القبس /95(وَٱصۡطَنَعۡتُكَ لِنَفۡسِي ) سورة طه:41 - الصناعة الإلهية للإنسان
(وَٱصۡطَنَعۡتُكَ لِنَفۡسِي )
موضوع القبس:الصناعة الإلهية للإنسان
أهمية الطفولة:
من المعلوم أن فترة الطفولة لدى الإنسان هي أطول من كل الكائنات الحية، وما ذلك إلا لينال التربية الكاملة والكافية التي تؤهله لممارسة دوره كخليفة لله تعالى في أرضه وليستطيع بناء كل قواه البدنية والعقلية والفكرية والنفسية حتى يتمكن من تلقي التشريف الإلهي ويبلغ سن التكليف الذي يتأخر عن السنة التاسعة عند الإناث وأكثر من ذلك عند الذكور.
ولاشك أنه كلما تتوفر للإنسان عوامل أقوى لتربيته وبنائه فإن فرصته لبلوغ الكمال والرقي أفضل وأوسع، وكلّما كان الدور المناط بالشخص والمسؤولية التي سيضطلع بها أهم وأوسع، كان نوع المربي المطلوب متصفاً بكمالات أرقى.
التربية الإلهية:
ولما كان رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) أكمــل البشـر وأفضلهـم ومعـــداً لأداء أعظـــم الرسالات الإلهية، فلم يكن هناك من هو جدير بتربيته وتأديبه، لذا تكفل الله تبارك وتعالى بذلك، قال (صلى الله عليه واله وسلم):(أدبني ربي فاحسـن تأديبـي)([1]) وعــنه (صلى الله عليه واله وسلم) (أنــا أديب الله وعلي أديبي)([2]).
وفي نهج البلاغة يصف أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه الصناعة بقوله (ولقد قرن الله به (صلى الله عليه واله وسلم) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره)([3]).
وأرّقَ تعبير وألطفه وأعظمه لهذه الفكرة هو ما ورد في القرآن الكريم في حق نبي الله تعالى وكليمه موسى (عليه السلام) ، قال تعالى:(وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (طه:39) وقال تعالى:(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسـِي ) (طه:41)،حينما يحظى الإنسان بلحظة من العناية الإلهية والألطاف الإلهية فإنها تغنيه وتكفيه، فكيف بمن يُصنع كله بعين الله تعالى ورعايته ولطفه، وليس هذا فقط بل يصطعنه لنفسه خالصاً مخلصاً ليحمل رسالته الكريمة إلى البشرية فليس له نظرٌ إلى ما سوى الله تبارك وتعالى، ولا يطمع فيه أحد من شياطين الجن والإنس، والصنع كما في المفردات (إجادة الفعل) أما الاصطناع فإنه (المبالغة في إصلاح الشيء)([4]).
نتيجة الاصطفاء الإلهي:
وكانت النتيجة أن يكون موسى (عليه السلام) مخلصاً لله تبارك وتعالى نبياً رسولاً من أولي العزم (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً) (مريم:51)، هكذا تتدخل الألطاف الإلهية في صناعة الأفذاذ المؤهلين للأدوار العظيمة، والمستحقين للمقامات السامية، ومنهم أهل البيت (عليهم السلام)، فقد أراد الله تعالى أن يكونوا معصومين مطهرين مخلصين له تبارك وتعالى، قال تعالى (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب:33) وإذا أراد الله شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، ولا رادّ لقضائه.
هل تساءل أحد كيف يمكن أن توجد مثل خديجة بنت خويلد التي لُقِّبت بالسيدة الطاهرة في ذلك المجتمع الجاهلي المملوء بالجرائم والموبقات والمفاسد التي لم يسلَم منها إلا الأندرون كجد النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وأبويه وعمه وابن عمه؟ وهل يوجد تفسير لذلك إلا الصناعة الإلهية لتلك القدّيسة الطاهرة؟.
وهكذا يجد من يراجع سير العظماء ان يداً من وراء الغيب تتولى أمرهم وتصنعهم بحب وشفقة واتقان لتعدّهم للدور الكبير الذي يراد لهم.
كيف ننال الاصطفاء الإلهي؟
والذي يهمّنا من ناحية عملية هو هل يمكن أن نحظى بهذه الألطاف الإلهية ونكون ممن يصنعهم الله تعالى على عينه ويصطنعهم لنفسه بدرجة من الدرجات؟ ومن الواضح اننا نتحدث هنا عن التربية الإلهية الخاصة، لأن العامة شاملة للجميع، فهو تبارك وتعالى (ربّ العالمين) و(مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) (هود:56).
والجواب واضح بإمكان ذلك إذ أن الله تبارك وتعالى لا بخل في ساحته –كما قيل- ولا يحتجب عــن خلقـه، إلا أن تحجبهـم الــذنوب دونــه –كما فــي الدعاء-([5]).
والسؤال الأهم في كيفية تحصيل ذلك، ويمكن ان نستفيد معنيين من نفس الآيات الشريفة.
الأول:من نفس الآية الأولى (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (طه:39) فالطريق أن تحبّ الله تعالى ويحببك الله تعالى، وقد شرحنا علامات هذا الحب المتبادل وطريقة تحصيله في قبس مفصّل([6])، وورد في كلمات الحكماء (إن الله إذا أحبّ عبداً تفقّده كما يتفقّد الصديق صديقه)([7]).
الثاني:من الآية الثانية (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى، وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (طه:40-41) فعندما يكون الإنسان ذا همّة عالية وطموح كبير للعمل في إعلاء كلمة الله تعالى ونشر علوم أهل البيت (عليهم السلام) واصلاح النفس والمجتمع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الله يستخلصه لنفسه وسيصلح شأنه ويتولاه بنفسه ويعينه على هذه الرسالة ويؤهله لأدائها.
ما يوجب الصناعة الإلهية:
ويستفاد من الروايات الشريفة ما يوجب تلك الألطاف الإلهية.
(منها) صحيحة أبان بن تغلب عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) –في حديث- (إن الله جلّ جلاله قال:ما يتقرب إلي عبدٌ من عبادي بشيء أحبُّ إليّ مما افترضت عليه، وإنه ليتقرب إليّ بالنافلة حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته)([8]).
(منها) ما في الحديث القدسي (أيما عبد اطلعتُ على قلبه فرايت الغالب عليه التمسك بذكري تولّيتُ سياسته وكنت جليسه ومحادثه وأنيسه)([9]).
وفي البحار عن إرشاد الديلمي وغيره (فمن عمل برضائي ألزمه ثلاث خصال:أعرفه شكراً لا يخالطه الجهل، وذكراً لا يخالطه النسيان، ومحبة لا يؤثر على محبتي محبة المخلوقين.
فإذا أحبّني أحببته، وأفتح عين قلبه إلى جلالي، ولا أخفي عليه خاصّة خلقي، وأناجيه في ظلم الليل ونور النهار حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين ومجالسته معهم، وأسمعه كلامي وكلام ملائكتي، وأعرّفه السر الذي سترته عن خلقي، والبسه الحياء حتى يستحي منه الخلق كلهم، ويمشي على الأرض مغفوراً له، وأجعل قلبه واعياً وبصيراً، ولا أخفي عليه شيئاً من جنة ولا نار، وأعرّفه ما يمرُّ على الناس في القيامة من الهول والشدّة، وما أحاسب به الأغنياء والفقراء والجهّال والعلماء، وأنوّمه في قبره، وأنزل عليه منكراً ونكيراً حتى يسألاه، ولا يرى غم الموت وظلمه القبر واللحد وهول المطّلع، ثم أنصب له ميزانه وأنشر ديوانه، ثم أضع كتابه في يمينه فيقرؤه منشوراً ثم لا أجعل بيني وبينه ترجماناً، فهذه صفات المحبين)([10]).
الدعاء يوصل الى الصناعة الإلهية:
ولا شك أن الدعاء وطلب معالي الأمور يوشك أن يوصل إلى ذلك فليجتهد العبد في الطلب والدعاء، من دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) في طلب مكارم الأخلاق([11]) (واصلحني بكرمك وداوني بصنعك) وورد في دعائه (عليه السلام) الذي أوله (يا من تحلّ به عقد المكاره)([12]) (وأذقني حلاوة الصنع فيما سألتُ) ومن دعائه (عليه السلام) في طلب العفو (اجعلني... وخلّصته بتوفيقك من ورطات المجرمين، فأصبح طليق عفوك من أسار سخطك، وعتيق صنعك من وثاق عدلك)([13]).
خصوصاً أنتم معاشر الشباب ما دمتم في مقتبل العمر وبداية الطريق لصناعة مستقبلكم المعنوي والمادي، فاسألوا الله تعالى أن يختاركم لأعظم الأدوار وأرقى المسؤوليات وأن يصنعكم بيده سبحانه لأدائها، وواظبوا على طلب ذلك بإخلاص ولسوف يعطيكم ربكم ذلك كما حكى سبحانه عن عباد الرحمن أن من دعائهم (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) (الفرقان:74).
([1]) البحار: ج68 ص382.
([2]) ميزان الحكمة: 1/80.
([3]) نهج البلاغة، الخطبة، 192 المسماة بالقاصعة.
([4]) المفردات: ص286.
([5]) أنظر: مصباح المتهجد- الشيخ الطوسي: ١٦٢_815
([6]) أنظر: القبس/32 {يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُۥ} (سورة المائدة:54), من نور القرآن: 1/356
([7]) مفردات الراغب ص321.
([8]) وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب اعداد الفرائض ونوافلها، باب17، ح6.
([9]) البحار: ج90 ص162، الكافي: ج2 ص352 ح8.
([10]) البحار: ج74 ص29.
([11]) مفاتيح الجنان: ص105.
([12]) السابق: ص148.
([13]) الصحيفة السجادية، من دعائه (عليه السلام) في طلب العفو والرحمة: ص170.