القبس /125(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ)سورة سبأ:20
(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ)
قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: [وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ] (سبأ: 20-21).
لما عصى إبليس أمر ربه تبارك وتعالى السجود لآدم (عليه السلام) وطُرِد من زمرة الملائكة وطلب من ربّه إمهاله إلى يوم القيامة [قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ] (الحجر: 36) (ص: 79) أطلق تهديداً خطيراً واستراتيجياً يستمر ما دام البشر موجودين وأقسم عليه بقوله الذي حكاه القرآن الكريم [قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ] (ص: 82-83) وفي آية أخرى [قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ] (الحجر: 39-40) وفي آية ثالثة [قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ] (الأعراف: 16-17).
وهو -لعنة الله عليه- حينما أطلق هذا التهديد لم يكن يعلم الغيب ليجزم بهذه النتيجة [وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ]، وإنّما كان يهدّد ويأمل أن يحقّق هذه النتيجة وربما أغراه تصديق آدم (عليه السلام) بقسمه [وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ] (الأعراف: 21) [وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى] (طه: 121) أو أنه سمع قول الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء] (البقرة: 30) فعلم استعداد هذا المخلوق للفساد، ولذا فقد كان يبذل وسعه لبلوغ مراده وهو غواية جميع البشر من دون استثناء إلاّ عباد الله الذين استخلصهم لنفسه؛ انتقاماً من بني آدم الذي كان الابتلاء بالسجود لأبيهم آدم سبباً لفضحه وانكشاف حقيقته الزائفة، مع أن آدم (عليه السلام) لم يكن سبباً لغوايته وإنما أردته أنانيته واستكباره، وهكذا كثير من البشر ينتقمون من آخرين لم يكونوا سبباً لما وقعوا فيه من تعاسة وإنما كانوا موضوعاً لابتلاء لم ينجحوا فيه كانتقام الظلمة من صلحاء الأمة وعلى رأسهم أهل البيت (عليهم السلام) لأنهم لم يحسنوا أداء حقوقهم (عليهم السلام).
ولعل إبليس لم يكن يظن نجاحه في هذه العملية بدرجة كبيرة وهو يعلم أنّه يُقابل حشداً إلهياً عظيماً فيه لطف رباني عميم، ورحمة واسعة كتبها الله تعالى على نفسه حتى للعاصين، وإرادة دائمة لهداية البشر وصلاحهم مع تعهده تعالى بقوله: [وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ] (الحجرات: 7)، وتواتر الحجج والبيّنات ظاهرة -وهم الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) والعلماء الربانيون- وباطنة -وهو العقل والفطرة والضمير النقي-، وأن (لا تخلو الأرض من حجّة)([1])، ومع التثبيت والربط على القلوب والتأييد، مضافاً إلى مواسم كثيرة تُغلُّ فيها الشياطين خصوصاً في شهر رمضان ورميهم بالشهب الثاقبة [إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ] (الحجر: 18)، بينما لا يملك إبليس في مواجهة هذا الحشد العظيم إلاّ الدعوة والتزيين من دون أن تكون له أي سلطة قاهرة على الإنسان [وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي] (إبراهيم: :22) لذا قال تعالى: [إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً] (النساء: 76).
لكن المفاجئة أن ظَنَّ إبليس قد تحقق وصدق، وأن البشر أعرضوا عن الاستجابة لداعي ربّهم مع كل هذه الألطاف والتأييدات المعدّة للهداية، وكفروا بكل تلك النعم، وأقرّوا عين إبليس ولم يخيّبوا ظنّه، قال تعالى: [وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ] واستعمال اللام و [قد] فيه تأكيد بعد تأكيد لهذه الحقيقة، والمراد بظنّ إبليس الذي صدقوه تهديداته السابقة، بل ما أسرع استجابتهم له بمجرّد أن دعاهم.
وتسجّل السيّدة الزهراء (عليها السلام) هذا التعجّب والاستغراب في خطبتها: (وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم فألفاكم لدعوته مستجيبين وللغرّة فيه ملاحظين، ثمّ استنهضكم فوجدكم خفافاً وأحمشكم فألفاكم غضاباً)([2])، أي وجدهم الشيطان مسارعين خفافاً للاستجابة له وترك وصيّة الله تعالى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).
بل لعله لم يكن يتوقع درجة الانحطاط التي وصلوا إليها بحيث يهجمون على دار سيدة نساء العالمين الصديقة المطهرة المعصومة البقية الوحيدة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) نبيّهم العظيم بمجرد وفاته، ويحرقون باب دارها عليها وينتزعون أرض فدك منها ويسقطون جنينها.
فهل كان إبليس يتوقع أن تصل بهم الحقارة إلى هذا الحدّ، أو أن يقتلوا سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسيد شباب أهل الجنة عطشاناً ويقطعوا رأسه الشريف ويتركوا جسده الطاهر على الأرض بلا دفن ويطأوه بحوافر الخيل؟.
وهل كان يتوقع إبليس أن يخرج الناس عراة([3]) بلا حياء في مسيرات تجوب شوارع المدن المتحضرة كما يصفون أنفسهم، أو يسنّون قوانين رسمية تبيح زواج المثليين والشذوذ الجنسي وممارسة الجنس مع الأطفال والحيوانات، وصنع قنبلة ذرية وأسلحة دمار شامل تقتل مئات آلاف الناس في لحظة؟.
وهل كان إبليس يتوقع أن ينتشر الإلحاد والكفر بالخالق العظيم بهذا الشكل وتصبح له مؤسسات ضخمة لدعمه والترويج له، وهو بنفسه ظل معترفاً بالربوبية لله تعالى ويخاطبه به كما في الآيات المتقدمة، وفي قوله تعالى: [وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ] (الأنفال: 48)؟.
إن إبليس يتعلم من هؤلاء الشياطين أساليب دمار البشرية وضلالهم وتعاستهم [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً] (الأنعام: 112).
لذا يحذّر أمير المؤمنين (عليه السلام) الناس من تصديق ظنّ إبليس بهم والاغترار بتزيين إبليس ومكره وخدعه ومن الاستجابة لدعوته، قال (عليه السلام): (فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ عَدُوَّ اللَّهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ وَأَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِنِدَائِهِ)([4]).
ولم يأخذ بهذا التحذير إلاّ القلة (إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) (سبأ: 20) وبثبات هذه القلة وإخلاصها وعملها الدؤوب حفظ الله تعالى هذا الدين وبارك في عطائهم وجعلهم مناراً للأجيال، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) (أولئك هم الأقلون عدداً والأكثرون عند الله قدراً)([5]).
أمّا أكثر الناس فقد سقطوا في فخوخ الشياطين، قال تعالى: [وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ] (يس: 62).
ولم يكتفِ منهم اللعين بالغواية في موقف أو حالة أو زمان بل إنه يستدرجهم ويتدرّج معهم بخطوات ليخدعهم ويصرفهم عن رؤية عواقب الأمور، ويظلّ يمعن في غوايتهم وإضلالهم حتّى ينزلهم أسفل سافلين، ولكي ينفذ إلى نفوسهم فإنه ينزع من قلوبهم الاطمئنان بالآخرة فيجعلهم يشكّون فيها، وعدم الإيمان بالآخرة يعني التحلّل من كلّ رادعٍ عن الفساد والانحراف والظلم والانحطاط والحيوانية، فتؤكد الآية الكريمة أن إبليس نفذ إليهم من هذه الجهة [إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ] (سبأ: 21).
وقوله تعالى: [لنعلم] ليس علماً بعد جهل، تعالى الله عن ذلك، وإنّما معناه لنظهر لهم حقائقهم وبواطنهم، حتى يعرفوا أنهم نالوا العذاب باستحقاق ولا يعترضوا لو عوقبوا بناءً على العلم الإلهي من دون إبراز لحقائق أعمالهم بأنهم لو أعطوا الفرصة لكانوا على خير.
ولكنّ الله تعالى يحذّرهم بحقيقة يجب أن ينتبهوا إليها وهي أنّه محيط بأفعالهم ونياتهم لأنّه تعالى حفيظ على كل شيء [لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ] (سبأ: 3) (يونس: 61).
وهكذا كان الناس في كلّ موقف وفي كل مفصل من مراحل التاريخ ينحازون إلى صفّ إبليس إلاّ قليل ممن عصم الله تعالى [إِلا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ] (سبأ: 20)، في تفسير القمي عن الإمام الصادق (عليه السلام) (لما أمر الله نبيّه أن ينصّب أمير المؤمنين عليه السلام للناس في قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ] في علي بغدير خم فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فجاءت الأبالسة إلى إبليس الأكبر وحثوا التراب على وجوههم، فقال لهم إبليس: ما لكم؟ قالوا: إن هذا الرجل، قد عقد اليوم عقدة لا يحلها شيء إلى يوم القيامة. فقال لهم إبليس: كلا، إنّ الذين حوله قد وعدوني فيه عِدة، فأنزل الله على رسوله([6]) [وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ] (سبأ: 20).
ويجب أن نفهم من إقرار عين إبليس باتباعه له مراتب وإذا عجز اللعين عن المرتبة الشديدة للانحطاط فإنّه يقبل بما هو أهون منها والمهم عنده الإبعاد عن رضوان الله تعالى ولو درجة وإيجاد النقص في ما يقرّب إلى الله تعالى، فلا يقتصر عمله على الغواية إلى حدّ الكفر والشرك أو إلى حد ارتكاب المعاصي من المؤمنين، بل يعمل-في حالة عجزه عن ذلك- على إيقاعهم في الوسوسة مثلاً لإشغال فكرهم وتكدير مزاجهم وإعاقة تقدمهم، أو التزيين لترك الأولى بفعل المكروه أو ترك المستحب.
روى الشيخ الطوسي في الأمالي عن الإمام الصادق (عليه السلام) إنّ إبليس كان يأتي الأنبياء من لدن آدم حتّى عيسى (صلوات الله عليهم أجمعين) ويحادثهم، وفي إحداها (قال يحيى بن زكريا عليهما السلام: فهل ظفرتَ بي ساعة قط، قال: لا، ولكن فيك خصلة تعجبني. قال يحيى: فما هي؟ قال: أنت رجل أكول، فإذا أفطرت أكلت وبَشَمَت –أي امتلأت- فيمنعك ذلك من بعض صلاتك وقيامك بالليل، قال يحيى عليه السلام: فإنّي أعطي الله عهداً أن لا أشبع من الطعام حتّى ألقاه، قال له إبليس: وأنا أعطي الله عهداً أني لا أنصح مسلماً حتّى ألقاه. ثمّ خرج فما عاد إليه بعد ذلك)([7]).
هذا مثال على صعيد الفرد، أما على صعيد الأمة –وفي نفس المستوى من الحديث- فإنّ مما يسعد إبليس اللعين ويصدّق ظنّه في الناس وينجح عمله إعراض أغلب الناس عن نصرة واتباع القيادة الحقة المرجعية الرسالية العاملة المخلصة المتأسّية بوصف أمير المؤمنين (عليه السلام) للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (طبيب دوّار بِطِبّه)([8]) ورجوعهم في المرجعية والقيادة إلى الحوزة المتقاعسة عن تحمّل مسؤولياتها اتجاه الدين والأمة مع اعترافنا بأنّها تقيم طقوس الدين، إلاّ أنّها لا تهتم بأمور الإسلام ولا المسلمين ولا تشعر بالغيرة عليهما والرحمة بهما وهذه أوصاف مأخوذة من طبيعة عملها ومنهجها الذي اختارته فلا ينبغي لها الاستياء من هذا التوصيف.
ولقد دلّت الأحاديث الشريفة على أنّ مثل هذه القيادة الربّانية العاملة أشدّ على إبليس من العابد المنقطع؛ روى معاوية بن عمّار قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجلٌ راوية لحديثكم يبُثُّ ذلك في الناس ويشدّده في قلوبكم وقلوب شيعتكم، ولعلّ عابداً من شيعتكم ليست له هذه الرواية أيّهما أفضل، قال: الراوية لحديثنا يشدُّ به قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد)([9]).
وورد في الاحتجاج وتفسير العسكري عن الإمام الهادي (عليه السلام) في منزلة هؤلاء العلماء الذين وصفهم بالقادة([10]): (لولا من يبقى بعد غيبة قائمنا (عليه السلام) من العلماء الداعين إليه والدالّين عليه والذابين عن دينه بحجج الله والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته ومن فخاخ النواصب لما بقي أحدٌ إلاّ ارتدّ عن دين الله ولكنّهم الذين يمسكون أزمّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكّانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عزّ وجل)([11])، وهذا ما تقوم به المرجعية الرسالية العاملة كما هو واضح، والأدلة كثيرة، فإنّ قولهم (عليهم السلام): (الفقهاء قادة)([12]) وأنّهم نوّاب الأئمة المعصومين (عليهم السلام) الذين هم (ساسة العباد)([13]) لا ينطبق إلاّ على المرجعية العاملة.
إنّ تصدّي الحوزة غير العاملة للمرجعية، يتسبّب في نتائج خطيرة تساعد اللعين في مشاريعه، منها:
1- تعطيل فرائض مهمة كصلاة الجمعة التي عُطّلت مئات السنين وهي عنوان عزّة الأمة وكرامتها ومصدر وعيها وتربيتها، وكفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتي وصفها الإمام الباقر (عليه السلام) بأنّها أسمى الفرائض وأشرفها وأنّها (سبيل الأنبياء ومنهاج الصُلَحاء فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب وتحلّ المكاسب وتردّ المظالم وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر)([14])، والمتابع يلاحظ كيف أن المنكر يجري على مرأى منهم فلا يغيّرونه وفيهم نزل تقريع الله تبارك وتعالى وتهديده [لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ] (المائدة: 63) وقوله تعالى: [كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ] (المائدة: 79) وقوله تعالى: [فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ] (الأعراف: 165).
2- تراجع العمل الاجتماعي للحوزة العلمية إلى حدّ الإصابة بالشلل أحياناً لأنّ كلّ مؤسسة تقوم برأسها وعقلها المدبّر، فالحوزة مرهونة بمرجعيتها وطريقة تفكيرها ومنهجها في التعاطي مع شؤون الأمة، فتجد في مرجعية الشهيدين الصدرين (قدس الله روحيهما) كيف انطلق وكلاؤهما وطلبتهما في الإصلاح الاجتماعي وإيجاد يقظة وصحوة لدى المجتمع.
3- ضعف الحالة الدينية في المجتمع وانتشار الفساد والظلم والجهل وترك الواجبات الشرعية وهي نتيجة طبيعية للعاملين أعلاه، وكشاهد على ذلك نذكر وضع المجتمع العراقي في السبعينيات قبل نهضة السيد الشهيد الصدر الأول وقبل نهضة الشهيد الصدر الثاني في التسعينيات.
4- خمول الحركة الإسلامية وتعطيل المشاريع الإسلامية عن الانتشار والتوسع والنمو والإزدهار لتخلي سدنته وحفاظه عنه بينما في عهد مرجعية الشهيدين الصدرين (قدس الله سرهما) يقدّم الإسلام كمشروع يقود الحياة ويعيد للأمة هيبتها وعزّتها وكرامتها وريادتها ويقيم الحجّة على الأنظمة الوضعية الأخرى.
5- عدم وجود من يرعى شؤون الأمة ومصالحها ومن يستمع لهموم الناس ويقضي حوائجهم ويرفع الظلم عنهم ويدافع عن حقوقهم خلافاً للعهد الذي أخذ عليهم، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كِظّةِ ظالم ولا سغب مظلوم)([15]).
6- بسبب تقوقع هذه الجهة وانكفائها على ذاتها وأنانيتها فيحصل لديها ضعف الوعي بقضايا الأمّة والظروف والملابسات المحيطة بها ونتيجته فقدان الرؤية الصحيحة لمعالجتها واتخاذ المواقف الحكيمة وفي ذلك مخالفة لتوجيهات أهل البيت (عليهم السلام) حيث ورد عنهم: (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس)([16]).
وغيرها من الأمور التي تظهر لمن يتابع حركة المرجعية في حياة الأمة وعلاقتها معها.
وتصديق الناس لظن إبليس لا يقتصر عليه فإنّ شياطين الإنس أيضاً يصدق ظنهم على هؤلاء الناس فيستجيبون لهم بشكل غريب، هذا فرعون يحكي عنه القرآن الكريم [فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ] (الزخرف: 54) أي أنّه بمجرد دعوته للناس لاتباعه والاستجابة لعبادته وجدهم يسارعون خفافاً لطاعته، لا لأهلية عند فرعون ولا لقوة ذاتية يملكها وإنّما لأنهم قوم فاسقون يسرعون إلى الباطل، وفي ذلك قال المرحوم جدّي الشيخ محمد علي اليعقوبي:
من عادة الناس للأصنام تعبدها من خسّة الناس لا من رفعة الصنمِ
مع ملاحظة أن الأصنام لا تختص بأصنام الجاهلية من الحجر والخشب بل تشمل أصناماً من البشر تقدّسها الناس وتطيعها وتجعلها مقياساً للحق، وليس الحق مقياساً لصلاحها أو فسادها.
وهذا عبيد الله بن زياد كان يتوقّع انقلاباً عليه من أهل الكوفة حينما وصل الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته لأنّه من غير المعقول أن تتخاذل الناس عن ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الإمام المعصوم الطاهر وتنصر الخبثاء أولاد الحرام، فعبّأ جيشاً يعادل ألف مرة أصحاب الحسين وأسنده بقوّاتٍ من كربلاء إلى الكوفة، لكن شيعة آل أبي سفيان)([17]) – كما وصفهم الإمام (عليه السلام- لم يخيّبوا ظنّ ابن زياد وصدّقوا عليهم ظنّه واتبعوه ونفّذوا إرادة ابن زياد بوحشية فاقت ما طلبه منهم.
ومن ذلك ما يجري اليوم من تكاثر أدعياء الزعامات والعناوين المقدّسة وكلّ منهم يصاحبه القلق في بداية دعوته لأنه يتوقع أنّ الناس ستتحقق من تأريخه وسيرته ومؤهلاته وتوفّر الشروط فيه وأنّ الأمة ستراقب حركته ليتأكدوا من مصداقيته، لكن شيئاً من ذلك لا يحدث ويصدّق هؤلاء المدّعون على الناس ظنّهم فيتخذونهم ألعوبة بأيديهم.
نسأل الله تعالى العصمة والتوفيق والتأييد (وإن خذلني نصرك عند محاربة النفس والشيطان فقد أسلمني خذلانك إلى حيث النصب والحرمان)([18]).
([1]) انظر الكافي، للشيخ الكليني: 1/ 178.
([2]) الاحتجاج، للشيخ الطبرسي: 1/ 130.
([3]) وكأن الله تعالى يحذّرهم من ذلك بقوله عز وجل: [يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا] (الأعراف: 27).
([4]) نهج البلاغة: الخطبة 192.
([5]) نهج البلاغة: قصار الكلمات: 147.
([6]) البرهان: 8/ 68، عن تفسير القمي: 2/ 201.
([7]) أمالي الطوسي: 348- 349، بحار الأنوار: 13/ 73.
([8]) نهج البلاغة: 207، خطبة رقم: 108.
([9]) أصول الكافي، ج 1، كتاب فضل العلم، باب فضل العلماء: ح 9.
([10]) أمالي الطوسي: 225، قولهم (عليهم السلام): (الفقهاء قادة).
([11]) بحار الأنوار: 2/ 6.
([12]) أمالي الطوسي: 225.
([13]) بحار الأنوار: 26/ 259.
([14]) الكافي، للشيخ الكليني: 5/ 55.
([15]) نهج البلاغة: 44، الخطبة الشقشقية.
([16]) الكافي: 1/ 27.
([17]) اللهوف في قتلى الطفوف، لابن طاووس: 71.
([18]) مفاتيح الجنان: 93، دعاء الصباح.