القبس/69(قُلۡ هَٰذِهِ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ ) سورة يوسف:108 - البصيرة بوصلة السلوك الإنساني
(قُلۡ هَٰذِهِ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ)
موضوع القبس:البصيرة بوصلة السلوك الإنساني
تبّين الآية واحدة من وظائف الأنبياء والرسل والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) ومن تبعهم وحمل رسالتهم من العلماء العاملين الرساليين، وهي الدعوة الى الله تبارك وتعالى قولاً وفعلاً وعرض المشروع الإلهي على الناس واقناعهم به وهدايتهم.
وتبّين الآية ايضاً واحدة من مميزات هؤلاء القادة وخصائصهم التي تميزّهم عن غيرهم من الزعامات وتُعرِّف الأمة كيف يفرزون قياداتهم الحقة عن طلاب الدنيا ولو بأسم الدين.
وهذه الخصوصية هي الصراحة والشفافية مع الأمة (هَـذِهِ سَبِيلِي) وامتلاك الرؤية الثاقبة والنظر الدقيق ووضوح الأهداف وآليات العمل لديه المعبّر عنها في الآية بـ (البصيرة) وهي البوصلة التي ترسم المسار الصحيح للإنسان في كل حركاته وسكناته، وهذه البصيرة من الله تعالى والى الله تعالى، وما دام على بصيرة من ربّه فلا تخبّط في مسيرته ولا تناقض في أهدافه ولا تحرّكه الشهوات والانفعالات ولا تؤثر عليه هتافات الناس ولا تزويق المتزلفين ولا تخدعه المكـائد والحيل وهذا لا يُدرك إلا بلطف الله تعالى.
والبصر والبصيرة أصلهما واحد وهي النظر والرؤية المدركة المنتجة للعلم والمعرفة وليست كل رؤية ونظر قال تعالى {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} (الأعراف :198) فهم كالحيوانات لها عيون تنظر بها لكنها لا تفيدها علماً ولا معرفة، عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) قال (ليس الاعمى من يعمى بصره، إنما الاعمى من تعمى بصيرته)([1]).
وكم من حالة او موقف ينظر اليه كثيرون لكن القليل ممن ينظر اليه بفكر واعتبار وتأمل { وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} (الأعراف:179) وإن كانت مفتوحة وينظرون بها الى الأشياء، وإنما يستفيد مما حوله في الحياة من كان له بصرٌ وبصيرة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ} (آل عمران:13) وليس لكل من لديه عين ينظر بها، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (بالاستبصار يحصُلُ الاعتبار)([2]).
والفرق بين البصر والبصيرة ان الأول بالعين والثانية بالقلب والعقل فقوله تعالى (عَلَى بَصِيرَةٍ) أي على حجة بينةٍ واضحةٍ من ربي {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَـذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:203).
واضافة (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) اليه (صلى الله عليه واله وسلم) تشريف لهم بالحاق دعوتهم بدعوته المباركة، وأعلى مراتب البصيرة التامة ما عند المعصومين (عليهم السلام) لذا فأنهم القدر المتيقن من قوله تعالى {وَمَنِ اتَّبَعَنِي} وفي أصول الكافي بسنده عن أبي جعفر (عليه السلام) في تفسير هذه الآية قال:(ذاك رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) والاوصياء (عليهم السلام) من بعدهما)([3]).
فهؤلاء القمم من أهل البصائر هم من يجب اتباعهم والأخذ عنهم {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (يونس:35).
ثم تتفاوت مراتب البصيرة عند اتباعهم (صلوات الله عليهم أجمعين) في حمل الرسالة المباركة والدعوة الى الله تعالى بحسب درجة تقواهم وقربهم من الله تعالى وبحسب نقاوة فطرتهم وسلامة عقولهم وتفكيرهم وطهارة نفوسهم وقلوبهم {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} (القيامة:14)، فهذه باختصار المقتضيات الذاتية أي من نفس الانسان لتحصيل البصيرة وتهيئة الانسان نفسه لها وهي (التقوى، طاعة الله تعالى، نقاء الفطرة، سلامة العقل والفكر، طهارة النفس والقلب).
وخير وسيلة لتحصيل البصيرة التدبر في القرآن الكريم ومعرفة آياته، وقد وصف الله تعالى كتابه الكريم بهذا، قال تعالى {قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} (الأنعام:104) وقال تعالى {هَـذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:203) وقال تعالى {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ} (الجاثية:20) وقال تعالى {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (القصص:43)،وروي عن أميـر المؤمنيـن (عليه السلام) قوله (بالهدى يكثُرُ الاستبصار)([4]).
ومن أهم وسائل تنوير البصيرة مراقبة النفس وإصلاح عيوبها وأخطائها، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (أبصر الناس من أبصر عيوبه وأقلع عن ذنوبه)([5])، وعنه (عليه السلام) قال (ألا وإنّ أبصر الأبصار ما نفذ في الخير في طرفُه، ألا إنّ أسمع الأسماع ما وعى التّذكير و قَبِلَه)([6]).
ومن موجبات البصيرة الاستفادة من المواعظ والعبر وتذكّر أيام الله تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (القصص:43).
لذا لا نستغرب ممن فقد هذه الأدوات لتحصيل البصيرة وتنويرها أن يضلَّ بنفس القرآن الكريم الذي هو زادُ المستبصرين، ويستعمل القرآن نفسه لإضلال الناس وصرفهم عن اهل البصيرة، روي في الدر المنثور في تفسير قوله تعالى {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ} (الأعراف:202) بسنده عن عمر بن الخطاب قال:كنا عند رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) مجتمعين وأنا أعرف الحزن في وجهه فقال:إنا لله وإنا إليه راجعون! قلت:يا رسول الله! إنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا قال ربنا؟ قال:أتاني جبريل آنفاً فقال:إنا لله وإنا إليه راجعون، قلت:أجل، إنا لله وإنا إليه راجعون، فمم ذاك يا جبريل؟ قال:إن أمتك مفتنة بعدك بقليل من الدهر غير كثير، فقلت:فتنة كفر أو فتنة ضلالة؟ قال:كل ذلك سيكون، قلت:ومن أين يأتيهم ذلك وأنا تارك فيهم كتاب الله؟ قال:بكتاب الله يضلون، وأول ذلك من قبل قرائهم وأمرائهم، يمنع الأمراء الناس حقوقهم فلا يعطونها فيقتتلون ويتبع القراء أهواء الأمراء فيمدون في الغي ثم لا يقصرون، قلت:يا جبريل؟ فبم سلم من سلم منهم؟ قال:بالكف والصبر، إن أعطوا الذي لهم أخذوه وإن منعوه تركوه)([7]).
لقد عانى النبي (صلى الله عليه واله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) من فقدان البصيرة لدى أكثر الناس {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف:103) وابتلي أمير المؤمنين (عليه السلام) بحرب أناس يحوطون بالجمل ويتبركون بخروجه ويشمونه ويقولون ما أطيب ريح روث جمل أمّنا أم المؤمنين، وابتلي (عليه السلام) بقتال اناس في صفين لا يفرقّون بين الناقة والجمل ويصدّقون كل شيء يقال لهم وان علياً لا يصلي، ومثل هؤلاء الاقوام من فاقدي البصيرة موجودون في كل زمان ومكان يُبتلى بهم القادة المصلحون ويكونون عقبة كؤود في طريقهم.
ولذا كان الأئمة (عليهم السلام) يشكون من ندرة أهل البصيرة في اتباعهم، ففي الحديث المعروف لأمير المؤمنين (عليه السلام) مع كميل (يَا كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ إِنَّ هَذِهِ اَلْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا) الى أن قال (عليه السلام) (إن ههنا لعلماً جماً - وأشار إلى صدره - لم أصب له خزنة([8]) بلى أصيب لقنا غير مأمون، مستعملا آلة الدين في طلب الدنيا، يستظهر بحجج الله على أوليائه وبنعم الله على معاصيه أو منقادا لحملة الحق لا بصيرة له في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، اللهم لا ذا ولا ذاك، أو منهوما باللذة سلس القياد للشهوة، أو مغرما بالجمع والادخار ليسا من رعاة الدين ولا من ذوي البصائر واليقين)([9]).
إن أوضح ما يمّيز الاتباع الحقيقيين للنبي (صلى الله عليه واله وسلم) وآله الكرام (عليهم السلام) أنهم على بصيرة من امرهم ومنهم أبو الفضل العباس بن أمير المؤمنين (عليه السلام) فمما خاطبه به الامام الصادق (عليه السلام) في زيارة وارث المعروفة قوله (وأنك مضيت على بصيرة من امرك مقتدياً بالصالحين ومتبعاً للنبيين)([10]) وهكذا كان أصحاب ابي عبد الله (عليه السلام) المستشهدين بين يديه يشهد بذلك العدو قبل الصديق، فقد روى أصحاب التواريخ والمقاتل انه لما كثرت المبارزة بين أصحاب الامام الحسين (عليه السلام) وجيش يزيد وكان النصر لأصحاب ابي عبد الله، صاح عمرو بن الحجاج الزبيدي (يا حمقى أتدرون من تقاتلون؟ فرسان المصر وأهل البصائر وقوماً مستميتين لا يبرزَّن لهم منكم أحدٌ، والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم)([11]).
وهكذا إذا كنّا صادقين في موالاتنا للإمام الحسين (عليه اللام) ونصرتنا له (ونصرتي لكم معدّة)([12]) (يا ليتنا كنا معكم)([13]) وصادقين في انتظار امامنا المهدي الموعود (عليه السلام) والمشاركة في بناء دولته المباركة فعلينا أن نستزيد من البصيرة في علاقتنا مع ربنا، وهذا ما ورد في أدعية الغيبة وتعجيل الظهور، وفي احدها (وارزقنا مرافقة اوليائك ووليك الهادي المهدي الى الهدى وتحت لوائه وفي زمرته شهداء صادقين على بصيرة من دينك إنك على كل شيء قدير)([14]).
فقدان البصيرة سمة المجتمع غير الإيماني:
يستفاد من القرآن الكريم أن من سمات المجتمع البعيد عن التربية الإيمانية هو فقدان البصيرة والقدرة على تمييز الحق من الباطل، وانقلاب موازين النظر عنده في الأمور كلها.
ولنأخذ مثالاً على ذلك حيث نجد المجتمع الجاهلي البعيد عن النظرة الإلهية يعيش لدنياه ويراها غاية أمله فيصارع من أجل الاستزادة منها {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} (الجاثية:24).
لكن المجتمع الرباني يعتقد بوجود الآخرة ويعمل لها لأنها الحياة الباقية، ويرى الحياة الدنيا مزرعة، قال تعالى {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت:64).
والمورد الآخر اغترارهم بما عندهم من قوة وإمكانيات ماديّة هائلة فيظنون أنهم الرب الأعلى المدبّر لأمور الناس {وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} (الشعراء:44).
أما المنطق الرباني فيؤكد حقيقة {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (المنافقون:8) و {إَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً} (البقرة:165) ويصف أولئك المغرورين بأنّهم {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت:41).
التحذير من فقدان البصيرة:
وقد حذّر رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) أمته من الرجوع إلى هذه الحالة بعد أن أنقذهم الله تعالى بالإسلام، ووقوعهم مرة ثانية في فتنة فقدان البصيرة وإنقلاب موازين النظر في الأمور واعتبرها (صلى الله عليه واله وسلم) الحالة الأشد خطورة من وقوع المنكر والفساد نفسه، ففي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال:(قال النبي (صلى الله عليه واله وسلم):كيف بكم إذا فسدت نساءكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ فقيل له:ويكون ذلك يا رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)؟ فقال:نعم وشرُّ من ذلك كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له يا رسول الله ويكون ذلك؟ قال:نعم وشرُّ من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً).([15])
تصحيح المفاهيم المقلوبة:
وقد وقعت الأمة في هذه الفتنة بعد رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وبلغت ذروتها في عهد يزيد بن معاوية، ولهذا كان من الأدوار المهمّة التي أدّتها ربيبة القرآن والنبوّة والإمامة العقيلة زينب (÷) هي إعادة الأمة إلى وعيها وبصريتها، وتصحيح موازين النظر عندها، ولنأخذ مثالاً على ذلك جانباً من خطابها، فقد كان يزيد وابن زياد وأزلامهم يعتقدون أنّهم هم المنتصرون فأخذتهم سكرة الغلبة ونشوتها كما وصفتهم العقيلة زينب (فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والأمور متّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا)([16]).
وتصبح مشكلة المفاهيم المقلوبة أخطر حينما تُستغل لخداع الناس وتُجعل دليلاً على شرعية حكم أولئك الطواغيت وسلطتهم، وهذا ما نبّهت إليه العقيلة زينب (صلوات الله عليها) (أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نُساق كما تُساق الإماء أنّ بنا على الله هوناً وبك عليه كرامة!! وأنّ ذلك لعظيم خطرك عنده، فمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله عز وجل {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (آل عمران:178) )([17]).
السيدة زينب (÷) تبين من هو المنتصر الحقيقي:
فهي (سلام الله عليها) لم تكتفِ بالإدلاء بحقيقة أنّ هذا ملكنا وسلطاننا خاصة ونحن أحقّ بالأمر من هذا الظالم المدّعي، ولكن فضحت هذه الأساليب لخداع الناس وأيقظتهم بأنّ هؤلاء المتسلّطين ليسوا هم أصحاب الحق، ولا يزال إلى اليوم من يموّه على الناس ويكتسب شرعيته من كثرة الأتباع وشهرة العنوان وإغداق الأموال لفرض الأمر الواقع وإقناعهم بأنّ سلطته شرعية وإبعاد الحق عن أهله.
فتواجه العقيلة زينب الطاغية يزيد بالحقيقة الدامغة وبيان المنتصر الحقيقي (فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحونَّ ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترخص عنك عارها. وهل رأيُك إلاّ فند، وجمعك إلاّ بدد، يوم ينادي المنادي:ألا لعنة الله على الظالمين فالحمد لله الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة)([18]).
ووقفت نفس الموقف في الكوفة أمام الطاغية عبيد الله بن زياد حينما قال شامتاً:(الحمدُ لله الذي فضحكم وقتلكم وأبطل أحدوثتكم).
فتصدت له بشجاعة وبلاغة أخذتهما من أبيها أمير المؤمنين (عليه السلام) قائلة:(الحمدُ لله الذي أكرمنا بنبيّه، وطهّرنا من الرجس تطهيرا، إنما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا يا بن مرجانة).
وحاول أن يغطي فشله وهزيمته بمزيد من الشماتة قائلاً:(كيف رأيتِ صنع الله بأخيكِ) فأجابت (سلام الله عليها):(ما رأيتُ إلاّ جميلاً، هؤلاء قومٌ كتب الله عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاجَّ وتخاصم، فانظر لمن الفلح يومئذٍ، ثكلتك أمّك يا بن مرجانة) ([19]).
هكذا أعادت العقيلة زينب الأمور إلى نصابها وبيّنت من هو المنتصر الحقيقي وهزمت هؤلاء الطواغيت وجيوشهم الجرّارة التي غلبت بالسيف لكنّها هُزِمت بالبيان والحجة الدامغة فقلبت أفراحهم أحزاناً.
علينا أن نستفيد من الدرس الزينبي:
وعلينا نحن أن نستفيد من هذا الدرس الزينبي ونُصحِّح جملة من المفاهيم والرؤى والنظريات التي أُريد بها خداع الناس وتسييرهم بالاتجاه الذي يريده أصحاب تلك الأجندات الهدّامة، ولنأخذ على ذلك مثالاً من عالم المرأة ممّا حاولوا به خداعها ودفعوها إلى ما يريدون من الانحلال والفساد ومزاحمة الرجال وترك وظيفتها الأساسية في بناء الأسرة الصالحة وتنشئة الجيل الصالح وهو شعار (المساواة).
أبواق المساواة بين الرجل والمرأة:
فهل المساواة مطلب عقلائي؟ وتعبير آخر هل إن المساواة حق دائماً؟ والجواب هو النفي، نعم إذا كان المطلوب مساواة الرجل والمرأة بالاستحقاق والجزاء فهذا حق وقد كفله الشارع المقدّس {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} (آل عمران:195) {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات:13) سواء كان ذكراً أو أنثى.
فلسفة التمايز بين الرجل والمرأة:
أما إذا أرادوا بالمساواة مماثلة المرأة للرجل في الوظائف والأعمال التي يؤديانها فهذا مطلبٌ غير عقلائي، بل فيه ظلمٌ للمرأة، لأن طبيعة خلقها وفسيولوجيتها وسايكولوجيتها تنسجم مع وظائف غير ما كُلّف به الرجل، فالمساواة هنا من الظلم وليس من العدالة، ومثله كمثل الطبيب الذي يعطي نوعاً واحداً من الدواء إلى مرضى متنوعين، وكالمدرّس الذي يعطي درجة واحدة لكل طلبته في الامتحان مع تفاوت إجاباتهم، وهذا هو الظلم بعينه والمطلوب تحقيق العدالة وهي قد تقتضي المساواة وقد لا تقتضي المساواة بحسب الموارد وهذا ما كفلته الشريعة المقدسة، فلو أعطينا للولد ميراثاً بقدر البنت لكان ظلماً، لأن الرجل هو الذي يصرف على المرأة ويكفل لها كل احتياجاتها فهي تشاركه في حصته، ولا يشاركها في حصتها فكيف يتساويان في الاستحقاق.
فهذه المراعاة لتكوين كل من الرجل والمرأة وطبيعة وظائفهما مما تقتضيه الفطرة، وجرت عليه سيرة العقلاء، ويشهد به الواقع وخذ نماذج عشوائية من تركيبة مجتمعات الغرب المدعيّة للتحضّر وانظر هذه المراعاة، كتشكيلة الحكومة أو عدد الطيارين أو عدد قادة الوحدات العسكرية وقيادات الجيش وانظر نسبة النساء إلى الرجال ستجدها ضئيلة فأين المساواة التي يريدون تسويقها إلينا؟
مصطلح سن اليأس:
وبهذه المناسبة نشير إلى مصطلح متداول يخصّ المرأة وهو ((سنّ اليأس)) الذي يراد به عمر الخمسين للمرأة وتُسمى المرأة باليائس، وهو قد يكون له منشأ صحيح حيث يحصل فيه اليأس من الإنجاب لانقطاع الدورة الشهرية، إلاّ أنّ هذا العنوان اُخذ على إطلاقه وكأنّه سن اليأس من الحياة، مما ولّد شعوراً عندها بالإحباط وفقدان الأمل وأنّها أصبحت لا قيمة لها وانتهى دورها في الحياة وأحيلت على التقاعد كما يُقال، فتعتريها أعراض نفسية وعصبية قد تفاقم المشكلة عليها، وهذه الأعراض ليس لها أصلٌ فسيولوجي أو عضوي كما يشهد به الأطباء، أي أن بلوغ المرأة هذا العمر لا يصاحبه أي تغيير في جسمها يقتضي هذه الأعراض، وإنما هي نتائج صنعتها المرأة بنفسها بسبب ذلك الشعـور الـذي غـذاهُ المصطلح البائس.
فالأليق أن يُسمى هذا العمر للمرأة (سن الكمال والنضج وتمام الرشد) لاكتمال تجربة المرأة في الحياة بعد أن تكون قد ربّت جيلاً كاملاً وتعلّمت الكثير، وهو سن التفرغ لنفسها ولآخرتها ولزوجها بعد أن انتهت من وظائف الحمل والإنجاب والتربية، وشبّ أبناؤها وبناتها فهم يعينونها على قضاء حوائجها فهذا العمر فرصة مثمرة لكي يجتمع الزوجان من جديد على حياة زوجية يتفرغان لبعضهما ويلتفتان لآخرتهما وينشغلان لما يقرّبهما إلى الله تعالى من الطاعات والقربات مما لم تكن مشاغلهما السابقة تسمح لهما بها، كالسفر لأداء الحج والعمرة وزيارة المعصومين (صلوات الله عليهم) والصلاة المستحبة والصوم وقضاء ما فات ومطالعة الكتب، والمساهمة في الأعمال الخيرية والتبليغ الديني والوعظ والإرشاد وغيرها من فرص الكمال.
([1]) كنز العمال:1220.
([2]) غرر الحكم/4351.
([3]) البرهان في تفسير القرآن:5/178.
([4]) غرر الحكم:4816.
([5]) غرر الحكم:3061.
([6]) نهج البلاغة:الخطبة/105.
([7]) الدر المنثور للسيوطي:3/633.
([8]) من هنا يصنّف (عليه السلام) أنواع الناس الى أربعة أصناف غير جديرين بحمل علمه (عليه السلام).
([9]) نهج البلاغة (من كلامه (عليه السلام) لكميل بن زياد).
([10]) مفاتيح الجنان: 511.
([11]) مقتل الحسين (عليه السلام) للخوارزمي:2/15.
([12]) مفاتيح الجنان: 544-501
([13]) مفاتيح الجنان: 544-501
([14]) البحار :98/302 عن اقبال الاعمال والبلد الأمين والتهذيب.
([15]) وسائل الشيعة، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب1 ح12.
([16]) الاحتجاج:ج2 ص123، والبحار:ج45 ص157.
([17]) الاحتجاج:ج2 ص123، والبحار:ج45 ص157.
([18]) انظر:الاحتجاج:ج2 ص123، والبحار:ج45 ص157.
([19]) المصدر السابق.