القبس /120(هَٰذَا خَلۡقُ ٱللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِۦۚ)سورة لقمان:11
(هَٰذَا خَلۡقُ ٱللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ)
معنى الخلق:
(هَذَا خَلْقُ اللَّهِ) اي هذه مخلوقات الله تعالى فـ (خلق) اسم مصدر بمعنى المفعول، في تفسير القمي (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ) اي مخلوق الله، لان الخلق هو الفعل، والفعل لا يُرى وانما اشار الى المخلوق، والى السماء والارض والجبال وجميع الحيوانات فأقام الفعل مقام المفعول([1]).
ماذا وجد من فقدك:
(فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ) من الآلهة والشركاء التي يدّعونها، وهذه الدعوة تتضمن عدة معانٍ:
1- تحدي المشركين والملحدين والكفار ليقدّموا ما صنعته الهتهم التي يعبدونها من دون الله، فاذا عجزوا - وهم عاجزون قطعاً حتى عن استنقاذ ما يسلبهم الذباب منه وهم يعلمون بعجزهم- فليذعنوا بألوهية الله تبارك وتعالى وليثوبوا الى رشدهم وليحترموا عقولهم، فالآية فيها تحدي وتعجيز وانتزاع للإقرار منهم.
2- اظهار حب الله لخلقه وتكريمه تعالى اياهم واحترامه لهم باعتبارهم صنعا جميلا له تبارك وتعالى حتى انه سبحانه يتباهى بهم امام الاخرين فيقول (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ) كما ان الصنّاع المبدعين يتباهون بما صنعوا امام اهل المهنة والزبائن.
3- تذكير عباده بنعمته العظيمة ومعجزاته في خلقه التي يغفلون عنها لطول الفتهم لها واعتيادهم عليها ولجهلهم او أي شيء اخر فتراهم يقفون مبهورين امام جهاز يصنعه الانسان ويتقن صنعه لكنهم يمرّون معرضين على هذا الخلق العجيب.
4- الفات نظرهم الى تجليات صفاته الحسنى في صنعه من القدرة والعلم والحكمة والعظمة والإنعام ونحو ذلك ليزدادوا معرفة بربهم (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الافَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت:53).
الذين ظلموا أنفسهم:
وهنا يأتي الحكم النهائي الذي يصدره كل عاقـل منصـف علـى مــن لــم
يُذعن بهذه الحقائق وليتوجه الى خالقه الحقيقي (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) (لقمان:11) الذين ظلموا انفسهم بعدم اتباع الحق (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان:13) رغم كل هذه الحجج الدامغة (فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) (الأنعام:149)، فعبدوا وخضعوا لآلهةٍ من دون الله تعالى سواء كانت مادية صنعوها من الحجر او الخشب او التمر او اعتبارية صنعوها من شهواتهم وحماقاتهم او صنعها الاخرون من جبابرة وطواغيت او اسواق مالية او الفن او الرياضة ونحو ذلك من الرموز التي تعبد وتُطاع من دون الله تعالى، فمن اضّل من هؤلاء، ومن هو احمق واجهل منهم (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف:179).
العلم والإيمان جناحا المعرفة:
بعد هذا العرض المختصر لما نفهمه من الآية الكريمة نقول انكم – معاشر الأطباء([2]) والمتخصصين في العلوم الطبية والعلاجية- اقدر الناس على فهم المعاني التي ذكرتُها لهذه الآية من الانبهار والتحدي بخلق الله تعالى والفات النظر الى عظيم نعم الله تعالى لأنكم وقفتم على التفاصيل المذهلة في جسم الانسان وفي كل ذرة من ذراته، ومما ينسب الى امير المؤمنين (عليه السلام) قوله:
أتحسب انك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبرٌ([3])
ويكون ايمانكم وتدينكم حينئذٍ ذا قيمة اكبر لأنه عن معرفة ووعي وبرهان.
قرأت كتاباً في فسلجة جسم الانسان صدر في اوائل سبعينيات القرن الماضي أبّان المواجهة بين الايمان والالحاد وكان عنوانه (الطب محراب الايمان) وهي اطروحة دكتوراه في هذا الاختصاص وذُهلتُ من عجائب خلق الانسان وبنفس الوقت اصابني الرعب لان اي اختلال في موازين هذه القوى والهرمونات او اداء اعضاء لوظائفها – وهي عبارة عن مصانع معقدة ضخمة- فانه يؤدي الى كارثة صحية تجعل الحياة بائسة لولا لطف الله تبارك وتعالى.
فهنيئا لكم هذه النعمة العظيمة اذ بعد تحصيلكم لهذا العلم الشريف وُفِّقتم لممارسته هذه المهنة النبيلة ذات الوزن الكبير في ميزان الاعمال الصالحة لان فيها انقاذ حياة الناس والتخفيف من آلامهم وادخال السرور عليهم وتفريج الكروب عنهم وهي من اعظم القربات الى الله تعالى وثوابها عند الله عظيم في الدنيا والاخرة مع اخلاص النية والعمل لما عند الله تبارك وتعالى.
تجارة مربحة:
هذا ولكن الامام الحسين(عليه السلام) يدلّنا على تجارة اربح من تجارتكم العظيمة هذه، وتستطيعون الجمع بينهما من خلال حديثه الآتي، قال (عليه السلام) لرجل:(ايهما احبُّ اليك، رجل يروم قتل مسكين قد ضعُف تنقذه من يده، او ناصب يريد اضلال مسكين من ضعفاء شيعتنا تفتح عليه ما يمتنع به ويفحمه ويكسره بحجج الله تعالى) قال (عليه السلام):(بل انقاذ هذا المسكين المؤمن من يد هذا الناصب، ان الله تعالى يقول َ(مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعا) (المائدة:32) اي ومن احياها وارشدها من كفرٍ الى ايمان فكأنما احيا الناس جميعا من قِبلَ ان يقتلهم بسيوف الحديد)([4]).
فهذه المعرفة وهذا الايمان الذي اكتسبتموه من مشاهدة وبرهان مع ماتضيفون اليه من معارف دينية واخلاقية وفكرية تستطيعون نقلها للآخرين فتجعلون منها وسيلة للهداية والاصلاح وتحصين اخوانكم من الانحراف فتسيرون بذلك على خُطى الانبياء والمرسلين والائمة (صلوات الله عليهم اجمعين).
ان مجتمعنا خصوصا جيل الشباب يتعرضون لهجمات متنوعة من الداخل والخارج مليئة بالشبهات والفتن والضلالات لإبعادهم عن الدين القويم والصراط المستقيم فلابد من ان تتعبوا انفسكم وتتسلحوا بالعلم والمعرفة ونشرها لتحصين شبابنا من الانحراف الفكري والاخلاقي.
تأتيني رسائل عديدة من الشباب عبر الايميل يتحدثون فيها عمّا يتعرضون له اثناء ايفادهم خارج العراق من مؤثرات وغسيل دماغ بأساليب علمية ينبهر بها المتلقي فيتبع اجنداتهم،
وهم مخادعون يعطونه نصف الحقيقة، ويوهمونهُ انها تنفي وجود الخالق او تؤدي الى عدم الحاجة الى الدين ونحو ذلك ولو اعطوا الحقيقة كاملة لوجدوها لا تنافي الدين على اقل تقدير وربما ستجدها مؤيدة للثوابت الدينية بل ان تعاليم الدين سبقت العلم الى الكثير من الحقائق التي اكتشفها لاحقاً وقد رأينا كيف صوّروا نظرية اصل الانواع او الانفجار العظيم او علم الداينتكس على انها تنفي وجود الخالق مع انها على العكس تماماً ولكن تحتاج الى اخذ المعلومة كاملة.
([1]) تفسير البرهان: 7 / 278.
([2]) تحدث سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) بهذه الكلمات مع حشد من اطباء الاختصاص واساتذة في كلية الطب والصيدلة من عدة مدن عراقية يوم السبت 14/محرم الحرام/1436 المصادف 8/11/2014.
([3]) جواهر المطالب في مناقب الإمام علي (عليه السلام)- ابن الدمشقي: 2/136,- أعيان الشيعة- السيد الأمين: 1/552
([4]) بحار الانوار: 2 / 9 ح17 عن تفسير العسكري: 348 / ح 231.