القبس/74{ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ كُفۡرٗا} سورة إبراهيم:28
{ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ كُفۡرٗا}
من آداب تلاوة القرآن الكريم أن نقف عند كل آية عذاب وتحذير وتخويف وتهديد لنتوقع استحقاقنا لها، وأن نقف عند كل آية وعد وترغيب وتكريم ونعيم لنرجو أن نكون مشمولين بها، ولا نتصور أننا في مأمن ومنأى من آيات التخويف والتهديد، ورد في وصف سيرة الإمام الرضا (عليه السلام) إنه كان (يكثر بالليل في فراشه من تلاوة القرآن فإذا مرّ بآية فيها ذكر جنة أو نار بكى وسأل الله الجنة وتعوّذ من النار)([1]) وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في صفة الذين يتلونه حق تلاوته قال (عليه السلام) (ويرجون وعده ويخشون عذابه)([2]) ولنأخذ ذلك مثلاً قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} (إبراهيم:28).
يتصور أكثر الناس أن النعمة هي المال والحياة المرفّهة، وهذا لا شك مصداق مهم للنعمة لكن مصاديقها أوسع من ذلك بكثير مما لا يلتفت إليه أغلب الناس، عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قال (الصحة والفراغ نعمتان مكفورتان) وعنه (صلى الله عليه واله وسلم) (نِعمتان مكفورتان:الأمن والعافية) وعنه (صلى الله عليه واله وسلم) (نعمتان مفتون فيهما كثير من الناس:الفراغ والصحة).([3])
وكل نعمة من هذه النعم تتحلل إلى ما لا يعد ولا يحصى من النعم، قال تعالى {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} (النحل:18) وقد شرحنا في بعض خطبنا السابقة أمثلة على ذلك، ولكن الإنسان يغفل عنها غالباً، عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال (كم من مُنعَم عليه وهو لا يعلم) ولا يحسّ بقيمتها إلا إذا فقدها لا سامح الله، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:(من كان في النعمة جهل قدر البليّة) وعن الإمام الحسن (عليه السلام) قال (تجهل النعم ما أقامت، فإذا ولّت عُرفت)، وإن كان في غنى عن الوصول إلى هذه المرحلة، إذ يكفي تذكرها والالتفات إليها أو تخيّل أضدادها لمعرفة قيمتها، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (إنما يُعرف قدر النعم بمقاساة ضدّها).
نعمة الإيمان بالله ورسوله وولاية أهل البيت عليهم السلام:
ولابد أن نلتفت إلى أن الأهم من النعم المادية المذكورة النعم المعنويـة، عـن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:(إن من النعم سعة المال، وأفضل من سعة المال صحة البدن، وأفضل من صحة البدن تقوى القلب) وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال (لا نعمة كالعافية، ولا عافية كمساعدة التوفيق).
ومن النعم المعنوية اجتماع الكلمة على الإيمان بالله تعالى وبرسوله وولاية أهل البيت (عليهم السلام) كما ورد في تفسير قوله تعالى {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} (آل عمران:103) قالت الصدّيقة الزهراء (عليها السلام) في خطبتها([4])(فأنقذكم الله بأبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم)) وروى العياشي في تفسيره قال:كان أبو عبد الله (عليه السلام) إذا ذكر النبي (صلى الله عليه واله وسلم) قال:(بأبي وأمّي ونفسي وقومي وعترتي عجبٌ للعرب كيف لا تحملنا على رؤوسها والله يقول في كتابه (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها) فبرسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) والله أنقذوا)([5]) ما ورد عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) في تفسير قوله تعالى {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (لقمان:20) (أما ما ظهر فالإسلام وما سوّى الله من خلقك، وما أفاض عليك من الرزق، وأما ما بطن فستر مساوئ عملك ولم يفضحك به)([6])، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) (النعمة الظاهرة النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وما جاء به النبي من معرفة الله عز وجل وتوحيده، وأما النعمة الباطنة ولايتنا أهل البيت وعقدُ مودتنا)وعن الإمام الصادق (عليه السلام) (ما أنعم الله على عبد أجلّ من أن لا يكون في قلبه مع الله عز وجل غيره) ([7]) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) (إن من النعمة تعذّر المعاصي) ([8])، وعن الإمام الكاظم (عليه السلام) (النعمة الظاهرة الإمـام الظاهر، والباطنة الإمام الغائب) ([9]).
وبعد الاطلاع على سعة النعمة وتنوعها وأهميتها ينفتح السؤال عن كيفية الحفاظ عليها وإدامتها لأنها معرضة للزوال - والعياذ بالله - فلابد من الحذر، عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قال (أحسنوا مجاورة النعم، لا تملّوها ولا تنفرّوها، فإنها قلما نفرت من قوم فعادت إليهم) ([10]) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (أحسنوا صحبة النعم قبل فراقها، فإنها تزول وتشهد على صاحبها بما عمل فيها)([11]).
والذي يوجب بقاء النعمة ودوامها ويمنع من نفورها شكر النعمة، والذي يوجب نفور النعمة وزوالها كفر النعمة، وهما معنيان متضادان يعرف معنى كل منهما بعكس معنى الآخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ( أحسن الناس حالا في النعم من استدام حاضرها بالشكر وارتجع فائتها بالصبر) ([12]) وعنه (عليه السلام) (إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر) ([13]) وعن الإمام الصادق (عليه السلام) (لا تدوم النعم إلاّ بثلاث:معرفة بما يلزم لله سبحانه فيها، وأداء شكرها، والتعب فيها) ([14]) وعن الإمام الهادي (عليه السلام) (القوا النعم بحسن مجاورتها والتمسوا الزيادة فيها بالشكر عليها)([15]).
إن كفر النعمة وما يقابله من شكرها له معانٍ وأشكال عديدة:
1- عدم استعمالها في طاعة الله تعالى كما مرّ في الأحاديث الشريفة التي وصفت الفراغ والصحة والأمن بأنّها نعم مكفورة لأنّها لم تُستثمر في طاعة الله تعالى، والأسوأ أن تستخدم في معاصيه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام):(أقل ما يلزمكم لله ألاّ تستعينوا بنعمه على معاصيه)([16]) وعنه (عليه السلام) قال (استتموا نِعم الله عليكم بالصبر على طاعته، والمجانبة لمعصيته)([17]).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) (إن أردت أن يُختم بخير عملك حتى تُقبض وأنت في أفضل الأعمال فعظّم لله حقّه أن لا تبذل نعماءه في معاصيه)([18]).
2- عدم أداء حقوق النعمة كمن لا يؤدي ما بذمته من الحقوق الشرعية أو يهمل أداء فريضة الحج وهو مستطيع أو لا يصوم شهر رمضان وهو قادر وهكذا، وفي ذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام) (اضرب بطرفك حيث شئت من الناس، فهل تبصر إلاّ فقيراً يكابد فقراً، أو غنيّاً بدّل نعمة الله كفراً، أو بخيلاً اتّخذ البخل بحقّ الله وفرا)([19]) ومحل الشاهد تطبيق الإمام الآية بالنص على من لم يؤدي حقوق الله تعالى في أمواله، وعنه (عليه السلام) قال:(يا أيّها الناس:إنّ لله في كلّ نعمة حقّاً، فمن أدّاهُ زاده، ومن قصّر عنه خاطر بزوال النعمة وتعجّل العقوبة، فليراكم الله من النعمة وجلين كما يراكم من الذنوب فرقين)([20]) ويشرحها الإمام الرضا (عليه السلام) بقوله:(إنّ صاحب النعمة على خطر، إنه يجب عليه حقوق الله فيها، واللهِ إنّه لتكون عليَّ النعم من الله عزّ وجل فما أزال منها على وجل- وحرّك يده - حتّى أخرج من الحقوق التي تجب لله عليّ فيها)([21]).
فكلّ نعمة تستوجب حقّاً، الوالدان نعمة ولهم حقوق، والمرجعية المخلصة العاملة نعمة ولها حقوق، والجاه والموقع نعمة وعلى صاحبه حقوق، عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال:(استعمال العدل والإحسان مؤذن بدوام النعم)([22])، وهكذا.
ومن كفر النعمة التقصير باستعمال ما أنعم الله تعالى عليه في خدمة الناس وقضاء حوائجهم وإدخال السرور عليهم، عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قال (إن لله عباداً اختصهم بالنعم يُقرّها فيهم ما بذلوها للناس فإذا منعوها حوّلها منهم إلى غيرهم)([23]) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (من كثرت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه، فمن قام لله فيها بما يجب فيها عرّضها للدوام والبقاء، ومن لم يقم فيها بما يجب عرّضها للزوال والفناء)([24]).
فالذي يمكّنه الله تعالى في الأرض ويضع تحت تصرفه موارد الدولة والشعب وهو يسخّرها لمصالحه الشخصية والحزبية فهو ممن بدّل نعمة الله كفراً، والذي يستعمل الوسائل العلمية الحديثة التي أنعم الله تعالى بها على عباده في غير مرضاة الله فهو ممن بدّل نعمة الله كفرا وهكذا.
3- عدم التحديث بها ونشرها قال تعالى {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى:11) روي عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قوله (إنّ الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده)([25]) وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال (إذا أنعم الله على عبده بنعمة فظهرت عليه سُمّي حبيب الله محدثاً بنعمة الله، وإذا أنعم الله على عبدٍ بنعمة فلم تظهر عليه سُمي بغيض الله مكذّباً بنعمة الله) فاعتباره مكذّباً بنعمة الله مبغوضاً عند الله تعالى لأنّه لم يحدّث بنعمة الله ولم يظهرها، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال:(إنّي لأكره للرجل أن يكون عليه نعمة من الله فلا يظهرها).
وإنّ أعظم النعم على الإطلاق الإسلام كما دلّت عليه الروايات الشريفة عن الإمام الحسين (عليه السلام) في قوله تعالى {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى:11) قال (عليه السلام) (أمره أن يحدّث بما أنعم الله به عليه في دينه)، وتمام هذه النعمة التي كمُل بها الإسلام نعمة ولاية أهل البيت (عليهم السلام) بدلالة النصوص القرآنية ومنها الآية الشريفة التي نزلت في واقعة الغدير وتنصيب أمير المؤمنين (عليه السلام) إماماً وهادياً للأمة وخليفة لرسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) فنزل قوله تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (المائدة:3) وما ورد في تفسير قوله تعالى {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } (التكاثر:8) من حديث الإمام الصادق (عليه السلام) مع أبي حنيفة قال:(نحنُ - أهل البيت- النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين وبنا ألّف الله بين قلوبهم وجعلهم اخواناً بعد أن كانوا أعداءاً وبنا هداهم الله إلى الإسلام وهي النعمة التي لا تنقطع، والله سائلهم عن حقّ النعيم الذي أنعم الله به عليهم وهو النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وعترته)([26]) فأهل البيت ليسوا نعمة فقط بل نعمة باقية ثابتة مقيمة فتكون كثيرة مباركة لذا وصفهم بالنعيم.
ومن مجموع هذه المقدمات نصل إلى نتيجة:أن أوضح مصاديق تبديل نعمة الله كفراً هم الذين لم يؤمنوا بالإسلام وأشركوا بالله تعالى وأنكروا نبوة الرسول محمد (صلى الله عليه واله وسلم).
الإعراض عن ولاية أهل البيت (عليهم السلام):
وممن تنطبق عليهم الآية كلّ من أعرض عن ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) ولم يلتزم بوصية النبي (صلى الله عليه واله وسلم) فضلاً عمّن ظلم أهل البيت (D) ونصب لهم العداوة والبغضاء فهو ممن بدّل نعمة الله كفراً.
وهذه النتيجة مذكورة نصّاً في القرآن الكريم بلفظ الانقلاب الذي هو معنى آخر لتبديل النعمة كفراً قال تعالى {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران:144) فالألفاظ المستعملة نفسها وهي الانقلاب المرادف للتبديل والشكر المقابل للكفر.
ووردت في ذلك روايات عديدة ففي الكافي بسنده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:(ما بال أقوام غيّروا سنّة رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وعدلوا عن وصيّه لا يتخوّفون أن ينزل بهم العذاب) ثمّ تلا هذه الآية {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ، جهنّم يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} (إبراهيم:28-29) ثمّ قال (نحن النعمة التي أنعم الله بها على عباده، وبنا يفوز من فاز)([27]).
وعلينا أن نتذكر أن من كفر النعمة عدم إظهارها والتحديث بها وعدم القيام بحقوقها كما دلّت عليه الروايات المتقدّمة، فمن قصّر في إظهار نعمة ولاية أهل البيت (عليهم السلام) ولم يتحرّك لإقناع الناس بها بأيّ وسيلة خصوصاً مع توسّع وسائل تبادل المعلومات ونقلها، أو لم يحفظ حرمة أهل البيت (عليهم السلام) في سلوكه وصفاته فهو ممّن لم يشكر هذه النعمة وربّما انطبقت عليه الآية بمعنى من المعاني.
فليتفقّه كلّ شيعة أهل البيت (عليهم السلام) في دينهم وليطلعوا على سيرة أهل البيت (عليهم السلام) ومناقبهم وفضائلهم ومحاسن كلامهم ليوصلوها إلى البشرية جمعاء إذا أردنا أن نكون من الشاكرين على هذه النعمة، وحتى نكون صادقين مع الله تعالى ومع أنفسنا حينما نتبادل التهاني والتبريكات في مثل هذه الأيام ونحمد الله تعالى على التشرّف بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) ومباهلة النبي (صلى الله عليه واله وسلم) ونزول سورة هل أتى والتصدّق بالخاتم وغيرها من المناقب الكثيرة.
وعلينا أن نُحيي أمر أهل البيت (عليهم السلام) خصوصاً الشعائر الفاطمية والحسينية شكراً لله تعالى على نعمة مودّتهم وولايتهم وقد كثرت الروايات عنهم (عليهم السلام) أنّهم هم النعمة التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم وبهم يفوز من فاز، وقد مرّ في الأحاديث الشريفة أن شكر النعمة يتحقق بإظهارها والتحدّث بها.