يحصل اليوم حيث يتحرك الكثيرون وراء منشور في وسائل التواصل الاجتماعي ويبنون عليه مواقفهم وربما يكلفهم ذلك تضحيات بالنفس أو المال أو الجهد والوقت، أو يصدّقون نكرات مجهولين لا يُعرف لهم اصل في ادعاءات كبيرة يتخذونهم سلماً لتحقيق مآربهم ووقوداً لنيران صراعاتهم، والصحيح هو الرجوع الى العلماء الربانيين الذين أمر الائمة المعصومون (عليهم السلام) باتباعهم والسير على نهجهم لأنهم يحبّون الناس ويضحّون من أجلهم ويحرصون على صلاحهم وسعادتهم.

 



([1]) يتبجح البعض بوصف نفسه كبيراً أو الأحزاب تصف نفسها بالكبيرة ولا يعلمون ان هذا يحمّلهم مسؤولية إضافية ويحاسبون على قدر مسؤوليتهم الكبيرة التي ادّعوها وتحملّوها.