القبس /104(وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ) سورة الحج:40 - سنة التدافع
(وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ)
موضوع القبس:سنة التدافع
من السنن الإلهية:
قال تعالى:(وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة:251).
وقال تعالى:(وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج:40).
تكشف هاتان الآيتان عن سنة إلهية عظيمة وفريضة واجبة على المسلمين وهي سنة التدافع أي دفع الكفر بالإيمان، والشر بالخير، والفساد بالصلاح، والباطل بالحق، والمنكر بالمعروف، وتظهر عظمة هذه السنّة من اندراج فريضتين عظيمتين تحت عنوانها وهما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مضافاً الى الطاعات الاخرى كالدعوة الى الخير والنصيحة والارشاد والموعظة.
من وحي القرآن:
وهنا نلتفت إلى عدة أمور نستوحيها من الآيتين الكريمتين:
1- جعل هذه السنة الإلهية من منن الله تعالى وأفضاله على العالمين في الآية الاولى، رغم أن هذا التدافع يقتضي حصول تضحيات بالأرواح والأموال ومفارقة الأهل والأوطان وبذل الجهود الكبيرة لأنها حرب مستمرة ضارية، وتفسير ذلك بوجوه يأتي احدها ونذكر هنا وجهاً ذكرت الآية حاصله انه لولا هذا الدفع لامتلأت الأرض بالشر والفساد والظلم والكفر ولم تستقم فيها حياة إنسانية كريمة، ولأزيلت كل مظاهر الخير والصلاح التي أشير إليها في الآية الثانية بأسماء دور العبادة والذكر في الديانات التوحيدية.
2- مادام هذا التدافع سنة إلهية فهي ثابتة وحتمية (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) (الأحزاب:62) (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر:43) ولا يمكن التخلص من هذه المواجهة بالهروب من الواقع أو الانزواء أو غض الطرف ودفن الرأس في التراب، لأن النتيجة حينئذ ما ذكرته الآية الشريفة.
وإن هذه المواجهة مستمرة ولا تقتصر على زمان ومكان محدودين، لأنّها مرتبطة بوجود الناس على هذه الأرض وانقسامهم إلى فريق في الجنة وفريق في السعير.
3- يظهر من الآيتين أن الغرض من التدافع ومنه الجهاد بل العمل الإسلامي عموماً هو تثبيت كلمة التوحيد وحفظ شعائره ومشاعره، وإخراج الناس من عبادة العبيد وتحريرهم ليكونوا عباداً لله تبارك وتعالى ولم يُشرّع القتال والتدافع بأي نحو كان -ومنه التدافع والتنافس السياسي- طلبا لدنٌيا أو مال أو توسيع سلطة ونفوذ أو أي مغانم أخرى غير رضا الله تبارك وتعالى وإعلاء كلمته خلافاً لأهداف غير الربانيين فإنها لتلك الأهداف الدنيوية وهذا يجيب عن الإشكالات عن تشريع الجهاد في شريعة الإسلام.
ما قلناه آنفاً يدعونا إلى تصحيح مقاييس النصر والربح والنجاح في ثقافتنا:
ظنّوا بأن قتلَ الحســينَ يزيدُهم كذبوا فقــــــــد قتلَ الحسينُ يزيدا([1])
وان نرتب أولوياتنا بشكل صحيح ونعرف بماذا نضحي ومن اجل ماذا نضحي بعد معرفة الأهم والمهم، إذ يظهر من الآية أنّ الهدف الأسمى هو إعلاء ذكر الله تعالى وإقامة شريعته ويهون دون ذلك القتل والقتال والتدافع بكل أشكاله وبذل كل شيء، وليس العكس بأنّ يُجعل الدين وسيلة لكسب الدنيا.
4- وان الدفع يعني عدم إمكانية اجتماع الطرفين المتدافعين معاً كالمعروف والمنكر أو الحق والباطل بل إن كلاً منهما يسعى لإزالة الآخر واجتثاثه، فلا مجال للمداهنة ولا لأنصاف الحلول لتصادم الأحكام والتشريعات الإلهية مع القوانين الوضعية التي تخضع للأهواء والنزوات، لأنّهم لا يرضون إلاّ بمحو الدين وإلغاء هوية أهله التي عبّرت عنها الآيتان بالهدم، وقال تعالى عنهم (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ) (البقرة:120)
5- إن الله تعالى قادر على إعزاز دينه ونصرهِ بقدرته اللامحدودة فيقول للشيء كن فيكون ويقطع دابر الفساد والكفر والشر، إلا انه تعالى أبى الا ان تسير الأمور وفق أسبابها الطبيعية (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَـرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) (محمد:4)، (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) (المائدة:48)، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (الأنفال:42)، فجعل تعالى دفع الأشرار بعمل الأخيار وحركتهم المباركة مع تأييد الله تعالى وإمداده (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) (الأنفال:62)، (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ) (الحج:38) (وَلَيَنْصُـرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُـرُهُ) (الحج:40) ، فلابد إذن وفق هذه السنة الإلهية من عمل دؤوب متواصل.
وحذّرت الآيتان من التقاعس عن العمل والمرابطة في مواجهة قوى الشر والانحراف والفساد لان النتيجة تسلّط الطواغيت والفسقة وخلوّ الساحة لهم وهو ينطبق على الحديث النبوي الشريف (لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر، أو ليستعملنّ عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم)([2]) ويقوم هؤلاء الأشرار باستعباد الناس ومحو كل شعائر الدين ومشاعره وشعاراته، ورمزها ومجمعها الذي اشارت اليه الآية الشريفة المساجد فيعملون على هدمها وتخريبها.
6- إن هدم المساجد لا يقتصر على المعنى المادي أي إزالتها من وجه الأرض إذ قد يكون التخريب معنوياً - وهذا هو الأخطر- وذلك بحرمان الناس من بركاتها وتعطيل دورها الذي ذكرته الآية الشريفة بأنّه يُذكر فيها الله كثيراً وتُتلى فيها آياته ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، والمساجد هي مراكز تجمع المسلمين وتعارفهم وتحشيد قواهم ونشر الوعي بينهم وتهذيب أخلاقهم وتعليمهم الدين.
وهذا التخريب المعنوي هو ما يلجأ إليه الطواغيت والمنافقون المتستّرون بالدين فهم يعمّرون المساجد مادياً إلاّ أنّهم يفرغونها من محتواها وتأثيرها في حياة الأمة كالذي شهدناه ايام الرئيس المقبور صدام وامثاله.
وقد يكون تأثير مساجد المنافقين معادياً للدين القويم (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)(التوبة:107) وهذا شاهد على ما قلناه من كون التخريب المعنوي اخطر.
7- وبناءاً على ما قلناه من ان التخريب المعنوي هو الاخطر وانه قد يكون من المتسترين بالدين من نفس المسلمين فان سنة التدافع تجري داخل المجتمع المسلم ايضاً وليس فقط مع الاعداء الخارجيين وتكون حينئذٍ مع من يحرّف الدين ويداهن فيه ويعرقل مسيرته ويحارب المصلحين ويقف حجر عثرة في طريق الإصلاح مكتفياً بشكليات الدين ومظاهره الخارجية، كالذين واجههم أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وكانوا من العناوين الكبيرة في المجتمع المسلم، خصوصاً بعد الالتفات إلى الوصف الذي أعطته الآية للمساجد، والذي لاينطبق على اولئك المتسترين بالدين .
8- لا بدّ ان يلاحظ في آليات التدافع مناسبتها لما يستعمله العدو، لأنّه إذا لم يكن مناسباً ومكافئاً للعدو فلا يعتبر دفعاً ولا تدافعاً، فإذا كان عمل العدو وهدمه فكرياً فلابد من دحضه بفكر مثله وان كان إفساده أخلاقياً فلابد من مواجهته بحملة مثلها، وهكذا إن كان سياسياً أو إعلامياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو عسكرياً ونحو ذلك فانه يقابل بمثله.
9- إن الله تبارك وتعالى لطيف بعباده ولا يتركهم سدى فريسةً بأيدي شياطين الانس والجن بل يقيّض من عباده من ينهض بهذا الحمل الثقيل لذا نسب تعالى الدفع إليه فهو الذي يدفع الناس بالناس، وهذا المعنى من قبيل ما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال:(يحمل هذا الدين في كل قرن عُدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين)([3]) واذا تقاعس قوم عن اداء واجباتهم فان الله تعالى يوفّق غيرهم لهذه الطاعة قال تعالى (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد:38).
10- الوعد الإلهي لعباده العاملين المخلصين بالنصر وتأكيد ذلك بعدة مؤكدات في الآية، كاللام ونون التوكيد في قوله تعالى (وَلَيَنْصُرَنَّ)، نعم قد يتأخر النصر لحكمة إلهية كحماية المؤمنين من العجب او لتعريضهم لمزيد من البلاء لإنضاجهم وتأهيلهم، أو لكي يستشعروا أهمية وقيمة النصر، وقد يحقق الله تعالى النصر للمؤمنين لكن على نحو لا يفهمه الناس لاختلال القيم والمقاييس عندهم، وعلى اي حال فان هذا النصر مشروط بإخلاصهم لله تعالى وصدقهم في ما عاهدوا الله عليه، فقد وضحت الآية التالية للآية الثانية التي فيها الوعد بالنصر من ينصرهم الله تعالى بقوله سبحانه (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)(الحج:41).
11- ورد في الروايات معنى آخر للدفع يناسب قوله تعالى (وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة:251) لأنّ فيه منّة من الله تعالى، ففي رواية عن الامام الصادق (عليه السلام ) قَالَ:(إن الله يدفع بمن يصلي من شيعتنا عمن لا يصلي من شيعتنا، ولو اجتمعوا على ترك الصلاة لهلكوا، وإن الله ليدفع بمن يصوم منهم عمن لا يصوم من شيعتنا، ولو اجتمعوا على ترك الصيام لهلكوا، وإن الله يدفع بمن يزكي من شيعتنا عمن لا يزكي، ولو اجتمعوا على ترك الزكاة لهلكوا، وإن الله يدفع بمن يحج من شيعتنا عمن لا يحج منهم، ولو اجتمعوا على ترك الحج لهلكوا وهو قول الله تعالى(وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ))([4]).
12- إنّ الدفع وإن كان في المصطلح يعني مقاومة الشيء بعد وقوعه، إلا أن معناه هنا أوسع فيشمل ما يعرف بالرفع أي منع وقوع الفساد والظلم والانحراف أصلاً، بل أن العمل على النحو الثاني هو الذي يجب أن نفكر فيه ونضع خططنا له على طريقة الحكمة القائلة (الوقاية خير من العلاج) فتهيئة أسباب الصلاح والبيئة المساعدة لانتشاره وإقناع الناس به مقدَّم على انتظار وقوع المنكر ثم التفكير في كيفية إزالته ومعالجته.
وهذا مبدأ مهم سار عليه قادة الإسلام العظيم فمن قصار كلمات امير المؤمنين (عليه السلام) ( ازجر المسيء بثواب المحسن )([5]) وروي عن الامام الحسن المجتبى (عليه السلام) قوله (السداد دفع المنكر بالمعروف)([6]) فالأولى أن تكافئ المحسن وتشجّع العامل الصالح لتحفّز غيره على الإحسان وإتقان العمل ولا يبقى مجال ليفكّر بالعمل السيء وتعريض نفسه للعقوبة.
13- ولابد ان نلتفت الى ساحة اخرى للتدافع وهو الذي سماه النبي (صلى الله عليه واله وسلم) الجهاد الاكبر وهي ساحة النفس التي يتصارع فيها جنود الرحمن مع جنود الشيطان لتحسم المعركة بانتصار ارادة الخير او ارادة الشر، والاولى مؤيدة بالألطاف الالهية والبصيرة والعقل والمعرفة والعزم والحكمة، والثانية مزودة بالشهوات و الاهواء والميول النفسية.
روي في الكافي انه كان عند الامام الصادق (عليه السلام) جماعة من مواليه فجرى ذكر العقل و الجهل، فقال الامام:(عليه السلام) (اعرفوا العقل وجنده والجهل وجنده تهتدوا) قال الراوي جعلت فداك لا نعرف الا ما عرفتنا، فذكر الامام (عليه السلام) ان الله تعالى اعطى لكل منهما خمسة وسبعين جنداً وقال (عليه السلام) الخير وهو وزير العقل وجعل ضدّه الشر وهو وزير الجهل، والايمان وضده الكفر)([7]) الى اخر الحديث.
الدعوة النبوية وسنّة التدافع الخارجي:
لقد جسد النبي (صلى الله عليه واله وسلم) في رسالته الإسلامية هذه السنّة –أي سنّة التدافع- بأوضح مصاديقها وبأشكال متنوّعة فكانت دعوته (صلى الله عليه واله وسلم) من أول أمره تستند إلى عقيدتين متلازمتين هما إثبات الإلوهية لله تعالى ونفيها عمّا سواه، وكان شعار دعوته المباركة (قولوا لا إله إلا الله تُفلحوا)([8]) فلم يقتصر على القضية الأولى -أي إثبات الإلوهية لله تعالى- ما لم تنضم إليها الثانية وهي رفض الوهية غيره لتكتمل عقيدة التوحيد، وإلاّ فإنّ المشركين كانوا يقولون بوجود الله تعالى وخالقيته ورازقيته (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (العنكبوت:61) (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (العنكبوت:63) وغيرها. فالمشركون لم يعترضوا على هذا المقدار وكان بين ظهرانيهم أحناف موحّدون وأتباع الديانات السماوية لكنّهم أعلنوا العداء بضراوة والحرب على النبي (صلى الله عليه واله وسلم) لأنّه دفع عقيدتهم وألغاها.
وقد بدأ النبي (صلى الله عليه واله وسلم) التدافع بالجهر برفض تلك العقيدة الباطلة وقداستها المزيّفة التي صنعها المنتفعون بها وتلاه الإجراء الآخر وهو مباينة أهلها Pقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُO (الكافرون:1-3)، ثمّ بالاستدلال على بطلانها وردّ دعاؤهم والإجابة على إشكالاتهم.
وهكذا تدرّجت وتنوّعت آليات التدافع والمواجهة حتّى أُذن له (صلى الله عليه واله وسلم) بالقتال بعد أن مكّنه الله تعالى من زمام الأمور في المدينة المنّورة (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (الحج:39) حتى فتح الله تعالى عليه الفتوح المبينة وعمّت رسالته المباركة شرقها وغربها.
التدافع الداخلي:
هذا على صعيد التدافع الخارجي أما على مستوى التدافع الداخلي فإجراءاته مع المنافقين معلومة وهدمه وإحراقه لمسجدهم الذي اتّخذوه ضراراً وتفريقاً بين المؤمنين في الرواية الموجودة في سبب نزول الآية المذكورة.
وسار على نهجه سبطه الشهيد الإمام الحسين (عليه السلام) فأقام بخروجه المبارك هذه السنة الإلهية إذ انه لم يتقاعس ولم يذعن ولم يستسلم لبطش بني أمية وطغيانهم، ونهض بمسؤوليته وقام (عليه السلام) ليدفع المنكر والباطل، ولولا قيامه المبارك لنقض بنو أمية الإسلام عروة عروة ولتحقق المحذور الذي اشارت اليه آيتا التدافع حتى لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ومن القران إلا رسمه، وقد قطعوا شوطاً واسعاً في هذا المجال لولا ان الإمام الحسين (عليه السلام) قلب الأمور عليهم وأعاد للإسلام وجوده ومضمونه ونقاءه وحيويته:
إن كان دين محمدٍ لم يستقم |
|
إلا بقتليَ يا سيوفُ خذيني([9]) |
وقد حقق الله له (عليه السلام) وعده بالنصر فها هو ذكره المبارك يملأ الخافقين ويهدي الناس إلى الحق ويحفظ دين الإسلام عزيزاً كريماً والمسلمين مرفوعي الرأس، وأصبحت قضية الحسين (عليه السلام) من أعظم الحوادث التاريخية على الإطلاق وأعظمها انتشاراً، وها هي المسيرة المليونية في زيارة الأربعين شاهد على الكرامة والعزة والحرية والرفعة.
ايها الاحبة:
إنّ من أفضل أشكال التأسي برسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وبالإمام الحسين (عليه السلام) إحياء هذا القانون الإلهي العظيم في كل ساحاته سواء داخل كيان المجتمع المسلم أو خارجه وبالآليات المناسبة لكل مواجهة، ولا يسعنا القعود عن هذه الوظيفة المباركة وإلاّ ضاع الدين واضمحل كيان الإسلام كما نبّأت به الآية الشريفة، ومن تخلف عن هذه المواجهة لم يبلغ الفتح، كما قال الإمام الحسين (عليه السلام) في رسالته([10])، قال تعالى:(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد:38).
([1]) ديوان الوائلي للشيخ أحمد الوائلي (رحمه الله): 111
([2]) وسائل الشيعة: 16/118 ح11.
([3]) رجال الكشي: 2، وروى البرقي في المحاسن مثله وفيه (فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) (بحار الأنوار: 2/92 عن بصائر الدرجات 30/1 :، باب 6، ح 7.
([4]) البرهان : 2/ 145 نقلا عن تفسير العيّاشي1. 446/135.
([5]) نهج البلاغة، ح4، قصار الكلمات رقم 177 عن روض الاخيار/ 41.
([6]) مستدرك الوسائل: 438:12: ح:14562حلية الاولياء لابي نعيم: حديث 1462.
([7]) اصول الكافي : كِتَابُ الْعَقْلِ وَالْجَهْلِ ج1/ح14.
([8]) بحار الأنوار- المجلسي: 18/202
([9]) بيت من قصيدة للشاعرالكبير الشيخ محسن أبو الحب >ت١٣٠٥هـ<
([10]) بحار الأنوار- المجلسي: 44/330