القبس/71 (إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ) سورة الرعد:11 - التغيير يبدأ من داخل الانسان والمجتمع
(إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ)
موضوع القبس:التغيير يبدأ من داخل الانسان والمجتمع
يؤصِّل هذا المقطع من الآية الكريمة لقاعدة أساسية في التغيير على صعيد الفرد والمجتمع، بأنه يبدأ من داخل النفس ومن داخل المجتمع ولا يكفي فيه وجود العوامل الخارجية، والتغيير مطلق سواء كان ايجابياً نحو الأفضل أو تغييراً سلبياً نحو الأسوأ، فلا يصلح حال الأمة ويتحسن الا اذا حافظت على سلامة مسيرتها ونواياها وعالجت نقائصها ونقاط ضعفها وتردّيها ولا تنتظر التغيير من الخارج فانه حتى لو حصل فانه لا يحقق النتائج المرجّوة اذا لم يقترن بالتغيير الداخلي([1]).
وهكذا على صعيد الفرد فانه ما لم يمتلك الإرادة والعزيمة والمقدمات الصالحة فان ألف واعظ ومرشد ومصلح لا ينفعه في شيء.
هذا في اتجاه التكامل والرقي، وكذا في اتجاه الانحطاط والتسافل فانه لا يحلّ به الشقاء وتزول عنه النعم التي كان يرفل بها من الصحة والأمان والغنى والسعادة وغير ذلك الا بعد ان يضعف هو من الداخل وتتغير أهدافه ونواياه وافكاره، قال تعالى {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ} (الأعراف:96).
وهناك آية أخرى أشارت إلى جانب التغيير نحو الشقاء والتعاسة وزوال النعم فقط، قال تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال:53) هذا مع ملاحظة ان الله تعالى {يَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (المائدة:15) ولا يؤاخذ الناس بكل ما كسبوا كما هو واضح من ختام الآية المباركة.
في الحديث القدسي الذي يروى عن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قال (يقول الله وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي ما من أهل قرية ولا أهل بيت ولا رجل ببادية كانوا على ما كرهته من معصيتي ثم تحوّلوا إلى ما أحببت من طاعتي الا تحولّت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبّون من رحمتي، وما من أهل بيت ولا قرية ولا رجل ببادية كانوا على ما احببت من طاعتي ثم تحولّوا منها إلى ما كرهت من معصيتي الا تحولت لهم عمّا يحبون من رحمتي إلى ما يكرهون من غضبي) ([2]).
ان الآية تقرّر أيضا مبدءاً إنسانياً مهماً وهو احترام إرادة الانسان وحريته في تقرير مصيره وجعله محور التغيير مهما كانت العوامل الخارجية مؤثرة فاذا اساء الاختيار - كما لو لم يمنح صوته لمن يستحق في الانتخابات - فلا يلوم الا نفسه لان النتيجة المؤلمة التي وصل اليها كانت مقدماتها بيده وله القدرة على تغيير النتائج والتأثير فيها، ولم يقع شيء اعتباطاً أو مصادفة ونحو ذلك فلا يحاول الفرد أو الأمة ان تبرّر تعاستها وشقاءها بعوامل خارجية وسوء الحظ وتغفل عن دورها فيه.
وحينما ندعوا الله تبارك وتعالى (اللهم غيّر سوء حالنا بحسن حالك) ([3]) فلابد ان نلتفت إلى هذه الحقيقة فان الالطاف الإلهية الخاصة لها أسباب أُمِر الناس بالسعي لتحصيلها (إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا له) ([4]).
وقد ورد في بعض الاحاديث الشريفة ان ثلاثة لا يستجاب دعائهم لان الله سبحانه وتعالى جعل المخرج بأيديهم فلم يستفيدوا منه، فقد ورد عن الامام الصادق (عليه السلام) في الثلاثة الذين يرد دعائهم عليهم قال (رجل رزقه الله عز وجل مالاً فأنفقه في وجوهه ثم قال:يا رب ارزقني فيقول الله عز وجل اولم ارزقك، ورجل دعى على امرأته وهو ظالم لها فيقال له:ألم اجعل امرها بيدك، ورجل جلس في بيته وترك الطلب ثم يقول:يا رب ارزقني فيقول الله عز وجل ألم أجعل لك السبيل إلى الطلب للرزق) ([5]) وقلت في حديث سابق ([6]) ان الحديث يمكن ان يشمل حالات اخرى كثيرة كمطالبة الشعب بتخليصهم من السياسة الجائرة لبعض الحكام وهم من مكنوّهم من رقابهم في الانتخابات وكانت عندهم فرصة تغيرهم لو احسنوا الاختيار.
وان اقوى عاملين مؤثرين في إحداث عملية التغيير في الفرد والمجتمع هما القيادات الدينية والسياسية كما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه واله (صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل:يا رسول الله، ومن هما؟ قال (صلى الله عليه واله وسلم):الفقهاء والأمراء)([7]).
وقد شرحنا في مناسبة سابقة كيفية هذا التأثير وتقّدم تأثير القيادة الدينية على السياسية ([8])، والواقع والتجربة يثبتان ذلك، وعلينا نحن الحوزة العلمية بكافة تشكيلاتها - علماء وفضلاء وخطباء وأئمة جماعة وجمعات - ان نشكر الله تعالى على التوفيق للكون بهذا الموقع الذي بيده فرص واسعة للدعوة إلى الله تعالى وإصلاح الناس، علينا ان نعي مسؤولياتنا وخطورة دورنا ونسعى للقيام به على أحسنه بإذن الله تعالى.
([1]) ومثال ذلك ما حصل في العراق عندما أطاحت جيوش الاحتلال الأمريكي بنظام صدام المقبور عام 2003 والتداعيات الخطيرة التي حصلت بعده.
([2]) الدر المنثور:4/48
([3]) من الادعية اليومية في شهر رمضان المبارك
([4]) كنز العمال:21324 ، 21325.
(3) الخصال للصدوق:123، باب الثلاثة، ح208.
([6]) خطاب المرحلة:ج5 ص 391 ، رقم الخطاب 198 ، بعنوان الشعب غير معذور إذا لم يختر الكفوئين المخلصيـن
([7]) الخصال:32، باب الاثنين:ح 12
([8]) راجع مقدمة كتاب (المعالم المستقبلية للحوزة العلمية )